تشير وثائق التأريخ إلى أنها مأهولة منذ العصر الحجري، سماها الفينيقيون «أوغاريت»، أما السلوقيون فأسموها «لاوذيكيا»، بينما دعاها يوليوس قيصر بـ «جوليا»، وعندما جاءها الصليبيون أطلقوا عليها اسم «لاليش»، الاسم الذي سيرتفع منذ عقدين على لافتة فندق كبير يقع على كورنيش المدينة الجنوبي بدون أن يلفت المسمى أنظار الكثيرين، تغييباً لاسمها الذي حملته بعيد الفتح الإسلامي في الثلث الثاني من القرن السابع الميلادي، عندما أطلق عليها الأمويون اسم «لاذقية العرب» تمييزاً لها عن ثمانية مدن أخرى كانت تحمل اسم اللاذقية، وهو الاسم الذي استعادته في عصرها الحديث ولا تزال تُعرف به إلى اليوم تأكيداً على عروبة المدينة وإسلاميتها في آن.هذا التناوب في السيطرة الذي حملته موجات تختلف من حيث العرق والمذهب، لم يكن اجتثاثياً، بمعنى أن تلك الموجات - كلّها - كانت قد خلّفت وراءها جزءاً من جيناتها، وهذا الجزء سرعان ما تفاعل داخل محيطه مع احتفاظه بخصوصية ظلّت واضحة على امتداد قرون، وإلى اليوم - مثلاً - لا تزال هناك جالية يونانية يقارب تعدادها الخمسة آلاف نسمة تعيش متناغمة داخل أحياء المدينة القديمة التي تعد ستة عشر حياً تشكل هوية المدينة العريقة، بل ولا تزال نكهات المطبخ اليوناني طاغية في بيئات مدينية إلى اليوم، حتى ليمكن القول إن المطبخ اللاذقاني هو أقرب إلى هذا الأخير منه إلى نظيريه الدمشقي والحلبي.
تشير تركيبة المدينة الديموغرافية إلى خليط عرقي وإثني تحتوي لوائحه على أربع من القوميات هي العربية والكردية والتركمانية والأرمنية، ودينين هما الإسلام والمسيحية، مع تسجيل إشارة ترد في بعض الكتب إلى استتار جالية يهودية صغيرة وراء هذا الأخير، والراجح هو أن الوقائع تأتي لتؤكد حالة الاستتار سابقة الذكر، فيما تنضوي تحت ذينك الدينين، أي الإسلام والمسيحية، ما يزيد على اثني عشر مذهباً، تشكل لوحة ديموغرافية أشبه بالفسيفساء المتداخلة التي ينتج عنها تموجات عدة من نوع التلاقي في الدين والافتراق في القومية.
هذا النسيج حافظ على قوامه على امتداد ما يزيد على خمسة قرون، فهو كان موجوداً منذ عام 1593 عندما كان تعداد المدينة 1714 نسمة فقط، وظلّ كذلك عندما أصبح تعدادها 439834 نسمة في عام 2012، أي بعيد هبوب رياح «الربيع العربي» الذي اجتاح البلاد، وكان لا بدّ أن يمرّ عليها، فيكون ثقيلاً مما تفرضه تركيبة المدينة، إلّا أن المرور جاء هذه المرة بطبيعة متباينة في الشكل والمضمون عنه في «الربيع السوري» الذي اجتاح البلاد ما بين عامي 1978-1982، كان التباين هنا وليد متغيّرات مهمة سوف تشهدها المدينة وهي ذات طابع تغييري سواء أكان من حيث الهوية الحضارية التي تلاعبت بها المتغيرات، أو من حيث التحولات السكانية التي أنتجت ما يشبه «الطوق» الذي أحاط بأحياء المدينة العريقة، فالطابع الديموغرافي للمدينة بداية الستينات كان يشير إلى غالبية من العرب «السنة»، مع وجود أقلية تركمانية ظلت محافظة على هويتها في مناطق تجمعها فقط، في حين شاب تلك الهوية في مناطق الاختلاط مع العرب الكثير من التلوّن، والأمر عينه كان ملحوظاً في حالة الأقلية الكردية التي ذابت هويتها تماماً، بما فيها اللغة، سواء أكان ذلك بالنسبة إلى الكرد الذين يقطنون المدينة أم الذين يقطنون الأرياف، أما العلويون فلم يسجّل لهم حضور داخل أحياء المدينة إلّا منذ منتصف الستينات، باستثناء حالات فردية يمكن أن يحصرها عدد أصابع اليدين، في حين سيشكلون ما بعد هذا التاريخ الأخير جلّ اللبنات التي شكلت الطوق سابق الذكر. هذا الواقع بدء يشهد منذ منتصف عقد الستينات من القرن الماضي (كان عدد سكان المدينة في عام 1959 حوالى 58948) تغيّراً كبيراً، فأحياء المدينة بدأت تشهد توسعاً لتؤسّس الضواحي، التي قارب عديدها خلال ثلاثة عقود خمس عشرة ضاحية قبيل أن تضيف سنو الأزمة الأخيرة ست ضواحٍ أخرى، فضاءات جديدة لأفق المدينة، بل وطابعاً جديداً لها، فالغالبية الساحقة من سكان تلك الضواحي كانت من العلويين الذين استطاعوا فرض نمط ثقافي واجتماعي مغاير لذاك الذي كان سائداً في أحياء المدينة العريقة، والفعل كان قد فرض بالضرورة بنياناً اجتماعياً مختلفاً في شكل مداميكه التي جاءت تناكفية في أحايين عدة مع المداميك القديمة، ظهر ذلك في الزيّ واللباس، وكذا في ممارسة العادات والطقوس والشعائر، وهي في مجملها كانت نذيراً بمغادرة الهوية التي اتّخذتها المدينة على امتداد القرون الأربعة الماضية، وهذا بالتأكيد لم يكن بفعل دوران عجلة التطور الطبيعي فقط، بل بدوافع أخرى أيضاً من نوع التناكفية في إظهار الموروث الحضاري المشوبة في كثير من الأحيان بنزعة هي أقرب ما تكون لفرض ذلك الموروث على الآخر كوسيلة ناجعة لتحقيق السطوة الاجتماعية.
تأخرت المدينة عن درعا أسبوعاً كاملاً للخروج بمظاهرة احتجاج، حيث سترسو هذي الأخيرة في يوم جمعتها 18 آذار/ مارس 2011 الذي شهد الاعتصام في الجامع العمري تاريخ بدء الأزمة السورية، في حين خرجت المظاهرة الأولى في اللاذقية من جامع خالد بن الوليد يوم الجمعة 25 آذار/ مارس، كان نسيج المتظاهرين في غالبيته من التركمان بثقلهم المتجمّع في حارة علي الجمال في الطرف الشمالي من المدينة، ولقاطنيها يعزى الدور الأساسي في تلك المظاهرة، ثم انضم إليهم أفراد من تنظيمات فقدت تأثيرها على الساحة السورية منذ زمن ليس بقصير مثل «الشباطيين»، وبعض كوادر «حزب العمل الشيوعي» المغادرين للتنظيم، ولم يخلُ الحشد من نفحته العائلية، والشاهد هو خروج بعض الأفراد من عائلات مصنّفة في خانة المناوئة لعائلة الأسد، مثل آل الخير وجبور في القرداحة، وآل نعيسة في بسنادا، قبيل أن تصل هذي «الملحقات» إلى استنتاج سريع هو أن الطبخة محروقة حتى قبل أن توضع على النار، ولم تلبث رائحة «الشياط» أن خرجت من القدر فارضة على تلك الملحقات إعادة حساباتها من جديد.
كان الشعار الأشهر الذي رُفع في تلك التظاهرة «لا إيران ولا حزب الله بدنا دولة توحد الله»، واللافت هنا هو أن ذلك الشعار كان استباقياً من النوع الذي يشي شطراه بمقدمات لما ستشهده الأحداث في حمص على وجه التحديد بصورة دراماتيكية بعد أشهر من هذا التاريخ، في حين أن «المنتفضين» في أحياء جبلة القديمة، وجلّهم من السنة، كانوا قد وضعوا إشارات على أبواب المؤيدين للدولة تحمل وعيداً بانتقام قريب منهم، ولربما كان يصحّ وضع ذلك بوضعية النبوءة لمآلات قادمة سوف تشهدها البلاد بأربع أقاصيها، ففي اليوم التالي، أي السبت 26 آذار/ مارس، خرجت تظاهرات متفرّقة في حيَّي «الصليبة» و«العوينة» المحسوبَين على الطبقة الوسطى، واللذين شكّلا عماد التمرد في أحداث 1978-1982، كانت في قوامها تعتمد على شبان صغار في السن مع تراجع كبير في مشاركة ممن هم فوق الثلاثين، ومنذ اللحظات الأولى يمكن تسجيل حالة افتراق واضحة بين العرب السنة الذين مالوا إلى نبذ العنف، وبين السنة التركمان الذين أبدوا استعداداً لممارسة المزيد منه.
كانت تباشير السياسة التي يعتمدها الأخوان المسلمون هنا تشير إلى أن هؤلاء كانوا قد قرّروا قيادة الوجهة مع تعمّد الغياب عن الواجهة، وهذا كان يفرض تكتيكاً يقوم على إطلاق التهديدات لمختلف الأقلّيات تأكيداً على طبيعة الصراع الطائفي من جهة، ولشدّ عصب السنة من جهة أخرى، كان هذا كله يعتدّ بتحالف، مقروء جيداً في أوساط السنة، يُمثل طرفاه بواشنطن والأخوان المسلمين، فيما مثّل الوكيل التركي «عبّارة» الربط بين الاثنين، في الوقت الذي كانت تشير كل الدلائل فيه إلى أن «نفس» الوكيل هو الذي سيتسيّد المشهد في المرحلة المقبلة، لكن ما حال بين الحراك وبين تحقيقه مراميه هو أن أحياء الطبقة الوسطى التي كانت تعيش حالة أقرب إلى الاسترخاء الاقتصادي بدرجة ما، ولم تجد نفسها فيه على استعداد لدفع أثمان يتطلّبها السير في ما كان يُراد لها السير فيه، وفي ظل هذه التوازنات سنجد الأحياء الفقيرة في «الرمل الفلسطيني»، و«السكنتوري» قادرة على سحب البساط من تحت أقدام «الصليبة» و«العوينة» ذائعَي الصيت في مناهضة النظام، حيث لم تلبث هذي الأخيرة أن استعادت توازنها، الذي فرضته مراجعة الحسابات، بشكل يعيدها إلى حال هو أقرب إلى الحياد مع الاستعداد للتكفير عن «الذنب» الذي اقترفه «الصغار» يوم 26 آذار/ مارس 2011، الأمر الذي يمكن لحظه قبيل الانتخابات الرئاسية الحاصلة صيف عام 2014، حيث سترتفع فوق محل «فروج طرابلسية» الكائن في ساحة أوغاريت الشهيرة بوسط الصليبة لافتة عريضة لا تزال قائمة إلى اليوم كُتب فيها «القرار مو قرارك، الشعب هو اللي اختارك»، كان ذلك يرمز لانزياح نهائي للطبقة الوسطى «السنية» المتمترسة في أحياء الصليبة والعوينة والطابيات تنأى بها عن «مشاغبات» أحياء العشوائيات ومدن «التنك والصفيح». خبت الآمال في حراك داخلي يمكن أن يؤدي إلى سقوط المدينة، الحدث الذي فيما لو تحقق لكان ذا أثر رمزي لربما يضاهي سقوط دمشق، لكن ذلك الخبو كان لصالح نشاط محاولة إسقاطها من الخارج عبر محورَين من الشرق والشمال، والمحاولة إياها كانت تعتد بعصب الأقلية التركمانية وكذا الكردية في الأرياف الشمالية والشرقية للمدينة، وفي هذا السياق بدأت تلك المحاولات صيف عام 2013، ففي مطلع أيار/ مايو من هذا العام الأخير كان الهجوم من الشمال انطلاقاً من محور ربيعة - غمام والذي وصل إلى مشارف قرية «خربة سولاس» الاستراتيجية على مسافة 25 كم إلى الشمال من المدينة، وفي مطلع آب/ أغسطس كان الهجوم من الشرق عبر استهداف قرى صلنفة الثلاث عشرة، وكلا الهجومين جرى احتواؤهما، والفعل سوف يزداد تعمّقه ما بعد «عاصفة السوخوي» خريف عام 2015، حيث سيتضاءل تأثير تلك الجيوب التي لم تعد تشكل خطراً يُذكر منذ كانون الثاني/ يناير من عام 2016 الذي شهد سيطرة الجيش السوري على بلدة «سلمى» أكبر معاقل المتمردين في الريف الشرقي الشمالي.
هناك في التراث الشفوي اللاذقاني، ضمن الدوائر الضيقة للجماعات والطوائف، حكايا تروى بشكل مغاير تماما للتاريخ المكتوب


هذا كله كانت له تداعياته الكبرى على الداخل في المدينة، الذي زادت حالة الاستقطاب بين أحيائه، لكن مع تزايد في حالة الحذر بين مكوناتها التي راحت تراقب التغير الحاصل في موازين القوى المجتمعية، عبر «ترمومتراتها» النشطة لحظياً، فترسم خياراتها على مختلف المحاور، وفي ذلك السياق تحول مركز الثقل الاقتصادي للمدينة من السوق القديم الذي يضم أسواقاً عريقة مثل «الشيخضاهر» و«هنانو» و«القوتلي»، إلى سوق ناشئ جديد مركزه في «الزراعة» و«الأوقاف»، كان ذلك التحول ذا دلالات تتعدى في مضامينها رمزية الفعل الاقتصادي.
هناك في التاريخ الشفوي اللاذقاني، ولربما لنظيره السوري بشكل عام، حكايا تُروى في الدوائر الضيقة للجماعات والطوائف، بشكل مغاير تماماً عن التاريخ المكتوب الذي يدرسه الطلاب ومرتادو الكتب والصحافة، والملاحظ إبان سني الأزمة هو أن جزءاً من المثقفين كانوا قد جهدوا بشكل ممنهج لترسيخ ذلك التاريخ انطلاقاً من أحداث فردية كانوا قد شهدوها أو سمعوا بها، حتى أن الفعل عند البعض كان قد ذهب نحو «أسطرة» تلك الأحداث في محاولة لتغليبها على التاريخ المكتوب، ولربما بات التحدي الأكبر اليوم يكمن في كيفية دفن تلك الحكايا وسحقها في ذهنية الأجيال اللاحقة.
ما نريد قوله هنا، هو أن الأدوات المستخدمة في إسقاط الدولة السورية كانت تعتمد على الطائفية بالدرجة الأولى، وعلى نزعة المظلومية لدى السنة وأقليات عرقية بالدرجة الثانية، وهذا أدى من حيث النتيجة إلى تهتّك كبير في النسيج المجتمعي السوري، لكن التهتك الأكبر الذي يهدّد ذلك النسيج سيكون فيما لو خلصت حسابات السنة إلى نتيجة مفادها أنهم كانوا الطرف الخاسر في الأزمة، فالسنة ليسوا خاسرين، وليسوا مهزومين، والمهزوم هو المشروع الطائفي، الوكيل الوحيد والحصري لتفتت وذوبان الهوية الوطنية.

* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا