اعتبرت الانتخابات العامة في أكثر من بلد عربي وفي أكثر من نظام سياسي مدخلاً للنظام الديمقراطي أو الدعوة اليه، وقد اتخذت في أكثر الأحيان وسيلة للشرعية السياسية أو طريقاً سياسياً للتضليل السياسي، عن طبيعة السلطة أو القوى المتنفذة فيها. بعض الأنظمة أخذ بها كآلية من آليات الديمقراطية، وغيرها اكتفى بها عنواناً لما يريده من شعارها العام. في التجربة مارست أغلب الأنظمة في الوطن العربي أشكالاً من الانتخابات، سواء تشريعية أم بلدية أم مهنية أم محلية، ولكن الأهداف اختلفت فيها داخلياً وما زال الحديث عنها مقروناً في مدى تحققها أو تقدمها. وفي فترات الانتخابات تصبح الحوارات حول أهميتها وحول البرامج والوعود الانتخابية هي الظاهر في المشهد السياسي، وهي الصورة المؤملة من الانتخابات، ولا سيما إذا طرحت تحديات وتصارعت إرادات، وتباينت رؤى وصار الحديث عن التغيير والتجديد وتحقيق الآمال والأحلام. وتلك في الصورة العامة أو المشهد العام، وقد لا تكون كذلك، وتغلب التسمية على المسمى، ولا يتم ما يرجى، رغم حصول ما يقال عنه باسم الانتخابات، وقد تمر فترتها أو مرحلتها دون ما ينذر منه أو يحذر منه. كما حصل في ظروف وبلدان كثيرة، بعضها انتهى إلى الأسوأ في تاريخه، وآخر تموجت عنده الأحوال. ولكن الأخطر الآن خصوصاً هو وضع هدف الحرب الأهلية في مسيرة الانتخابات. وهذا ما نراه اليوم في عدد من البلدان المتوجهة الى انتخابات عامة، بموعدها الاعتيادي أو بضغوط الحراكات الشوارعية والعوامل المؤثرة، الداخلية أو الخارجية.
وهنا الخطورة في القضية، أو الأخطر في استخدام وسيلة الانتخابات والعنوان الديمقراطي الى حرب أهلية، جربت أشكال منها بصور دموية ولكنها لم تكن أو تحسب في وقتها مستهدفة أساساً، أو لم ترسم كهدف لها، ويبدو أنها استعيدت الآن للاستفادة من تجربتها المأسوية، ومن تدخل صريح من مخططات خارجية لقوى خارجية تستثمر فيها لما تسعى إليه في كل مشاريعها في البلدان العربية.
في مراجعة الدعوة إلى مثالين للانتخابات في بلدين، فلسطين والعراق، يتوضح الاستهداف فيها ويوضع الهدف منها مباشراً ولا يحتاج إلى تغطية أو إنكار، بل يجري الحديث عن الهدف علناً، والأسوأ في الأمر استعداد الأطراف الذين سيشاركون في الانتخابات لمثل هذا الهدف والإعداد له بما يوفر مناخاته أو دوافعه الجاهزة، رغبة منهم أو دفعاً اليه، وتورطاً لا يمكن أن تخرج منه رابحة، ما بعد الانتخابات، إذا تمّت أو مرّت بسلام. جرت انتخابات عديدة سابقاً ومرت أخبارها، سلباً أو إيجاباً، بنسب متفاوتة أو باتهامات متعددة، ويمكن القول صارت هناك تجارب للانتخابات في الأغلب من البلدان العربية. وهذه التجارب بدروسها وعبرها مدعاة قراءة وتأمل وإعادة نظر لتزكية مشروعيتها وغاياتها الأساسية، وليست مصالح أنانية ضيقة، تعدم الفكرة منها أو الحاجة إليها أو الدعوة للتغيير عبرها.
الاحتلال يعمل على تفتيت الشعبين الفلسطيني والعراقي وزعزعة الاستقرار ونهب الثروات وترسيخ الهيمنة ورسم خرائط جديدة


في البلدين، فلسطين والعراق، تيارات سياسية وفكرية، وتنظيمات موزعة بينها، وأغلبية صامتة وحاضنة لها. ومن خلال هذه الخارطة الملوّنة والمشهد السياسي المفتوح عمودياً وأفقياً يدخل أو يتسرب الاستهداف الخارجي ويزرع قنابله الموقوتة التي تنتظر تلك الأوقات لرسم ملامحها وتغيير المشهد لمآلاتها وأهدافها، والأبرز فيها الحرب الأهلية وسفك الدم في الشوارع، مباشرة أو على مستويات أو محطات متتالية، متقاربة أو مبتعدة.
صدرت في البلدين قرارات بموعد إجراء الانتخابات، وعيّنت مفوضيات لها وتدرّجت في توفير مناخاتها وتيسير مراحلها وما يجب من خطوات سابقة عليها، ووعود أو أفكار عن قوانين الأحزاب والمحكمة العليا ولجان الإشراف والمراقبة ومخصصات مالية وغيرها من الأمور التي توصل إلى آلية الانتخابات المنتظرة كأداة للتغيير في عملية ديمقراطية لنظام سياسي مرهون بنتائجها في الحدود المعلنة. وفي التحليل السياسي، للواقع والوقائع، يمكن تقسيم القوى والأحزاب والفصائل السياسية المستعدّة لخوض الانتخابات، الى كتلتين أو جناحين، وفق تركيبهما الاجتماعي والطبقي والسياسي، اليمين واليسار، وقد جرت الصراعات في فلسطين داخل اليمين بقوّتيه البارزتين، حركتي فتح وحماس، وهمّش اليسار بكل فصائله السياسية، وعاش هو الآخر انشطاراته داخلياً، ما عكس ضعفاً وغربة منه في المشهد السياسي، ولعبت عوامل كثيرة في تعميق الهوة بين كل كتلة وداخل كل منها. وبات الانقسام السياسي والجغرافي معلماً، ولذا رفع شعار المصالحة الوطنية مقابله، لسنوات من دون أن يتحقق، رغم التوقيع على مواثيق وأوراق متعددة في اجتماعات متتالية وفي عواصم وشهود ووساطات من حكومات عربية، وربما آثرت هي الأخرى في الأزمة المستعصية في توحيد الكتل السياسية أو مركزة منظمة موحدة، مظلة جامعة لها، وهي كلها تعرف أنها ما زالت في مرحلة تحرر وطني على أرض محتلة وصراع وجود مع قوات احتلال استيطاني عنصري مدعوم من قوى خارجية تلعب هي الأخرى دورها في الأزمة وتعقيدها. ومثلها الحال في العراق، منذ احتلاله وتقسيمه الى مكوّنات على أسس طائفية وإثنية، ومحاصصات عرفية والتحكم في أدائها في العملية السياسية التي هندست بوصاية غزو عسكري واحتلال رسمي وهيمنة استعمارية، وتدرج التحكم في صراع الإرادات في تشكيله، وتأزيم أوضاعه بين مكوناته، ومن ثم بين كل مكوّن أو داخله بدرجات، وتكريس التفاوت أو الاختلافات بين فصائل كل مكوّن والدفع إلى تصعيد الصراعات البينية الى مرحلة الحرب الداخلية وتنفيذ البرامج والمخططات التي رفعت الى الرفوف منذ غزو البلاد واحتلاله، وتوفير الفرص لها مع تأهيل الاستعدادات الذاتية لها، وتقديم ما يؤجّجها ويدفعها الى التأزم ويحشرها في زاوية الوصول إلى الأهداف المخطط لها والموجهة ضمناً، والانطلاق لها من منصة الانتخابات والدعوة إليها، والتنابز حولها، وصولاً إلى نهاياتها التي أخذت مسارها العملي منذ بدء الحراكات والتدخلات فيها ورفع شعارات الانتخابات المبكرة مدخلا لها.
في الحالين، الفلسطيني أو العراقي، رفعت قضية الانتخابات وسيلة لحل الأزمات المتفاقمة في المشهد السياسي، ومسعى لحلحلة الجمود والتآكل السياسي والوهن في الاستمرار في الحكم والإدارة والسلطة والإفساد بنفس الأدوات وحتى الوجوه والمسميات، وطرحت الانتخابات مطلباً شعبياً للتغيير، لا آلية لتجديد النظام وإصلاح أدواته المترهلة. فجرى العمل عليها ضمن أهداف أبعد منها، وهي التي تبعث على الخشية منها والتنبيه قبل فوات الاوان. فقوى الاحتلال وأدواته ومتخادميه يعملون من دون كلل لزعزعة الاستقرار المحلي والاقليمي وتفتيت قوى الشعبين وتدمير الإرادات ونهب الثروات والعمل على الهيمنة ورسم خرائط جديدة تخدمها وتستغلها لمصالحها وأهدافها.
*كاتب عراقي



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا