تمرّ في هذه الأيّام الذّكرى الـ 150 لكومونة العمال التي أقيمت في باريس، وكانت نموذجاً ثوريّاً متقدّماً استمر لمدة 72 يوماً فقط بين مارس/ آذار ومايو/ أيار 1871 قبل أن تسحقها قوات البرجوازية الفرنسيّة المتآمرة مع جيش المحتل البروسيّ بوحشيّة مذهلة.كانت باريس قد حوصرت لأربعة أشهر وسقطت في أيدي القوات البروسيّة بعد هزيمة مذلّة لحقت بالجيش الفرنسي خلال الحرب الفرنسية البروسية الشهيرة باسم الحرب السبعينية (19 يوليو/تموز 1870 إلى 10 مايو/ أيار 1871)، لتطلق الطبقة العاملة في المدينة انتفاضة مسلّحة في 18 مارس/ آذار 1871 تولّت إدارة المدينة فيما اعتُبرت أوّل ثورة اشتراكيّة في العصر الحديث، ما لبثت وأُعلنت رسميّاً عن قيامها سلطة بديلة من الحكم البرجوازي المهزوم في 26 مارس/ آذار.
أصابت الكومونة البرجوازية الفرنسية بالهلع، فتداعت إلى تنظيم ما تبقّى من قوات نظاميّة، وتوافق ممثلوها مع المحتل البروسي على إطلاق قطاعات الجيش الفرنسي المحتجزة، فجمعوا ما لا يقل عن 130 ألف جندي مدجّجين بأحدث المدافع والأسلحة، زحفوا على العاصمة فقصفوها بالمدافع الثقيلة بلا رحمة قبل أن تجتاح دفاعات الكومونة المتواضعة في أواخر مايو/ أيار 1871. قام جنود الجيش الفرنسيّ بمذبحة وحشية هدفت إلى تطهير باريس من راديكاليتها لأجيال قادمة. قُتل أكثر من 30 ألفاً من سكان المدينة أُعدم معظمهم بدم بارد، مع تعمّد قتل النساء تحديداً اللواتي كنّ لعبن أدواراً بطوليّة في إدارة المدينة والدّفاع عنها. ولاحقاً أُرسل أكثر من 10 آلاف من الأسرى إلى السجون، أو أُبعدوا كمجرمين جنائيين إلى المستعمرات الفرنسيّة ما وراء البحار.

«كومونة باريس» ملصق من تصميم شارل كاستيلياني (ّ1838-1913).

وقتها لم يُخف أدولف ثيرز، رئيس الحكومة الفرنسية العميلة التي ورثت الإمبراطوريّة المهشّمة واتخذت من فرساي مقراً لها، حبوره من إنهاء حالة الكومونة: «الأرض في باريس مغطاة بالجثث. هذا المشهد الفظيع سيكون بمثابة درس لا يُنسى».
باريس شهدت دائماً انتفاضات عمّاليّة، ولكنّ الكومونة كانت شيئاً مختلفاً. لقد قرر العمّال هذه المرّة تولي إدارة المدينة بأنفسهم. وبينما استلهم العديد من قادتها المُثُل النبيلة للثورة الفرنسية الأولى، فإن القوة الدافعة الحقيقية للكومونة كانت تحديداً الطبقة العاملة التي أصبحت منظمةً ويساريّة على نحو متزايد وطالما ناضلت ضدّ تعسّف السلطات الإمبراطوريّة، ودُفعت إلى أقصى حدود التحمل البشري بعدما تضخّم عدد سكان أحيائها المهمّشة بسبب تدفق العمال المهاجرين من الأرياف للسكنى فيها، والظروف الاقتصادية العامّة المترديّة.
بعد مغامرة نابليون الثالث العسكرية الفاشلة ضد بروسيا استسلمت الطبقة البرجوازية الحاكمة لجيش الاحتلال البروسيّ المندفع في عمق الأراضي الفرنسيّة في يناير/ كانون الثاني 1871، في الوقت الذي فرضت فيه الحكومة المتخاذلة تدابير اقتصادية عقابية ضد الفقراء الباريسيين كما لو أنهم هم المتسببون بالهزيمة الشنعاء. لكنّ الشرارة التي أطلقت كل شيء فقد كانت قرار أدولف ثيرز، رئيس الوزراء، مصادرة مدافع الميليشيا الباريسيّة (الحرس الوطني). الحرس تولى مهمّة الدّفاع عن العاصمة خلال فترة الحصار وأغلب منسوبيها من متطوعي الطبقة العاملة درّبهم على عجل جنود فرنسيون يساريو الهوى. تلك المدافع تحديداً اشتراها العمّال باشتراكات دفعوها من أجورهم المتواضعة، وللكثيرين كانت مصدر اعتزاز ورمزٍ لانخراطهم في الدّفاع عن مدينتهم في وجه الغزاة. وقد أدّت تلك الخطوة الاستفزازية التي اتخذها ثيرز صباح يوم 18 مارس/آذار إلى تمرد عفوي ما لبث أن اتّسع، قبل أن يعلن الثائرون عن قيام الكومونة بعد ذلك بأيّام قليلة.
ولكن لِمَ وجدت النخبة البرجوازية الفرنسيّة في الكومونة الوطنيّة النبيلة تهديداً وجوديّاً لدرجة التفاهم مع المحتل البروسيّ ضدّها؟
لقد مثلت سلطة الكومونة الطبقة العاملة المنظمة، وشرعت بالحكم لمصلحة الأكثريّة. وفي فترة حياتها الوجيزة، أصدرت بلدية المدينة تشريعات إصلاحيّة اشتراكيّة غير مسبوقة شملت إجراءات لتخفيف أعباء الديون، وتنظيم العمل وتحويل المصانع والورش التي هاجرها مالكوها إلى تعاونيّات للعمال، وحرّمت توظيف الأطفال، وأقرّت فصلاً تاماً بين الكنيسة والدولة، وحرّرت التعليم من قبضة الكنيسة الكاثوليكية الرجعيّة وفتحته أمام الفقراء كجزء من معركة بناء الوعي. وقد تمّ أيضاً تنظيف المدينة من رموز السلطة الاستبدادية والشوفينية، مثل عمود النصر في ساحة فيندوم، والمساحات الترفيهية التي كانت مخصّصة للأثرياء حصراً. كما أصدرت قرارات بشأن إعادة تشكيل الحكومة وإدارة المؤسسات العامّة في باريس، فأسندت الحقائب الوزاريّة إلى أعضاء المجالس البلدية المحليّة المنتخبين بالاقتراع العام، ومُلئت الكثير من الوظائف العامّة بقيادات عمّاليّة، وانتُخب القضاة، وتمّ تغيير العلم الفرنسي الثلاثي الألوان إلى راية حمراء قانية، فيما كان الحرس الوطني بمثابة جيش شعبيّ مسلّح.
الباريسيّات اللواتي كنّ مهمّشات سياسيّاً في ظل الحكم البرجوازيّ، تحوّلن في ظل الكومونة إلى القوّة الحيويّة للمدينة. فنشطن للغاية في تنظيم الاجتماعات الجماهيرية، وتشكيل لجان ثوريّة جديدة، وإدارة منظومات الخدمات العامة الأساسية، وتنظيم عمليّات الدّفاع عن المدينة، وضغطن من أجل اتخاذ الكومونة إجراءات عمليّة لمساعدة الأسر التي تعيش ظروفاً صعبة.
ماركس الذي عايش أيّام الكومونة من منفاه اللندني وكان على معرفة شخصيّة بكثير من القيادات العمّالية الفرنسيّة اعتبر من فوره بأن الكومونة محكومة بفشل محتّم. فلا قواتها قادرة على مواجهة تحالف جيشَي البرجوازيّة والاحتلال، ولم يكن العمّال والفلاحون خارج المدينة على ذات الوعي الثوريّ الذي امتلكه الباريسيّون وقتها، فيما كانت قيادتها السياسية ضعيفة ومنقسمة وأقلّ ثوريّة من قاعدتها الشعبيّة، ومع ذلك فهو دعم نضالها البطولي ووضع كتاباً لا يزال أساساً اليوم في تحليل التجربة وفهم حقيقة مجرياتها.
المؤكد أن تجربة الكومونة مثّلت رغم تكلفتها الباهظة من الشهداء والجرحى والمبعدين قفزة في تطور الفكر السياسي الثوري للطبقة العاملة على نحو لا شكّ أنّه منح لينين ورفاقه البلاشفة الكثير من الدروس التي استلهموها في ثورتهم الروسيّة عام 1917 التي أنجزت قيام أول ديكتاتوريّة للعمال والفلاحين في التاريخ. وحتى في فرنسا نفسها، فقد أصبح العديد من إصلاحات الكومونة البعيدة النظر جزءاً من برامج الديمقراطية الاشتراكيّة لاحقاً، ومساحات لنضال اليسار الفرنسي في المراحل المتعاقبة.
لينين أدرك تحديداً نقطتين هامّتين كشفت عنها تجربة الكومونة. لقد أصبح جلياً بعد ما جرى بأن جهاز الدّولة - وبعكس التنظير البرجوازي بأنه مجرد سلطة تنفيذيّة محايدة تعمل لأجل الصالح العام - إنما هو أداة الاستبداد الطبقي البرجوازيّ التي تحمي وتكرّس هيمنة رأس المال بصفة يوميّة، وبالتالي فإنّه لقيام حكم العمّال وضمان ديمومته لا يكفي الاستيلاء على ذلك الجهاز كما هو فحسب، بل لا بد من تفكيكه وتجاوزه وإنشاء نظام جديد بالكامل.
بالنسبة إلى لينين أيضاً فقد أظهرت الكومونة بوضوح شديد أهمية الحزب السياسي الثوري المنظم القادر على تحليل اللحظة التاريخيّة، وتحديد مهمات الطبقة العاملة خلال المراحل المختلفة، ومن ثمّ قيادة العمليّة الثوريّة في اللحظة المؤاتيّة من دون الانخراط في ردّات فعل متسرّعة، بطوليّة ربّما لكنها مهزومة حتماً ومكلفة للناس، بسبب شراسة ووحشيّة البرجوازيّات الحاكمة في دفاعها عن مصالحها الطبقيّة وهيمنتها على البلاد.
تحيّة وإجلال لأبطال وبطلات كومونة باريس في ذكراهم الـ 150. لقد كتبوا لنا بمداد الدم آيات الثّورة وفاتحة ديكتاتوريّة العمّال والفلاحين والفقراء، وتركوا بهاماتهم الملطّخة بتراب باريس الحزينة إلهاماً لا يُنسى يظلّ إلى الأبد نجماً ينير طريق كل الثوريين. لقد استوعبنا الدّروس جيداً أيها الرّفاق. فيفا لا ريفيليسيون، فيفا لا كومون!

* كاتب من أسرة الأخبار

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا