الشعور بالثورة على الواقع القائم في لبنان بات سائداً لدى الجميع، إن من الثوريين أو التقليديين الطائفيين والعلمانيين على السواء، بعدما وصلت الأمور إلى الهاوية وإلى حضيض اقتصادي اجتماعي خطر للغاية، سيؤثر حكماً على خيارات وطنية واستراتيجية تحكم مستقبل البلد. أشهر مرّت على احتفالية لبنان بمئوية إعلان لبنان الكبير على درج قصر الصنوبر، لذا يمكن استناداً إلى ذلك إجراء قراءة نقدية لهذا الواقع والبناء عليها دون الحاجة إلى الغوص بما سبق من مراحل، يزعم البعض أنها مراحل تأسيسية، لهذا الكيان.يكفي هذا التأسيس وشكله وطبيعته لإعطاء صورة واضحة عن دور المرجعيات الطائفية ومن معها من بورجوازيي ذلك الزمن وإرادة المستعمر. منذ عام 1920، كان واضحاً أن ضم الأقضية الأربعة إلى المتصرفية لتصبح جزءاً من لبنان الكبير، هدفه إشباع أبنائه من سهول عكار والبقاع وإيجاد واجهة بحرية له من خلال مرفأي بيروت وطرابلس وتسمح له بجعل لبنان مركز تجاري مهم على المتوسط وبيروت عاصمة له، وبالتالي خلق توازن سكاني طائفي جديد، بدل أن يكون درزياً – مسيحياً في المتصرفية أصبح مسيحياً – إسلامياً.
تحت وطأة هذا التوازن صيغ الدستور اللبناني عام 1926 ومنه انبثق مجلس نيابي ومجلس شيوخ في حرص كبير على حقوق الطوائف، وبالتالي ضمناً تعزيز الطائفية. الجديد بالذكر، أن كل الأطراف التي ضُمّت إلى لبنان الكبير شهدت تحركات بما يشبه الثورات آنذاك، مرة رفضاً لفك ارتباطهم بسوريا وضمهم إلى لبنان، وأخرى تحركات للشأن المطلبي، إن من عشائر بعلبك – الهرمل التي اعتبرت أن حقوقها السياسية مهضومة، وستبقى مهضومة أبد الدهر (وكأنها استشرفت واقع اليوم). لم يكن الواقع الاقتصادي الاجتماعي السيئ بعيداً عن التأثير على السكان بمختلف مذاهبهم، ما أدى إلى إضرابات في مختلف القطاعات ومظاهرات سلمية حيناً وصاخبة أحياناً. وتُجمع تقارير المفوضية العليا في بيروت والمرفوعة إلى باريس (الدولة المنتدبة والوصية آنذاك)، على تحميل رجال السياسة اللبنانيين مسؤولية الهدر والفساد في ميزانية الدولة وتوزيع المغانم على الأتباع (أسوة باليوم).
إشارة لا بد منها إلى أحداث جرت في بيروت وطرابلس وزحلة وصيدا آنذاك، تنازعتها أيضاً مشاعر الانفصال عن سوريا والإهمال والفقر الذي أصاب المواطنين نتيجة التمييز وحرمان بعض المناطق الإسلامية، متهمين فيها الحكومة اللبنانية بتكريس مبالغ طائلة لمشاريع إنمائية لتحسين الحالة الاقتصادية في مناطق دون غيرها من المناطق الملحقة. إذاً لم يكن الماضي بعيداً عن الواقع الحالي في المصاعب الاقتصادية والسياسية الجمّة التي سببها الارتهان السياسي والتحاصص الطائفي والفساد. وفي دلالة على حجم الارتهان المكشوف يكفي سماع مديح لأميل اده من قِبل أحد رجال الدين عندما خاطبه بالقول: «أحببت لبنان، يا فخامة الرئيس وأحببت فرنسا، هذا هو مبدأك وعملت للبنان ولفرنسا...».
إن تكريس سياسة الانتداب الطائفية لم تمكّن الكيان من تخطّي سياسة العثملي «فرق تسد» التي زرعها في النفوس، فكان الارتياب سيد الموقف بين المسلمين والمسيحيين الذي استمر بالتعبير عن نفسه حتى عند دخول جيوش الحلفاء إلى لبنان وسعي المسلمين بقيادتهم السياسية إلى التفتيش عن مساندة مواجهةً للدعم الفرنسي للمسيحيين وقد برز ذلك في التقرير الذي أعده رياض الصلح للضابط البريطاني، مشتكياً أنه منذ عشرين عاماً أي منذ ولادة لبنان الكبير، «ما زال المسلمون يعانون من التمييز المنهجي الذي فرضته سلطات الانتداب الفرنسي».
وجاء استقلال لبنان عام 1943، واستمر التنازع الطائفي على البلد واستمرت أذرع الدول تمزّق النسيج الاجتماعي، تحت عنوان «الميثاق الوطني» الذي كان عبارة عن رباط يجمع الطوائف نسجته إرادة المنتدبَين الفرنسي والإنكليزي، وتُرك للبنانيين أن يفرحوا بشعار لبنان ذي الوجه العربي ولغته العربية دون أن ينقطع عن الروابط مع الغرب، حسبما أعلن بشارة الخوري. لقد ظل هذا الميثاق في موقع الجدل والأخذ والرد حتى عندما حصلت أحداث 1958، ضد نظام كميل شمعون ومشروع أيزنهاور وحلف بغداد. وأيضاً عند نشوب الحرب الأهلية عام 1975 تحت عنوان الوجود الفلسطيني المسلح، وصولاً إلى كل الجولات الحربية الداخلية التي حصلت بين الأطراف المسلحة والتي انتهت كلها إلى إقرار اتفاق الطائف بناء على مساعِ سعودية – سورية وبغطاء أميركي، قانون كرس الطائفية من جديد في النظام السياسي وباتت الطائفية نصاً في الدستور بعدما كانت عرفاً، كما أدى إلى تعزيز صلاحيات مجلس الوزراء في مواجهة تعديل صلاحيات رئاسة الجمهورية.
عبر مقارنة كل هذه المحطات مع ما يجري اليوم يمكن أن نلحظ تغيراً لم يحصل، بل مزيداً من الارتهان أدى ولا يزال، إلى مزيد من التدخلات الخارجية السياسية والعسكرية وصولاً إلى العامل الإسرائيلي المتربص بكل المنطقة ويهدد لبنان ووجوده الموحد ودوره رغم كل الانتصارات التي صنعتها مقاومته.
لم يكن هذا النظام السياسي الطائفي المرتهن والمستند دوماً إلى الخارج بعيداً عن محاولات تغيير رغبت به القوى الشعبية والحزبية الشابة الرافضة لشكل هذا النظام الطائفي المرتهن، فكان هناك عدا الحروب والاضطرابات، ثورتان وانقلابان قام بهما الحزب السوري القومي الاجتماعي، الأولى على يد مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده عام 1949، الذي أدرك بوعيه وبعد نظره أن استمرار هذا الكيان بالشكل القائم وباستناده إلى التوزيع الطائفي للسلطة سيصل حتماً إلى الانهيار وإلى حرب أهلية مدمّرة.
أبرز ما نصّت عليه بنود ثورته تلك، هو إلغاء الطائفية من خلال فصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون السياسة والقضاء القوميين، إزالة الحواجز بين الطوائف، دون إغفال التركيز على الشأن الاجتماعي والاقتصادي، لبناء الدولة عبر إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج، وتخطيط سياسة اقتصادية وقيام نهضة صناعية وزراعية، وتطهير الدولة من الفساد، مشدّداً على أهمية إنشاء جيش قوي لتعزيز قوة لبنان بمواجهة الغاصبين، وكانت دولة الاحتلال الإسرائيلي حديثة النشوء. لكن ما انتهت إليه الثورة تلك، كان صادماً، إذ تواطأت قوى الرجعية والارتهان في الكيانين اللبناني والسوري على أنطون سعاده واعتقلته واغتالته دون محكمة وبأقل من أربع وعشرين ساعة، واعتقلت مساعديه وأعدمت بعضهم استناداً إلى صيغة القانون اللبناني الطائفي، أي 6 و6 مكرر. لقد فعل النظام السياسي اللبناني الذي يدّعي أنه نظام يكفل الحرية السياسية، كما يفعل أعتى الأنظمة التوليتارية والديكتاتورية في العالم.
لم تكن الحرب الأهليّة اللبنانيّة بعيدة عن المسألة الاجتماعيّة، إذ كان للاحزاب الوطنية مشروعها الاصلاحي من خلال «البرنامج المرحلي» للحركة الوطنية


لم يطُل الوقت أكثر من عقد ونيف، حتى جاءت الثورة الثانية والانقلاب الثاني، الذي لم تبتعد بنوده عن مضامين بنود الثورة الأولى، من إلغاء الطائفية وبناء الروح الديمقراطية وضمان الحريات السياسية وتحصين القضاء عن كلّ تدخل سياسي وإلغاء الإقطاع وتعزيز الاهتمام بالشأن الاقتصادي للشعب من خلال تأمين المسكن والطبابة والتعليم وضمان العجز والشيخوخة. لكنها انتهت كسابقتها باعتقال قيادة الحزب القومي وضباط الجيش المشاركين فيها، وأدت إلى حلّ الحزب واعتبار كل أعضائه فارّين من وجه العدالة، وتركت القوى السياسية، السلطة العسكرية الشهابية، تفعل فيهم ما شاءته من تفظيع وتعذيب وقتل بدم بارد. وعندما انتهت محكومية السجناء، بعد نحو سبع سنوات، بناء على عفو شارل حلو، وخرجوا إلى الحرية في أوائل السبعينات، كانت بوادر الحرب الأهلية قد بدأت تطلّ برأسها على هذا النظام، نتيجة العجز عن أي إصلاح.
لم تكن تلك الحرب، رغم إصرار البعض على اعتبارها حرب الآخرين على أرضنا، بعيدة عن تحسّس الظروف الاجتماعية والاقتصادية، فكان للأحزاب الوطنية برنامجها الإصلاحي من خلال البرنامج المرحلي للحركة الوطنية، الذي اعتبر أن الطائفية علّة العلل ودعا إلى دستور يلغي الطائفية السياسية وإلى قانون انتخابي يجعل من لبنان دائرة انتخابية واحدة، تنبثق عنه سلطة جديدة، لكن تداعيات الحرب وتداخل الظروف الإقليمية والدولية، جعلت حساب الحقل لا يساوي حساب البيدر، وأدى السياق العام من التداخلات السياسية الإقليمية إلى تعزيز الطائفية في الدستور وجعلها صاعقاً معدّاً للتفجير دوماً. وهكذا إلى الطائف دُر، إلى الجمهورية الثانية، انتقل الشعب اللبناني وتحولت الطائفية إلى إحدى ركائز الدستور، وإلى تخبّط من جديد في مستنقع الطائفية القاتلة لأحلام الشباب بمستقبل نيّر وبلاد ترعى طموحاتهم.
أمام واقع اليوم والشباب الثائر، لبنان يغلي والانهيار يزداد وتداعياته كذلك، لا يسعنا سوى السؤال أي ثورة نريد؟ إذا شئنا ثورة لتعزيز المحاصصة الطائفية لطرف دون آخر وتعزيز مكاسب فريق دون آخر، فإن الواقع يؤكد أن لا حياة لهذا الكيان على صيغته السابقة، وليس بمقدوره بعد الآن أن يبقى مصرف الشرق وانهياره المالي مجلجل، ولا مرفأ الشرق ومرفأه مدمر، ولا مستشفى أو جامعة الشرق نظراً للتداعيات الاقتصادية القاسية التي سببها ارتهان وفساد سياسييه. لا مكان بعد اليوم إلا لدولة مدنية تلغي الطائفية وتصوغ دستور المساواة لأبناء الوطن الواحد، دولة تعيد الاعتبار للإنسان. إن وطن ميشال شيحا ودستوره الذي يدأب البعض على التغني به، ورغم كل التعديلات عليه لم يعُد يعبّر عن تطلعات الشباب، وبات الاستحقاق القادم هو استعادة الوطن ليكون لكل مواطنيه، وليبنى على أسس سليمة ليكون فعلاً منارة الشرق ونطاق ضمان للفكر الحر، واضحاً في انتمائه لمحيطه دون الارتهان لمصالح الخارج ومطامعه.
إن ثورة يغني فيها كل على ليلاه دون برنامج وطني موحّد لن تصل بنا سوى إلى الفوضى غير المحسوبة النتائج، أي إلى حرب أهلية جديدة تشبه الحروب السابقة، ولنا من التاريخ عبره.

* كاتبة لبنانيّة

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا