يُلاحَظ في الآونة الأخيرة وتحديداً منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 تكثيفٌ لحملة المعلومات المعادية لحزب الله في وسائل الإعلام اللبنانية التقليدية والجديدة (شبكات التواصل الاجتماعي والمنصّات الرقمية). وقد تكثّفت هذه الحملة بعد اغتيال الناشط لقمان سليم في 5 شباط 2021 وذلك من ناحية تحميل حزب الله مسؤولية الاغتيال ثم الانتقال لشنّ حملة ضد بيئة المقاومة بالعموم. إن هذه الحملة في معظمها منظّمة وممنهجة ومندمجة في استراتيجية سياسية وهي تستفيد من موارد مالية وبشرية وتكنولوجية كبيرة جداً. يمر جزء أساسي من هذه الحملة من خلال المواقع الإلكترونية التي أصبح الولوج إليها أسهل مع انتشار الهواتف الذكية والتطبيقات ووسائل التواصل الاجتماعي. تكتسب حملة المعلومات هذه، أو حرب المعلومات، أهمية مضاعفة في هذه المرحلة نظراً إلى سيولة الأحداث في لبنان والسخط في أوساط الرأي العام والضغط المرتفع لتقليص مشروعية حزب الله وحلفائه، وكل ذلك يسير بالتوازي مع اقتراب الانتخابات النيابية في عام 2022. تشتمل حرب المعلومات على ممارسة التضليل المعلوماتي لتأكيد سردية معينة حول طرف آخر عبر تقديمه للجمهور ضمن تأطيرات معينة طوال الوقت. في عام 2011 أشار جوزيف ناي «منظّر القوة الناعمة» إلى أن «اليوم وأكثر من أي وقت مضى، تتصارع الدول على قوة تعريف المعايير وتأطير القضايا». ولهذا سبق وأن أشار جايمس غلاسمان، وكيل وزارة الخارجية الأميركي الأسبق للدبلوماسية العامة، إلى أن «مهمة الدبلوماسية العامة الأميركية أن تستخدم أدوات الانخراط الإيديولوجي، أي الكلمات والأفعال والصور، لخلق بيئة معادية للتطرّف العنيف»
أولاً: الحرب الإدراكية/المعرفية
التضليل المعلوماتي هو نشر متعمّد لمعلومات خاطئة بقصد إلحاق الأذى. وقد بلغت هذه الاستراتجية مستوى من الخطورة أنها صارت تُصنّف لدى الدول الكبرى باعتبارها تهديداً أساسياً يجب التعامل معه. ليس التضليل المعلوماتي أمراً جديداً ولكنه اكتسب زخماً هائلاً بفعل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وهو انتشار يبدو أن آثاره متضاربة. ففي بداية هذا «الانفجار المعلوماتي» كانت التقديرات أنه سيمثّل دفعاً لانتشار الديمقراطية حول العالم إلا أنه تحوّل إلى وسيلة متقدّمة للسيطرة على الجماهير وإجهاض الحركات الاحتجاجية (الاستبداد الرقمي). وكذلك بدل أن تؤدي سهولة إنتاج المعلومات وتداولها إلى تعزيز المعرفة وصلنا إلى «أزمة الحقيقة» حتى في قضايا مثل شكل الكرة الأرضية.
يشهد مجال «التضليل المعلوماتي» نمواً هائلاً، وقد تمكّن باحثون من رصد مجموعة واسعة من التقنيّات التي تُستخدم ضمن هذا المجال وهي لا تقل عن ستين تقنية اليوم. هناك عدة عوامل نفسية ومعرفية تساعد على الوقوع ضحية التضليل المعلوماتي منها: الحاجة إلى الانتماء حيث يسارع الأفراد لمشاركة أو تصديق المحتوى الذي يعزز إحساسهم بالانتماء إلى جماعة ما. ثانياً، إن الإغراق المعلوماتي الذي يواجهه الفرد على الإنترنت ووسائل التواصل مع ما يرافق هذه البيئة من الكثير من التوتر وعدم اليقين يضعف قدرة الفرد على معالجة المعلومات وهذا ما يحرّك لديه تحيزات مثل «الانغلاق المعرفي» أو «التحيّز التأكيدي» أو «الانتقائية» وكلها تدفع بالفرد لانتقاء المعلومات الواضحة (أبيض أو أسود) التي تتفق مع ما يؤمن به سلفاً وهذا ما يزيد من حدة الاستقطاب أو التطرّف.
كما وجدت جملة دراسات أن الأفراد يحصرون انتباههم بالحسابات والصفحات التي يتماهون معها ويبقون في عالمهم الخاص، وخاصة أن هناك اتجاهاً متزايداً لدى الأفراد للتعامل مع المجال العام بقلة ثقة وتشكيك، ما يدفعهم لأخذ معلوماتهم من مصادر محددة. وأخيراً، إن زيادة حدة الاستقطاب والتعصّب (القبليّة) هي التي تؤدي غالباً إلى ارتفاع استهلاك الأخبار الكاذبة وليس العكس. (من دراسة بعنوان «أسلحة الإلهاء الجماهيري: التضليل المعلوماتي برعاية دولة أجنبية في العصر الرقمي»، آذار 2019).
إن قوة حملات التضليل المعلوماتي تكمن في اعتمادها على الناس العاديين لنشر المعلومات الخاطئة عبر الإنترنت. فأغلب الموجودين على شبكات التواصل تصلهم المعلومات ليس من المصدر الأساسي بل من خلال أصدقائهم ومعارفهم وأقرانهم على شبكات التواصل ممن تفاعلوا مع المادة (إعجاب، مشاركة، نشر). وفي هذه الحالة يميل الأفراد إلى عدم التدقيق في صحة المعلومة وخاصة أنها في العموم تدعم ما يؤمنون به سلفاً.
تحوّلت الداتا إلى أداة تشكّل اعتقادات الناس ويجري توظيفها للتلاعب بهم. ومع تراجع رغبة الدول الكبرى وقدرتها على شنّ الحروب العسكرية حوّلت جزءاً من مواردها نحو معارك الوعي. نظّمت قيادة القوات الخاصة الأميركية في فترة سابقة تمريناً حول كيفية خداع خصم معاصر شارك فيه مختصون بعلوم الداتا. وفي عام 2017 صرّح الجنرال دايفد غولدفين (من القوات الجوية الأميركية) بأننا «ننتقل من حروب الاستنزاف إلى حروب الإدراك». فيما وصف عالم الأعصاب جايمس غيوردانو العقل البشري باعتباره «ساحة قتال القرن الحادي والعشرين».
والحرب الإدراكية أوسع من حرب المعلومات. فمجال المعركة الإدراكية يخاض من خلال حرب للمعلومات التي يجري تحويلها إلى معرفة من خلال العمليات الإدراكية (كلينت واتس من مركز الأمن السايبري والوطني في جامعة جورج واشنطن). إن تحقّق الاتصالية الفائقة بسبب انتشار الإنترنت ووسائل التواصل خلال العقد الأخير أتاح قدرة الجذب المتواصل لاهتمام العقل البشري. هذه الظاهرة أقامت جسراً بين حرب المعلومات والحرب الإدراكية، عبر تحويل الأولى من مجموعة أنشطة عرضية episodic تواكب الجهد العملاني، العسكري والاستخباري، لدعم العمليات الحربية إلى جهد موحّد متواصل لتعطيل ومنع الشروط الإدراكية القائمة في مجتمعات كاملة. تجمع الحرب الإدراكية أدوات حرب المعلومات وتأخذنا إلى مجال «الأسلحة العصبية» التي «تشمل كل شي ينفذ إلى الدماغ لمغالبة الآخرين» بحسب غيوردانو.

ثانياً: دراسة اختبارية
أجرينا أخيراً دراسة اختبارية موجزة اعتمدت منهجاً كمياً لتحليل التأطيرات المنشورة في مواقع إلكترونية لبنانية وذلك في مدة أسبوعين من 15 شباط إلى 28 شباط 2021، وفق الخطوات التالية:
1- جرى تحديد أبرز المواقع الإلكترونية التي عادة ما تهاجم حزب الله أو تعتمد لغة سلبية تجاهه بالعموم أو في بعض الموضوعات. وهذه المواقع هي إما مواقع إخبارية أو مواقع لصحف أو مواقع لأحزاب أو مواقع لقنوات إعلامية. بلغ مجموع هذه المواقع 23 موقعاً وهي تمثل جزءاً كبيراً من سوق المواقع الإلكترونية في لبنان. تتلقّى هذه المواقع، في المجمل، تمويلات أميركية أو خليجية أو أوروبية سواء بشكل مباشر أو عبر جهات وسيطة محلّية (تحديداً شخصيات أو أحزاب) أو دولية.
2- تم تحديد تسعة تأطيرات يجري تقديم حزب الله من خلالها وهي: مهيمن على الدولة، إرهابي، ميليشيا، وكيل لإيران، قمعي، مجرم، فاسد، مأزوم، طائفي. تتوافق هذه التأطيرات مع السردية الأميركية لحزب الله وكذلك الخليجية في السنوات الأخيرة. استخدم الأميركيون تأطيرات الإرهاب والوكالة لإيران منذ الثمانينيات ثم ركّزوا على تأطير الميليشيا والطائفي بعد عام 2005، ليعودوا ويكثفوا تأطير الإجرام (ولا سيما تهمة الإتجار بالمخدرات وغسيل الأموال) بعد عام 2009، وأخيراً جرت إضافة التأطيرات المتبقّية (مهيمن، فاسد، قمعي) بعد فوز حزب الله وحلفائه في الانتخابات النيابية عام 2018 واندلاع حتجاجات 17 تشرين 2019. (لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب «ما بعد القتال: حرب القوة الناعمة بين أميركا وحزب الله، 2019)
يمكن أن يتضمّن كل مقال تأطيراً واحداً على الأقل وصولاً إلى عدة تأطيرات معاً. لكن في حال ذكر مثلاً أن حزب الله إرهابي أكثر من مرة في النص فلا نذكر تأطير الإرهاب مرتين. لكن قد يتضمّن مستنداً واحداً أن حزب الله إرهابي وميليشيا ووكيل لإيران وفاسد، على سبيل المثال.
3- راجع فريق العمل (سحر سلامة، سارة حرب، سارة ديب، زهراء قصير، بتول أحمد) المواد التي تنشرها المواقع المرصودة وتتناول فيها حزب الله وذلك بشكل يومي. معظم المواد المنشورة هي إما مقالات رأي أو مقالات خبرية أو مقابلات أو نقل لمواقف وتغريدات أو نشر لمقالات منشورة مسبقاً في مواقع أخرى ولا سيما مواقع خليجية مثل الشرق الأوسط والرأي الكويتية التي تقدّم خطاباً شديد العدائية تجاه الحزب.
4- استخلصنا يومياً جدولاً يتضمّن جملة معلومات ثم تجري مراجعته وتنقيحه وإدخال المعلومات عبر البرنامج الإحصائي SPSS.
الثغرة المنهجية هنا تتركّز حول نقطتين: ضيق المدة الزمنية التي كانت أسبوعين فقط لهدف الاختبار والفحص والتجربة، وثانياً عدم تلقّي الفريق الذي قام بجمع وتحليل الداتا تدريباً للقيام بالمهمة بسبب ضيق الوقت. ولذا يجب التعامل مع النتائج على أنها مؤشرات أوّليّة بحاجة إلى بحث معمّق أكثر ومضبوط منهجياً بشكل أدقّ. سنعرض في ما يلي لبعض الداتا التي جرى تجميعها وبعض الاستنتاجات الأوليّة الناتجة عنها.
نتيجة الجمع على مدى أسبوعين من 15 شباط 2021 إلى 28 شباط 2021 من 23 موقعاً إلكترونياً كان هناك 480 مستنداً معظمها مقالات. يُلاحظ هنا أن المواقع الثمانية الأولى ضمّت 70% من العيّنة المنتقاة من المقالات، ويمكن اعتبارها مركز الحملة المضادة لحزب الله وذلك من ناحية الكمّ بمعزل عن نوع المواد ومدى وصولها ونوعية الجمهور المستهدَف. فقد تكون هناك مواقع لديها تركيز أقلّ على استهداف الحزب ولكن لديها قدرة وصول أعلى أو تصيب شرائح أهمّ.



أما من ناحية التأطيرات التي تمّ استخراجها، فقد بلغ عددها 943 تأطيراً، باعتبار أن معظم المقالات تضمّنت أكثر من تأطير واحد وقد توزّعت أعدادها ونسبها المئوية وفق الجدول الآتي:



في هذا الجدول يظهر بوضوح التركيز على تقديم حزب الله في خطاب هذه المواقع ضمن 3 تأطيرات رئيسية أنه مُهيمن على الدولة وميليشيا ووكيل لإيران. وقد حازت هذه التأطيرات الثلاثة نسبة 64% من مجمل التأطيرات. المجموعة الثانية من التأطيرات كانت حول القمع والإجرام والفساد وبلغت نسبتها 23.4% من مجمل التأطيرات. فيما حازت التأطيرات الثلاثة الأخيرة، مأزوم، إرهابي، طائفي، على نسبة ضئيلة توازي 12.6% تقريباً من مجمل التأطيرات.

ثالثاً: التحليل الموضوعي
تظهر الداتا أن التأطير الأساسي الذي يتمّ استخدامه لتقديم حزب الله للجمهور هو أنه مُهيمن على الدولة، يلي ذلك تأطير الميليشيا ثم وكيل لإيران وذلك كما يظهر من الرسم البياني الرقم 1.
الرسم البياني الرقم 1: عدد التأطيرات المستخلصة
يظهر تأطير «المُهَيمن» من خلال عبارات تقدّم حزب الله على أنه يضع يده على المؤسسات ولديه الأغلبية النيابية ومسيطر على الحكومة وأن السيد نصرالله هو «مرشد الجمهورية» وأنه أعطى أوامره بإغلاق التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، وأن الحزب هو «الحزب الحاكم» وأنه يعطّل تشكيل الحكومة وأنه يوجّه الأوامر إلى حلفائه لممارسة التعطيل. وكذلك يجري ربط ذلك بأن الحزب يريد استغلال ما يجري لتغيير النظام السياسي وتمكين قبضته على الدولة. يُوظّف هذا التأطير لخلق تصوّر لدى الجمهور المستهدَف بأن الحزب هو سبب الأزمة الحالية وأن الحل بيده لأنه يمتلك الأكثرية والسلاح ومتحكم بمفاصل السلطة. إذاً المطلوب تكريس سردية أن الأزمة المالية والاقتصادية يتحمّل مسؤوليتها الحزب وأنه هو المسؤول عن معالجتها. وتكتسب هذه السردية قوّتها من مستوى السخط والغضب اللذين يسودان بين عموم اللبنانيين بحيث يجري توجيهها نحو الحزب لاستثمارها في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره


أنقر على الرسم البياني لتكبيره

أما تأطير الميليشيا فيركّز على سلاح حزب الله باعتباره سلاحاً غير شرعي يناقض شرعية الدولة وأنه يُوظّف خدمة لمشاريع خارجية من ناحية وللاستقواء على اللبنانيين وقهرهم وتجاوز القانون والسلطات الشرعية. يجري التركيز في هذا التأطير على غياب مشروع اقتصادي وسياسي للحزب وأنه بوجود هذا السلاح لن تكون هناك قيامة لدولة بل إن «دويلة حزب الله» تبتلع الدولة، ثم يجري ربط كل ذلك بالأزمات الحالية للقول إن هذا السلاح مساهم في الأزمة وإنه لا إصلاح من دون حل مشكلة سلاح الحزب.
أما تأطير «الوكيل لإيران» فيهدف للقول إن الحزب مجرّد أداة إيرانية في لبنان وليس لديه أجندة محلية بل يعمل في خدمة المصالح الإيرانية حصراً انطلاقاً من لبنان. وقد جرى ربط هذا التأطير في المقالات بالأزمة الاقتصادية والسياسية والمعيشية عبر الادعاء أن الحزب يؤجّل التسوية الداخلية حتى تستثمر إيران الملف اللبناني في التفاوض مع أميركا وأن هذه العلاقة مع إيران هي سبب الحصار الخارجي وسوء العلاقة مع دول الخليج الناتجة عن تدخلاته العسكرية في المنطقة، وكذلك أن الحزب لا يكترث بمعاناة اللبنانيين ما دام قادراً على تأمين احتياجاته المالية من إيران.
إن قوة هذه التأطيرات تنبع من كثافة ضخّها إلى مستوى «إغراق السوق الإعلامي» وكذلك من حدة الانقسام السياسي والسخط الشعبي الواسع، والأهم من كونها جزءاً من سرديات متكاملة يجري بناؤها وبثّها حول حزب الله منذ عام 2005 على وجه التحديد.

رابعاً: التحليل الزماني للداتا
إن المدة الزمنية القصيرة للبحث لا تتيح لنا ملاحظة تحوّلات كافية في نمط التأطيرات، لكن مع مدة بحث طويلة ومزامنتها بأحداث سياسية يمكن أن تمنحنا داتا ذات مغزى. يمكن عبر مراقبة حركة التأطيرات على مدى أشهر أن يتبيّن لنا كيف يجري التحضير الإعلامي لحدث ما أو لكيفية توجيه الجمهور باتجاه ما. رغم ذلك سنعرض لحركة التأطيرات خلال فترة الأسبوعين موضع الدراسة.
الرسم البياني الرقم 2 : نسبة كل تأطير بالنسبة إلى مجموعه الكلي بحسب الأيام المرصودة
إن محدودية المساحة الزمنية للدراسة، كما ذكرنا، تُصعّب إجراء تحليل زمني، لكن يمكن إيراد إشارات وليس خلاصات. هناك ارتفاع في ضخّ التأطيرات أيام 15 شباط و 22 شباط و25 و26 شباط. قد يكون الارتفاع يومي 15 و22 شباط مرتبطاً بكونه متزامناً مع يوم الإثنين أي بداية الأسبوع. أما يوما 25 و26 شباط فقد سبقا التجمّع في بكركي (27 شباط) ويُحتمل أن هذا الارتفاع كان من ضمن التجييش والتعبئة للقواعد الشعبية لتزخيم الحضور في المناسبة ومواكبتها. ومع أن تأطير الإرهاب حلّ في المرتبة ما قبل الأخيرة (المرتبة الثامنة) في الحاصل الكليّ إلا أنه في اليومين اللذين سبقا تجمّع بكركي (الذي تخلله هتاف متواصل: «إرهابي إرهابي، حزب الله إرهابي») نال المرتبتين الرابعة والخامسة بالمقارنة مع باقي التأطيرات ما يشير إلى ارتفاعه خلال هذين اليومين.

خامساً: التحليل ربطاً بمصدر النشر
يبقى أن نحاول تفحّص دور المواقع المرصودة في عملية التأطير موضع الدراسة. في ما يخص تركيز كل موقع على أية فئة من التأطيرات نلاحظ أن المواقع الموجّهة إلى الجمهور المسيحي مثل موقع الكتائب والقوات اللبنانية وقناةMTV وصحيفة نداء الوطن وإذاعة صوت لبنان ركّزت بشكل كبير على تأطير «المُهَيمن على الدولة» الذي حلّ أولاً في هذه المواقع. ويمكن ردّ ذلك إلى أن الجمهور المستهدَف، أي المسيحييين، لديهم حساسية فائقة تجاه فكرة الدولة وبالتالي يجري تحريضهم وإثارة سخطهم من خلال إبراز حزب الله على أنه تهديد لهذه الدولة وبذلك فهو مسؤول عن الأزمة القائمة وتداعياتها وبالتالي فهو يستخدم التيار الوطني الحر في هذا السبيل.
ستتحوّل الرسائل المضلِّلة إلى «حقائق» تبني عليها آراء ومواقف سياسيّة تخدم مصالح المتلاعبين بك، وجزء لا بأس به منهم ساهموا في سرقتك ونهبك وإفقارك


بينما المواقع الموجّهة إلى الجمهور السنّي، مثل صوت بيروت إنترناشيونال (المموّلة من بهاء الحريري) وأساس ميديا (المموّلة من نهاد المشنوق) ركّزت على تأطير الـ «ميليشيا». وهذا الأمر مرتبط بحساسية البيئة السنّية من سلاح حزب الله ربطاً بالاحتكاكات الداخلية بعد أحداث 7 أيار ثم مشاركة الحزب في الحرب السورية. فتكريس الحزب باعتباره ميليشيا مسلّحة يعزز من سردية الاستضعاف السنّي ويساهم تالياً في التعبئة المذهبية. أما موقع «جنوبية» فيحتل الموقع الأبرز في إطلاق الحملات وذلك لإضفاء المشروعية عليه كونه صادراً عن جهة «شيعية معارضة» وتركزت تأطيراته بالمقارنة مع باقي المواقع على كون الحزب مُهيمناً على الدولة ويمارس القمع وفاسداً ومأزوماً.

خاتمة: مثال حول التضليل المعلوماتيّ
لنختم بمثال واقعي حول التضليل، مع الإشارة إلى أن المثال ليس لنفي أو دحض وجود العديد من الانتقادات الوجيهة والواقعية للحزب في الشأن المحلي.
بتاريخ 16 شباط 2021 ألقى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله خطاباً أشار فيه إلى مسألة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت قائلاً (اقرأ بتمعّن): «في آخر كلمة أنا توجّهت ‏فيها لكم تحدثت عن تفجير المرفأ وقلت إن معلوماتنا تقول إن التحقيق الفني والتقني ‏انتهى... الكل قالوا لنا إن هذا الموضوع عادة أو قانوناً ‏أو عرفاً عندما يصدر تقرير ويذهب إلى القضاء يصبح ضمن مسؤولية القضاء... نحن لا نحمّل مسؤوليات كيف ما كان، إذاً المسألة اليوم عند القضاء، ‏الجهة القضائية المعنية من واجبها - وأنا أجدد الطلب - من واجبها أن تعلن نتيجة ‏التحقيق الفني والتقني لمرفأ بيروت، من حق الشعب اللبناني ومن حق الرأي العام... أن يعرف الحقيقة، ماذا كان في المرفأ؟ ما قصة المرفأ؟ كيف حصل الانفجار في ‏المرفأ؟ بعد ذلك اذهب إلى تحميل المسؤوليات وخذ وقتك وحقّق وقاضِ، يمشي في المسار ‏الطبيعي. أنا أجدد المطالبة بذلك وبإلحاح».
إذاً السيد نصرالله طلب بوضوح شديد من القضاء إعلان نتيجة التحقيق الفني والتقني بعدما توفّرت معطيات رسمية أنه انتهى، ثم متابعة استكمال التحقيق والمحاكمات وتحميل المسؤوليات حسب الأصول. فكيف جرى استهداف عقلك/ جهازك الإدراكي كمواطن لبناني مباشرة بعد الخطاب عبر حملة تضليل معلوماتي ممنهجة؟
خلال دقائق ولأيام وأسابيع لاحقة، أنت مواطن لبناني تشاهد في نشرات أخبار قنوات متلفزة رئيسية وبرامجها الحوارية، وتسمع تصريحات لسياسيين وصحافيين وإعلاميين وربما فنانين، وتتلقّى من أصدقائك والمؤثرين والصفحات التي تتابعها على وسائل التواصل الاجتماعي عشرات الإشعارات لمشاركات وتعليقات ومواد، تردد عليك جميعها الرسالة الآتية: «نصرالله يضغط على القضاء ليعلن انتهاء التحقيقات بانفجار المرفأ لحماية المرتكبين». أنت مواطن مهموم وساخط وغاضب من كل أزمات البلد، بالتحديد من انفجار المرفأ، ومن المحتمل جداً أنك لم تستمع للخطاب أو أنك استمعت، لكن بطبيعة الحال لم تدقق في المضمون، وليس لديك الوقت أو الطاقة أو المعرفة لتعود إلى النص الأساسي، وتتكرّر أمامك الرسالة ذاتها من أناس أو مصادر تثق فيها أو تميل إليها، وهي رسالة تحاكي موقفك النقدي أو السلبي من الحزب أو من كل القوى السياسية أو من الوضع العام. والنتيجة خلال ساعات أصبحت لديك «حقيقة» أن السيد نصرالله طالب بإنهاء التحقيق لحماية المرتكبين. وفي الأسبوع التالي قضية مشابهة وبعدها قضية أخرى وكلها متّسقة، بعضها مع بعض. بطبيعة الحال ستتحوّل كل هذه الرسائل المضلِّلة والموجّهة نحو جهازك الإدراكي إلى «حقائق» تبني عليها آراء ومواقف سياسية تخدم مصالح المتلاعبين بك (وجزء لا بأس به منهم ساهموا بسرقتك ونهبك وإفقارك) وليس مصلحتك ولا وضعك المعيشي ولا مستقبلك أو مستقبل عائلتك ولا الحقيقة ولا المحاسبة ولا العدالة.

* أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا