يحتاج التصوّف إلى كثير من الكلام، فهو تاريخياً ظهر بشكل بارز في منتصف القرن الهجري الثاني، أما قبل ذلك فكانت هناك سلوكيّات أخلاقية وروحية نابعة من روحية الدين الإسلامي الجديد تحت مسمّى الزهد، وقد وقف الباحثون أمام التصوّف وقفات متعددة، ما بين منتقد معدّاً إياه شيئاً هدّاماً للحياة وما بين مؤيد، إذ يبني الإنسان روحياً فهو تجربة فريدة تهدف إلى تطهير الذات الفردية والجماعية والارتقاء بها ودفعها لاتخاذ الموقف الحق أمام كل تحديات الحياة السياسية والاجتماعية، وما بين محاول لدراسته بموضوعية وعلمية.إن التصوّف بمضموناته الإيجابية ليس سوى الذي يتمثل فيه صاحبه بصفات الله عملياً، بحيث يقتحم الواقع بكل إشكالاته لذلك لم يعد التصوف مجرد مسار لانعتاق الذات من العلائق الدنيوية كما حاول التأسيس لذلك القشيري في رسالته «الرسالة القشيرية».
نتحدث الآن عن العرفان كما ورد على لسان من تطرّق إليه، إذ هو عندهم علم بالحق تعالى من حيث أسماؤه وصفاتُه ومظاهره والعلم بأحوال المبدأ والمعاد وحقائق العالم وكيفية رجوع هذه الحقائق إلى الحقيقة الواحدة التي هي الذات الأحدية لله.
إن العرفان ليس هو سوى التصوّف، إذ هناك تشابه وتداخل كبيران نظرياً من حيث الموضوعات إلى حدّ أن الكثيرين لم يميزوا بينهما فعدّوهما أمراً واحداً، فالعرفان هو التصوّف السليم الصحي الخالي من أية ممارسات تنحرف بتوازن الإنسان على مستوى السلوك الشخصي وما يتعلق بذلك من طقوس وشعوذات لا قيمة لها.
لا بدّ من الالتفات إلى أن تغيير الاسم من التصوّف إلى العرفان إنما حصل نتيجة تداعيات كبيرة حصلت في العهد الصفوي سياسياً واجتماعياً رداً على تصرفات من انتسب إلى التصوّف وتحلّل سلوكياً من أحكام الشرع.
الجدير ذكره احتضان السلطات السياسية المتعاقبة لأهل التصوّف ومللهم للإفادة منهم في تثبيت سلطانها، إن كان في العهدين السلجوقي والعثماني أو غيرهما حيث اتسعت قوة من انتسب إلى الصوفية وأهلها.
إن الفرق بين التصوّف والعرفان أن التصوف هو نمط من العيش يهدف إلى تزكية الذات وصولاً إلى الحق تعالى والسير والترقّي نحو الكمال ومحاكاة المطلق، أما العرفان فهو مع كثرة من حاول أن يبحث فيه ويؤسس لنظريات حوله فهو مذهب فكري خاص له مبادئه ومناهجه وله منهج كشفي وذوقي خاص يجعل من رواده أهل معرفة حقّة بالله ومن أهل الكشف الباطني الفريد ومن أهل الثبات والحكمة. فالعرفان وراء العقل ومع ذلك يقول أصحابه إنه لا يخالف العقل الصريح والبرهان الفصيح فهو مظلة حاضنة تنضوي تحتها جدلية الدنيا والآخرة، بحيث تنمحي في تجاربه كل التناقضات، ويتصل بعضُهما ببعض أي الدنيا والآخرة كأنهما جوهر واحد.
إن المقصد العرفاني الوحيد هو التمكّن (والتزمن) نحو إطلاقية تلامس الحكمة الشاملة واتصافها بنعت الكلية والإطلاقية، فالبعد العرفاني يهدف إلى توحيد الوجود وإعداد إنسان كامل مهيّأ لمعرفة الخالق وصفاته، فإنه إن لم يصل إلى ذلك سيظل لديه قصور على مستوى الروح والقلب والعقل لإدراك إيحاءات هذه الصفات وما يجب أن يكون عليه.
إن الجمال الإلهي والحب يجعلان من الإنسان قادراً على التخلص من الكثرة التي تخلق الغفلة، فعندما يتخلص المرء من كل التأثيرات والنوازع الذاتية المنحرفة وكل تأثيرات التشتّت والانقسام الخارجي ينقاد إلى صوت العقل والحكمة، فهذه الكثرة يحاول العرفاني أن يتخطاها ليصبح متقرباً أكثر من الوحدة بشكل تصاعدي إلى الله متصلاً بهذه الحقيقة، واصلاً إلى غاية الغايات التي هي كل الأشياء وليست شيئاً منها.
إن المنحى العرفاني كما يقول أبو نصر الفارابي هو نهاية التخلص من الكثرة والوصول إلى الله عبر تخلصه من كل تجزئة وازدواجية في النظر والتعامليات، فوحدة سلوك الإنسان في نظره وموقفه العملي عاكسة لوحدانية مطلقة، وبقدر ما يكون هذا الانسجام وهذا التناغم بين القول والعمل يصبح عارفاً بالله أكثر، عندها يصبح موحداً أكثر فيما السلوك المتكثر يرمي الإنسان في براثن الشرك والانحراف والتعددية.
فالعرفان على ما تقدّم هو نوع من بحث الإنسان وسعيه الدائمين عن حقيقة الوجود، فهو يُعد وسيلة من وسائل الوصول إلى الله، فهو وسيلة وليس غاية وسيلة معرفية لها برنامجها.
نحن لدينا قصور معرفي إذ نُغيّب العرفان القرآني عن ساحاتنا الفكرية والمعرفية، مع أنه هو الأساس الذوقي السليم وهو الضابط والحاكم على هذا الموروث وهذه التجارب الروحانية التي تنتجها الذات الجماعية، فالقرآن كان ولا يزال مداد تربية روحية وأخلاقية أصيلة بين أيدينا تدفعنا إلى تلقّف إيحاءاته الغنية والمتنوعة، إذ يهزّ مناطق الشعور والإحساس ويضيء للعقول طريقها ويدعو إلى ذكر الله حيث تمتلئ القلوب بذكره مبتعدة عن الغفلة والجهل ومندمجة في حركية الحياة.
إن الذكر ليس لقلقة لسان إنه دفع لتمثل الله تقوائياً وحركة باتجاه كل خير في المجتمع، ونشير إلى مركزية القلب عرفانياً وصوفياً، هذا العضو الذي يضم العقل أيضاً وكل طاقة واعية تحاول حل كل التناقضات في تصرفات الإنسان، مدخلة إياه في زمن الله الخالد من خلال ضبط حركته بين زمانه الداخلي وزمانه الخارجي كي يكون جديراً بالحياة.
ليس الصوفي والعرفاني سوى إنسان يمتلك رؤية إنسانية وروحانية وأخلاقية وإبداعية معرفية غير منفصلة عن الواقع ومستغرقة في متاهات الغيب بل تجليات إبداعية متكاملة تربوياً واجتماعياً ونفسانياً تحاول توحيد كل ما هو موجود في بوتقة متجدّدة ومتناغمة في لغتها ومشاعرها وخطابها وحركتها وأهدافها تقضي على كل انقسامات وتشتّت وضياع لغة قادرة على توليد أجيال تحمل مضمونات وقيماً سامية تجذر لها تاريخها وهويتها الوجودية.
إن إحياء جذور التصوف والعرفان السليمين مهمة شاقة اليوم لأن النفوس تلوّثت إلى حد بعيد واستغرقت في وحشة مخيفة، حيث التوحش سمة الكثيرين من الحكام والزعماء الذين انغمسوا في نزواتهم وأهوائهم إلى حد إفناء العالم وتدمير نفسانيات البشر وإقحامهم في صخب مادي جشع وتحويلهم إلى مجرد أرقام وسلع وأتباع وأزلام ودمى يحركهم أسيادهم ساعة يشاؤون.
إتسعت قوة أهل التصوف بفعل احتضان السلطات السياسية المتعاقبة لهم لتثبيت سلطانها في العهد السلجوقي والعثماني وغيرهما


ماذا نفعل اليوم أمام استعار سطوة الفساد والمفسدين والظالمين؟ هل تنفع صرخات المعذبين والمقهورين والمستضعفين؟
إن العودة إلى الذات الصافية ورفع سطوة الأنا من المهام المعقّدة، حيث تشابك النسيج الاجتماعي مع السياسي المصلحي إلى درجة كبيرة تحتاج إلى من يخلصها من تداعيات ذلك ونتائجة المدمّرة لحظوياً لما يمكن أن يكون من أمور تضمّد الجراحات.
إنَّ الحكام والساسة في الأصل أمناء على رعاية مصالح الناس والتي هي الأساس في قيام حكمهم وأمناء على إدارة شؤونهم وسوقهم في طريق العدل إلى الغاية المثلى في خلق مجتمع منظّم ومطمئن.
إنَّ غاية السياسة حفظ صلاح اجتماع الناس من كل ضرر مادي أو معنوي وإدارة كل طاقة ممكنة في سبيل بناء مجتمع مسترشد وثابت الخطى في مسيرته. من هنا فالسياسة من أدقّ الأمور ومن أكثرها حساسية وارتباطاً عضوياً بقضايا الحياة اليومية وتفاصيلها.
وما دامت لغة العرفان والتصوف موحّدة وتسعى للوَحدة، فقاموسنا السياسي اليومي المستهلك والقذر تنبذه هذه اللغة المتعالية وتمقته لأنها تريد سياسياً غير متلوّن له باطن وظاهر واحد متصالح مع ذاته ومع الناس، صادق في قوله وفعله، متحرر من مقيّدات أهوائه، فكم تحتاج ألاعيبنا التي نسميها سياسة إلى تصويب وإصلاح؟!.
كم نُتقن منطق التبرير والتملّق السياسي والتبادل المصلحي الضيق الذي يكرس منطق التقسيم والتفتيت والتشرذم! فإذا ما أردنا أن نسقط تجارب الصوفية وأهل العرفان على زماننا اليوم نجد صورة سوداوية موحشة تدلل على واقع متصحّر ومسلوب الإرادة والروح، مجتمع مسيّر في كل شيء بعيد عن كل قابلية لتوليد أشكال حياتية تعيد الروح إلى حياة باردة متجمّدة تكالب عليها (ألعبان) الحكام وأزلامهم، حيث جعلوا من مفردات الشراكة والتعارف والتعاون أشياء لا وجود لها إلا في عوالم الأذهان.
إنّ الثورة المتجدّدة على كل عوالم الرتابة والتصحّر والاستكانة من صميم غاية التصوف والعرفان، فبقدر ما تكون ثورياً في روحك ووعيك تكون أقرب إلى أهل العرفان والتصوّف، ثورة الوعي الذي نسجل به مواقفنا المشرفة لنقتحم بها الزمان النظيف الذي نستحقّه.
السعي إلى انطلاقة ثورة الوعي لحظة حاسمة، وبدونها لا جدوى من الصراخ والحركة العبثية، فما لم تتغير دواخلنا وتتمسك بكل ما هو جدير بإنسانيتنا فلن نتمكن من تصحيح الحاضر وصناعة المستقبل الواعد وسنبقى نشهد على مآسٍ يومية تُقتل فيها النفوس معنوياً وتُصادر فيها الحقوق والكرامات.

* أكاديمي وحوزوي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا