ميشال شيحا، كما نعرف، هو أحد مهندسي النظام السياسي والاقتصادي الذي أرسيت قواعده في العهد الاستقلالي عام 1943، التدخل المباشر للبورجوازية التجارية المالية ونزعة الاستقلالية الذاتية والحياد والالتصاق بالغرب. حاول الموالفة بين الإيمان والمال، بين النظام الطوائفي والاقتصاد الحر.أرسى شيحا منظومة فكرية شكّلت مرجعاً ودليل عمل لعقود من الزمن لنخبة لبنانية تجارية ومالية وسياسية، كما وضع موضع التنفيذ عدداً لا يستهان به من الأفكار والمشاريع، فهو كان محرّكاً للفكر السياسي والاقتصادي وللحياد والتوازن في السياستين العربية والدولية ومصدر إلهام للعديد من تلامذته الذين احتلوا المناصب الأولى في الدولة والإدارة، منهم الرئيس كميل شمعون الذي كان من دعاة الاقتصاد الحر والتحالف مع الغرب، لكنه شكّل علامة فارقة في التوجه نحو الأحلاف التي نبذها شيحا مع أنه من دعاة العلاقات مع الغرب.
ساهم بالدعوة للانفصال السياسي والاقتصادي عن سوريا عام 1950 بعد أن أدّى لبنان دوراً كبيراً كمركز تجاري للاتحاد الاقتصادي السوري - اللبناني. شهد لبنان في عام 1948 تحولات تجلّت بتدفق رؤوس الأموال والكوادر، مع الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ومع اضطرابات شهدتها مصر وسوريا في الخمسينيات والستينيات من جراء التأميمات التي حملت رؤوس الأموال البورجوازية إلى لبنان. فيما أدّى التزايد الكبير في إنتاج النفط في الحقول الخليجية إلى استثمارات ولا سيما في قطاع الخدمات، ونشط قطاع المصارف لاستيعاب الودائع القادمة من بلدان الخليج وقطاع العقارات عبر إنشاء المباني واستثمارها، كذلك ازدهر قطاع الخدمات التجارية وانتعش دور الوسطاء لتلبية الطلب السلعي لبلاد النفط، وبناء تجهيزات المرافق العامة وقطاع الخدمات الأخرى كالسياحة والاصطياف والتطبيب والتعليم.
لكن في المقابل تحوّل لبنان إلى مجتمع مَديني شديد المركزية، ازدادت فيه الهجرة الريفية وازداد التفاوت الطبقي والاجتماعي حدّة، كما أحيطت المدينة بأحزمة بؤس ونزوح أعداد كبيرة من فلسطينيّي 1967. أصبحت المدينة مكاناً للإثراء السريع الذي تبدّد مع الحرب الأهلية 1975 التي امتدّت إلى عام 1990 وضربت معظم المقوّمات التي قامت عليها مشاريع ميشال شيحا ورفاقه.
اضطرت الدولة في أواخر أيام الحرب الأهلية إلى الاستدانة لدعم بعض السلع كالقمح والمحروقات، بعد أن نشط الاقتصاد غير الشرعي للميليشيات وفقدت الليرة أكثر من 50 في المئة من قيمتها.
شكّلت المداخيل المحوّلة من المهاجرين عنصراً مهماً لسدّ بعض العجز، بعد أن شلّت الحرب النمو وتصدير الخدمات، ودخلت البلاد في حقبة من التضخم وتفاقم الدين العام وتراجعت الخدمات العامة والبنى التحتية وزادت موجات الهجرة.

من الشيحوية إلى الحريرية
هل خطّطت الحريرية السياسية التي تمثّلت بترويكا الحكم وبرؤساء الميليشيات التي انخرطت في مؤسسات الدولة لدور جديد للبنان بعد خمسة عشر عاماً من حرب مدمّرة؟ بعض النخب السياسية اضمحلّ بنظرها حلم التغيير والديمقراطية واللاطائفية والمواطنة التي سعت من أجلها قبل الحرب وذهبت إلى إعادة إنتاج لبنان ــ الرؤية الشيحوية.
وانخرط أصحاب ذلك الحلم في الدعوة إلى إعادة القيمة إلى مشروع شيحا للبنان ووصفوه بالرؤيوي على أساس أنه استبق العولمة. اقتصاديون ويساريون وإعلاميون دخلوا في التنظير للحريرية السياسية وإعادة الإعمار من أجل عودة لبنان إلى دوره السابق، مع العلم أن كل المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي قامت عليها فكرة شيحا كان قد عفا عنها الزمن، إذ شهد لبنان قبل الحرب مؤشرات اجتماعية سياسية خطيرة تأثّرت بمتغيرات على الساحتين الإقليمية والدولية انعكست صراعات وحروباً صغيرة امتدت من أواخر الستينيات والانجرار إلى الحرب، حيث انفجرت الصيغة اللبنانية التي قام عليها لبنان عام 1943.
هناك من يرى أن مشروع رفيق الحريري واجه صعوبات سياسية، لأن المقاومة أعاقت مشروع احياء الشيحوية، اي سياسة الحياد مع التوجه الغربي


تحول الدور الذي كان لبنان يعتبره نموذجاً اقتصادياً فريداً إلى إحدى ميزات العولمة المنتشرة في كل المحيط العربي، المتمثلة في تنمية قطاعات الخدمات والسياحة والتعليم والتطبيب والبنوك، بعد أن دخلت عصر الثورة التكنولوجية وبدأ القطاع الخاص بإنشاء البنوك التجارية واستمرّت البنوك اللبنانية في عملها، لكنها لم تعد وحيدة على الساحة إذ فقدت مكانتها المميزة. أما دور لبنان الوسيط التجاري بين الشرق والغرب فلم يعد ضرورة بعد التواصل العربي المباشر مع الغرب. فكان لزاماً على لبنان اجتراح دور جديد إلى جانب الخدمات والتجارة وإعادة بناء الدولة على أسُس مختلفة.
لم يُنظَر في السياسات الريعية ولم يُخطط لتصور اقتصادي واقعي. في عام 1993 لحظ تقرير البنك الدولي ضرورة تقليص النفقات وإصلاح القطاع العام على الأقل. إلا أن الحكومات المتعاقبة لم تلحظ خطةً قابلة للتنفيذ أو مشاريع يفترض أن يقوم بها القطاع العام أو إنفاقاً إنتاجياً، ولا توفيراً للمدّخرات لإطلاق القطاعات المنتجة للسلع. أما مصطلحات الزراعة والصناعة فغابت إلا بقدر بسيط. بعد ذلك ذهبت البلاد إلى اتفاقات تجارية من أجل الاستيراد وهي لا تملك ما تصدّره لتردم الهوة، وإلى الاستدانة من أجل تسيير عجلة الحكم وتوزيع وظائف الدولة والمحاصصة الطائفية في كل المؤسسات، وسادت ثقافة الفساد وسياسة الريع والاعتماد على العلاقات الشخصية من أجل جلب أموال خارجية هي ديون على البلاد.
يدافع البعض عن الحريرية السياسية، ولا سيما عن شخص الرئيس الراحل ومشروعه وبأنه واجه صعوبات سياسية بسبب وقوف فعل المقاومة في وجه مشروع إعادة إحياء جزء من الشيحوية على الصعيد السياسي، أي الحياد مع التوجه الغربي.

بين الحياد والمقاومة
فعل المقاومة لم ينشأ حديثاً في لبنان على الأقل منذ الاحتلال الإسرائيلي والنزوح الفلسطيني وتوقف اليد العاملة اللبنانية عن العمل في الأراضي المحتلة. لم توقف إسرائيل اعتداءاتها وقضم الأراضي اللبنانية واحتلال القرى السبع وإحالة حياة اللبنانيين عند الشريط الحدودي إلى حجيم، بعد إطلاق منظمة التحرير الفلسطينية الكفاح المسلح في الستينيات من القرن الماضي. ولسنا في صدد إعادة كتابة التاريخ، إنما للتنويه بأن المقاومة في لبنان ليست ترفاً أو خدمة للخارج كما يحاول بعضهم تصويرها، إنما هي دفاعية من أجل الحفاظ على الأرض. وهذا ما أثبتته المقاومة منذ أوائل الثمانينيات بشقّيها الوطني والإسلامي حتى توصلت إلى تحرير الأرض عام 2000 بعد أن كان الرئيس الحريري وآلته الإعلامية ومن خلفه داعمه وحليفه السعودي رافعين شعار «هون كونغ (السلام) مقابل هانوي (الحرب) في إشارة إلى المقاومة، على الرغم من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على قطاع الكهرباء وقصف الجسور.
لا تستوي الشيحوية التي تتالى فشلها على الأرض منذ نهاية الخمسينيات إلى حين انفجار الحرب الأهلية عام 1975. لم ينتبه منظّرو ومستشارو الحريري إلى أن إعادتها بيد سنية مدعومة عربياً (وليس بيد مارونية) لن تمكنها من إعادة الروح إليها. فهي أسلمت الروح إضافة إلى تغيّر موازين القوى السياسية بشكل جذري في لبنان والمنطقة.
كان الرئيس رفيق الحريري متأكداً في فترة محادثات مؤتمر مدريد في أوائل التسعينيات أن سوريا ولبنان سيكونان مشمولين بالصلح ، وذلك بالتزامن مع اتفاقيتي أوسلو في فلسطين ووادي عربة في الأردن. لكن التطرف الإسرائيلي اغتال رئيس الوزراء إسحق رابين من أجل إحلال السلام مقابل الأرض والأمن مقابل السلام وألحقه بعد الربيع العربي بالسلام مقابل السلام. فكرة الحياد التي تحملها فئة لبنانية اليوم بعد فشل الحريرية السياسية التي قادت البلاد إلى الإفلاس الاقتصادي والسياسي قد أثبتت فشلها التاريخي، فالمعتدى عليه دائماً كان لبنان وآخر الاعتداءات كان في عام 2006 أي بعد اغتيال الحريري.
مقاومة الإذعان في المفاوضات حول الثروة الغازية والتهديدات التي يعيشها لبنان لا تحمله على رفع الراية البيضاء بالتطبيع، إنما بمزيد من التمسك بأرضه وثروته وسيادته واستقلاله عن الهيمنة المراد له الوقوع في أسرها. المقاومة توفر للبنان عناصر القوة واقعاً في ظل متغيرات المنطقة. أما المسألة الاقتصادية فلا يحمل وزرها إلا غياب مفهوم السياسات التنموية وفكرة إقامة دولة المواطنة، وتصليب عود البلاد بالإنتاج والتعاون مع دول الإقليم، سوريا والعراق وإيران وتركيا والأردن والتشبيك من أجل التعاون التنموي والاقتصادي والسياسي مع من يشبهنا، وعلى هذا لن تُمس الحدود الجغرافية أو السيادة عندما يقوم تحالفنا انطلاقاً من المصالح الحيوية المشتركة، مستمدّين العبر من التاريخ ومتمرّدين على علاقات الهيمنة أو التبعية الأميركية ـــ الإسرائيلية.

* أستاذة جامعيّة، وباحثة في الشؤون السياسيّة



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا