تتسارع التطورات في أزمة السد الإثيوبي، التي تمدّدت لعشر سنوات، ما يُنذر بأننا أمام مشاهد قرب النهاية، إما انفراجاً أو انفجاراً.لم يعد ممكناً المراوحة في المكان باسم التفاوض حتى يُملَأ خزان السد الإثيوبي لمرة ثانية من طرف واحد في يوليو المقبل.
ما الذي قد يحدث إذا ما شرعت إثيوبيا في ذلك الملء الثاني بدون اتفاق مع دولتَي المصب مصر والسودان؟
لا يمكن استبعاد سيناريو واحد بالقرب من براميل البارود.
بالنظر إلى الإدراك السوداني الجديد لما يمكن أن يتعرض له نحو (20) مليوناً من مواطنيه في أرياف النيل الأزرق قريباً من سد الروصيرص من أخطار محدقة إذا لم يكن هناك اتفاق قانوني ملزم قبل الملء الثاني، فإنه لم يعد مستعداً لتقبل الرهانات القديمة على فوائد يجنيها من السد الإثيوبي خشية أن تداهمه الفيضانات بما لا يطيق.
كان ذلك تطوراً حاسماً في ملف أزمة سد النهضة الممتدة غيّر معادلات وحسابات وصنع مساراً جديداً يجد اختباره الحقيقي الآن باقتراب لافت من مصر لا مثيل له منذ عقود.
وبالنظر إلى الإدراك المصري لعمق أزمة شحّ المياه، كأزمة وجودية، إذا ما أفلتت بفضل مخزون بحيرة السد العالي من أخطارها عند الملء الثاني للسد الإثيوبي فإنها لا يمكن أن تعوض ما قد تسحبه ومرشحة أن تجد نفسها تحت الابتزاز المائي المنهجي.
هكذا تأسّست وحدة الموقف وأعادت الحقائق رسم التحالفات والسيناريوهات المحتملة بالقرب من مشاهد النهاية في أزمة السد الإثيوبي.
لأول مرة منذ بدء الأزمة ظهرت سياسة مشتركة ترفض بصوت واحد فرض الأمر الواقع والإجراءات الأحادية وتدعو للتفاوض وفق آلية دولية قادرة على الحسم.
دعمت مصر الاقتراح السوداني لوساطة رباعية دولية لإنهاء الأزمة بالتفاوض، رعاة وليسوا مراقبين، شأن المفاوضات السابقة، أوسع مدى من الاتحاد الأفريقي وتضم إليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة.
إذا لم يحدث اختراق حقيقي في أزمة المياه فإن براميل النيران سوف تشتعل.
هذه مسؤولية دولية لا يستطيع أحد تحمل عواقبها، تضرب في الأمن والسلم الدوليين بإقليم وادي النيل والقرن الأفريقي واستراتيجية البحر الأحمر.
دبلوماسياً: لا يوجد طرف واحد يلوّح باستخدام السلاح لحل مثل هذا النوع من الأزمات.
واقعياً: لا يمكن استبعاد احتمال العمل العسكري إذا ما أُغلقت الأبواب والنوافذ أمام التوصل لاتفاق ملزم ونهائي يضمن مصالح الأطراف المتنازعة.
لم تُبد إثيوبيا أي قدر من الاستعداد لتقبل اقتراح الرباعية الدولية، باسم رفض «التدويل».
استعادت مرة أخرى رغبتها في التفاوض على ذات الطريقة القديمة، وأكدت مجدداً التزامها بإعلان المبادئ (2015)، الذي لم تحترم أية تعهدات فيه.
المراوغة مجدداً مشروع صدام عند مشارف يوليو المقبل إذا لم يكن هناك ضغط دولي يلزم إثيوبيا بالانخراط في الآلية الدولية المقترحة.
في المشاهد المتحرّكة متغيرات عديدة تزكّي الضغوط الدبلوماسية بالمدى المنظور، لكنها غير مضمونة النتائج بذاتها.
هناك أولاً، رئاسة جديدة للاتحاد الأفريقي، الكونغو الديمقراطية، إحدى دول حوض النيل، لديها عنايتها الخاصة بالملف ومصلحتها في التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم، لكنها مقيّدة بحدود التفويض الممنوح لها وحسابات مصالحها داخل القارة.
هناك ثانياً، إدارة أميركية جديدة تلزمها مصالحها واستراتيجياتها بمنع نشوب حرب جديدة بالقرب من البحر الأحمر وبين حلفاء مفترضين لها، لكنّ جدول أعمالها مزدحم دون أن يكون من بينه حتى إشعار آخر أزمة مياه النيل.
أرجو تذكّر أنه أثناء ولاية الرئيس السابق «دونالد ترامب» توصلت وزارة الخزانة الأميركية والبنك الدولي إلى مسودة اتفاق رفضت إثيوبيا التوقيع عليها وتحفّظ السودان في ذلك الوقت فيما وقّعت مصر وحدها بالأحرف الأولى، وكان مثيراً أن وزير الخارجية الأميركي السابق «مايك بومبيو» شجّع علناً أديس أبابا على عدم التوقيع!
هناك ثالثاً، الاتحاد الأوروبي الذي يترقب ملفات أكثر إلحاحاً في الشرق الأوسط مثل أزمة الاتفاق النووي الإيراني وعينه على ما قد يتبعه الحليف الأميركي.
هناك رابعاً، الأمم المتحدة باعتبارها مظلة أوسع تضفي شرعية دولية على ما يتم التوصل إليه من اتفاقات، وقد جرت جلسة لمجلس الأمن بطلب من مصر أحالت الملف إلى الاتحاد الأفريقي الذي لم يتوصل إلى أي شيء رغم طول المفاوضات، التي تعود إلى المربع الأول مرة بعد أخرى.
إذا لم يكن هناك عمل شعبي ودبلوماسي مصري سوداني مشترك يطرح الأزمة على العالم فإن مستوى الاهتمام الدولي لن يرقى بأي حساب إلى مستوى الضغوط التي تنتج أثراً يُعتد به.
ما يغيّر المعادلات قوة الحقائق على الأرض، التي كان أبرزها في الأيام الأخيرة مستوى التقارب المصري السوداني في ملف السد الإثيوبي وغيره من الملفات، التي تدخل في شواغل البلدين.
لم تكن أزمة السد من استدعت وحدها التفاهمات والاتصالات.
كلا البلدين يحتاج أحدهما إلى الآخر وجودياً واستراتيجياً، وكلاهما مشدود إلى الآخر جغرافياً وتاريخياً.
هذه حقيقة لا نلتفت إليها كثيراً وندفع أثمانها دائماً.
هكذا وجد السودان نفسه متطلعاً إلى مصر، نصفه الآخر، باشتداد أزماته الحدودية.
عندما نجحت القوات السودانية بأن تستعيد إلى سيادتها أراضيَ شاسعة عبر ولاية «القضارف» ومنطقة «الفشقة» استوطنتها لسنوات طويلة ميليشيات إثيوبية مدعومة من أديس أبابا جرت مواجهات محدودة دون الانزلاق إلى حرب واسعة تحسباً للعواقب.
تردّدت في الخطاب الإثيوبي «نظرية الطرف الثالث»، الذي يشجع السودان ويقويه ويعمل على الوصول إلى نقطة الصدام المسلح، لم تذكر مصر بالاسم، غير أن حضورها في الصورة، «فرمل» أية نزعة لاستباحة السودان.
باليقين فإن الاتصالات والاتفاقيات العسكرية، التي رافقت زيارة رئيس هيئة أركان القوات المسلحة المصرية وقادة القوات الجوية والصاعقة والمظلات للسودان مطلع مارس الحالي، رسالة إضافية في وقت حرج أن السودان ليس وحده.
في أزمة الحدود بدا السودان أكثر ثقة في نفسه وقدرته على فرض سيادته فوق كامل أراضيه، وبدت إثيوبيا أكثر انكشافاً استراتيجياً في بنيتها الداخلية وصورتها الدولية معاً.
أفضت الصراعات العرقية الداخلية في إثيوبيا وجرائم الحرب، التي ارتُكبت بحق عرقية «التيجراي»، إلى تلطيخ سمعة أديس أبابا كدولة ناهضة حديثة تبحث عن التنمية وتحسين مستويات حياة شعبها، فإذا بها متهمة بجرائم ضد الإنسانية واستباحة مواطنيها على نحو استدعى أوسع إدانات دولية.
بالنسبة إلى السودان فإن أزمة «التيجراي» تنطوي على احتمالات متناقضة، فهي من ناحية تؤشر إلى هشاشة الوضع الداخلي الإثيوبي وتوسّع من نفوذ دوره فيه، بالنظر إلى الحدود الواسعة التي تجمعه مع «التيجراي» وأعداد اللاجئين الإثيوبيين الوافدين إليه هروباً من نيران الحرب الأهلية - نحو (60) ألف لاجئ... وهي من ناحية أخرى تضغط على أوضاعه الاقتصادية الصعبة بأكثر مما يطيق ويحتمل.
أمام الأوضاع المعقّدة فإن أكثر ما يحتاج إليه البلدان الشقيقان، مصر والسودان، في إدارة الأزمات التي تعترضهما، مكاشفة بعضهما الآخر بالحقائق ومحاولة ردم الأزمات المعرفية بين شعبيهما، التي يجري الاستثمار فيها من وقت لآخر.

*كاتب وصحافي مصري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا