لفترة طويلة شاع الرأي أن مصرف لبنان هو الذي حدّد سعر صرف رسمياً لليرة اللبنانية مقابل الدولار على أساس 1500 ليرة تقريباً للدولار الواحد. وبالفعل، نصّت المادة 18 من المرسوم الرقم 7308 تاريخ 28 كانون الثاني 2002 والمتعلق بأساس فرض الضريبة على القيمة المضافة على التالي: «في حال كان ثمن الخدمة أو المال محدداً بعملة أجنبية، ومن أجل احتساب أساس فرض الضريبة، على الخاضع للضريبة أن يحول هذا المبلغ إلى الليرة اللبنانية وفقاً لسعر الصرف الرسمي المعتمد بتاريخ إتمام عملية تسليم المال أو تقديم الخدمة». وهكذا يُفهم من هذا النص وجود سعر صرف رسمي يتوجب اعتماده من أجل احتساب الضريبة واستيفائها بالعملة اللبنانية.
دايفيد بلانكرت ــ الولايات المتحدة

وقد جاءت أيضاً المادة 301 من قانون الموجبات والعقود الصادر سنة 1932 كي تنص صراحة على التالي: «عندما يكون الدين مبلغاً من النقود، يجب إيفاؤه من عملة البلاد. وفي الزمن العادي، حين لا يكون التعامل إجبارياً بعملة الورق، يظل المتعاقدون أحراراً في اشتراط الإيفاء نقوداً معدنية معينة أو عملة أجنبية». أي أن اشتراط الإيفاء بين الأطراف بعملة أجنبية هو جائز في «الزمن العادي» كون العملة المحلية يمكن استبدالها بما يعادلها من المصرف المركزي بنقود معدنية ثمينة أو عملة أجنبية ما يستتبع وجود سعر صرف رسمي يمكن اعتماده في صرف العملة الوطنية بما يعادلها من عملات أخرى.
نلاحظ أن المادة 301 تشرح الزمن العادي بكونه الزمن الذي لا يكون فيه التعامل إجبارياً بعملة الورق. وبما أن التعامل بالأوراق النقدية التي يصدرها مصرف لبنان هو أمر إلزامي وفقاً لما أوردناه سابقاً يمكن الاستنتاج بأن لبنان اليوم ليس في الزمن العادي وبالتالي لا يجوز للأطراف الاشتراط في العقود الإيفاء بعملة أجنبية.
لكنّ هذا الاستنتاج سرعان ما يتبدد في حال عدنا إلى النص الفرنسي الأصلي للمادة 301 من قانون الموجبات والعقود التي تنص في صيغتها الفرنسية على التالي:
« Lorsque la dette est d’une somme d’argent, elle doit être acquittée dans la monnaie du pays. En période normale et lorsque le cours forcé n’a pas été établi pour la monnaie fiduciaire, les parties sont libres de stipuler que le paiement aura lieu en espèces métalliques déterminées ou en monnaie étrangère ».
فالمادة 301 تستخدم في نصها الفرنسي تعبير «cours forcé» وهذا المفهوم لا يعني أن العملة الورقية تتمتع فقط بقوة إبرائية ملزمة للجميع بل هي تعني أن العملة الورقية لا يمكن استبدالها حكماً بمعدن ثمين أو عملة أجنبية لدى مؤسسة الإصدار. فقانون الموجبات والعقود صدر سنة 1932 في فترة كانت البنوك المركزية في العالم تقوم على إمكانية تبديل النقد الورقي بما يعادله من نقود ذهبية وهو النظام الذي اعتمدته السلطنة العثمانية، إذ كان النقد الورقي الذي أصدره البنك السلطاني العثماني، وهو مؤسسة الإصدار الرسمية حينها، يمكن استبداله بفرع البنك الرئيسي في إسطنبول بليرات تركية ذهبية، وقد تم تعليق إمكانية التبديل هذه خلال الحرب العالمية الأولى بموجب المادة الثالثة من قانون صدر في 30 رمضان 1332 أعفى صراحة البنك من هذا الموجب، ما أدى عملياً إلى انتقال السلطنة العثمانية إلى نظام الـ «cours forcé». وهكذا نفهم أن المادة 301 تمنع تحرير إيفاء الدين بعملة أجنبية أو نقود معدنية ليس عندما يكون للنقد الورقي قوة إبرائية ملزمة (cours légal) لكن عندما يكون من غير الممكن استبدال النقد الورقي مباشرة بمعدن ثمين أو نقود أجنبية لدى مؤسسة الإصدار الرسمية. فهل يمكن في لبنان اليوم قانوناً الطلب من مصرف لبنان استبدال الليرة اللبنانية بمعدن ثمين أو عملات أجنبية؟ كي نجيب على هذا السؤال لا بد من مقدمة تاريخية سريعة تشرح النظام النقدي الذي كان سائداً في لبنان خلال مرحلة الانتداب الفرنسي وصولاً إلى إنشاء مصرف لبنان سنة 1964.
قبيل قيام دولة لبنان اتخذ المفوض السامي الفرنسي غورو القرار الرقم 129 تاريخ 31 آذار 1920 بحيث نص على استحداث عملة جديدة هي الليرة السورية ومن ثم منح امتياز إصدارها لبنك فرنسي عُرف بـ»البنك السوري». وقد نصت المادة الثانية من القرار المذكور على التالي: «أساس العملة هو الليرة السورية مقسومة إلى مئة غرش سوري. (...) إن أوراق بنك سوريا تدفع لحاملها لدى الاطلاع شيكاً على باريس بمعدل عشرين سنتيماً عن كل قرش سوري». وقد منع المفوض السامي عبر سلسلة من القرارات وبشكل تدريجي استخدام أي عملة غير العملة الورقية التي أصدرها البنك السوري.
في 23 كانون الثاني 1924 تم توقيع اتفاقية جديدة بين البنك والدولة اللبنانية، بحيث جرى تبديل تسمية البنك كي تصبح بنك سوريا ولبنان الكبير مع منحه صراحة امتياز إصدار النقد الورقي لفترة 15 سنة. وقد اعتبرت المادة الثانية من الاتفاقية أن العملة المنشأة بمقتضى قرار المفوض السامي سنة 1920 «تبقى العملة القانونية الوحيدة في مناطق لبنان الكبير وسوريا جبل الدروز. وهي دون سواها تُستعمل في تحديد الأسعار وفي إجراء كل تصفية بين الدائنين والمدينين سواء أكان ذلك في الإدارات العامة أم في مشاريع خاصة» علماً بأنه جرى أيضاً تعديل العملة كي تصبح الليرة اللبنانية السورية بدل الليرة السورية.
لم يصدر قانون يحدد قيمة الليرة اللبنانية بوزن ثابت من الذهب، وقد أصبح الأمر في منتهى الصعوبة الآن بسبب تطور النظام النقدي العالمي


وقبيل انتهاء الامتياز دخلت الدولة اللبنانية في عهد رئيس الجمهورية إميل إده بمفاوضات مع البنك، بحيث تم التوقيع على اتفاقية جديدة في 29 أيار 1937 نصت على تمديد الامتياز لمدة 25 سنة. وبما أن لبنان وقّع منفرداً هذه الاتفاقية دون سوريا، فقد أعلنت المادة الثانية من الاتفاقية استحداث عملة جديدة هي الليرة اللبنانية. وهكذا أبصرت الليرة اللبنانية النور من الناحية القانونية وقد شدّدت المادة الثانية على «أن العملة اللبنانية (...) هي العملة القانونية الوحيدة في لبنان أو وحدة النقد هي الليرة اللبنانية وهي تعادل عشرين فرنكاً فرنسوياً وتُقسم إلى ماية قرش». بينما نصت المادة الثالثة من الاتفاقية صراحة على «أن الأوراق المصدرة من البنك تُدفع عند عرضها على صناديقه في لبنان بموجب شيك على باريس من دون عمولة باعتبار الليرة عشرين فرنكاً فرنسوياً».
وهكذا يتبين لنا أن بنك سوريا ولبنان لم يكن يقوم بتبديل أوراقه التي أصدرها بما يعادلها من الذهب، لكن كان عليه أن يبدلها بفرنكات فرنسية بموجب شيك على باريس علماً أن الفرنك الفرنسي جرى تثبيته رسمياً كي يوازي مقداراً معيناً من الذهب بموجب قانون 25 حزيران 1928.
وبعد استقلال لبنان والقطيعة الاقتصادية مع سوريا صدر القانون، الوحدة النقدية في 24 أيار 1949 الذي نصت مادته الأولى على التالي: «إن الوحدة النقدية هي «الليرة اللبنانية» التي تساوي قيمتها 405,512 مليغراماً من الذهب الخالص، وهو المعدل المصرح به لصندوق النقد الدولي وتُقسم الليرة اللبنانية إلى مئة قرش». وهكذا تم التخلي عن النظام القديم إذ لم يعد بالإمكان استبدال الليرة اللبنانية لدى بنك الإصدار بفرنكات فرنسية بموجب شيك. لكن القانون الجديد لم ينص على إمكانية استبدال النقد الورقي بما يعادله من الذهب وفقاً للقيمة الجديدة التي تم تحديدها بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. لا بل أكثر من ذلك تم حصر استخدام سعر الصرف المحتسب وفقاً للقيمة الذهبية القانونية لليرة في بعض المعاملات الرسمية بينما قامت الدولة بشراء الذهب من السوق المحلي بسعر يفوق السعر الرسمي، ما أثار حفيظة صندوق النقد الدولي الذي اعتبر أن وجود أكثر من سعر صرف يشكل انتهاكاً لنظامه الذي يمنع مثل هكذا أمر دون الحصول على موافقة الصندوق (1).
شكّل وجود سعر صرف رسمي لا يُطبق فعلياً إلا نادراً وسعر صرف حقيقي سبباً لحصول خلل في طريقة احتساب تغطية النقد اللبناني. فقد فرض قانون 1949 أن يدخل الذهب في عناصر التغطية ما يعني ضرورة اعتماد السعر الرسمي للذهب من أجل احتساب نسب التغطية. ولما كانت الدولة اشترت الذهب أكثر من مرة بسعر أعلى من سعره الرسمي كان لا بد للخزينة من تحمل هذه الخسارة، الأمر الذي جرى تنظيمه بموجب المرسوم الرقم 15105 تاريخ 27 أيار 1949 الذي نصت مادته الثانية على التالي: «إن الذهب - مسكوكاً كان أو سبائك ذهبية - الداخل في التغطية يجب أن يقيد دائماً في حساب يدعى «ذهب التغطية» بالسعر الرسمي الرائج الذي يجب أن يعادل وزن الليرة اللبنانية بالذهب الخالص كما قبله صندوق النقد الدولي. إذا دخل في التغطية أو سحب منها ذهب مشترى أو مباع بسعر آخر فإن الفرق بين قيمة هذا الذهب بالسعر الرسمي وبين قيمة مشتراه أو بيعه، بعد إضافة جميع النفقات أو حسمها، تستفيد منه الخزينة اللبنانية أو تتحمله، ويقيده المصرف فوراً للخزينة المذكورة أو عليها في حساب خاص لا ينتج فوائد...».
إن هذا الخلل الذي يؤدي إلى وجود حساب خاص فيه خسائر الدولة بسبب الفرق بين السعر الرسمي لليرة وسعر شراء الذهب الحقيقي هو الذي يفسر لنا الأحكام الجديدة التي نص عليها قانون النقد والتسليف الذي صدر سنة 1963 والذي تم بموجبه تأسيس مصرف لبنان ومنحه حق إصدار الليرة اللبنانية. فخلافاً لقانون 1949 الذي حدّد قيمة الليرة بوزن محدد من الذهب نصت المادة الثانية من قانون النقد والتسليف على أن قيمة الليرة اللبنانية تحدد بالذهب الخالص بقانون دون تعيين ما هو المقدار الفعلي لهذه القيمة. وفي انتظار صدور هذا القانون نصت المادة 229 على منح وزير المالية صلاحية تحديد سعر رسمي انتقالي لليرة على أن يكون أقرب ما يمكن من سعر الدولار في السوق الحرة في بيروت. وبالفعل أصدر وزير المالية القرار الرقم 4800 تاريخ 30/12/1964 الذي نصت مادته الأولى على تحديد السعر الانتقالي القانوني لليرة اللبنانية نسبة إلى الدولار الأميركي «بمعدل ثلاث ليرات لبنانية وثمانية قروش لكل دولار أميركي»، في حين نصت المادة الثانية على التالي»تحدد أسعار العملات الأجنبية بالعملة اللبنانية من أجل استيفاء الضرائب والرسوم على أساس السعر الانتقالي القانوني المذكور في المادة الأولى بعد تحويل هذه العملات إلى دولارات أميركية على أساس معادلاتها بالذهب المعلن عنها لصندوق النقد الدولي».
وفي سنة 1973 بعدما قررت الحكومة الأميركية تخفيض قيمة الدولار الأميركي نسبة إلى الذهب اتخذ مجلس الوزراء في 21 آذار 1973 قراراً بتكليف وزير المالية تحديد سعر انتقالي جديد، وبالفعل أصدر وزير المالية القرار الرقم 883 في 28 آذار 1973 بحيث نص على أن الضرائب والرسوم التي تستوفيها الدولة وسائر مصالح القطاع العام عن المبالغ المحررة بالعملات الأجنبية تُحسب على أساس متوسط أسعار القطع الفعلية في سوق بيروت التي تكون قد تحققت خلال الفترة المتراوحة ما بين الخامس والعشرين من كل شهر والخامس والعشرين من الشهر الذي يليه».
تم تصديق هذه الإجراءات بموجب القانون الموضوع موضع التنفيذ بموجب المرسوم الرقم 6104 تاريخ 5/10/1973. وفي النهار نفسه تم منح الحكومة بموجب القانون الموضوع موضع التنفيذ بالمرسوم رقم 6105 تاريخ 5 تشرين الثاني 1973 صلاحية تحديد سعر انتقالي جديد للذهب، إذ نصت المادة الأولى على التالي: «ريثما يصبح بالإمكان تطبيق أحكام المادة الثانية من قانون النقد والتسليف تُعطى الحكومة لمدة ستة أشهر من تاريخ نشر هذا القانون، صلاحية تحديد سعر انتقالي قانوني جديد لليرة اللبنانية بعد استشارة مصرف لبنان وصندوق النقد الدولي». والظاهر أن الحكومة لم تستخدم هذا القانون كون النص الأخير الذي تمكنا من إيجاده هو قرار وزير المالية الرقم 883، علماً أن موازنة سنة 1985 منحت في المادة 51 منها وزير المالية صلاحية تحديد سعر الدولار لاحتساب رواتب الدبلوماسيين العاملين في الخارج.
وهكذا يتبين لنا أن سعر الصرف الرسمي يتم تحديده بقانون، وأن السعر الانتقالي كان هدفه عدم تحديد قيمة الليرة اللبنانية بوزن ثابت من الذهب لا يستطيع مواكبة تطور أسعار السوق الحرة، ما قد يؤدي إلى تحمل الدولة لخسائر كبيرة مع مرور الوقت. وحتى اليوم لم يصدر قانون يحدد قيمة الليرة اللبنانية بوزن ثابت من الذهب بشكل نهائي، وقد أصبح هذا الأمر من الصعب جداً حالياً بسبب تطور النظام النقدي العالمي واختلافه بشكل كبير عن الوضع الذي كان سائداً حين صدر قانون النقد والتسليف، إذ تخلت الولايات المتحدة سنة 1971 عن نظام تبديل الدولار الأميركي بالذهب وفقاً لأسعار ثابتة ما أفقد هذا النظام الأسس التي كان قائماً عليها منذ اتفاقية «برتن وودز» لسنة 1944.
وفي النهاية نعود إلى نقطة جواز إيفاء الديون بعملة أجنبية، إذ بات جلياً أن الليرة اللبنانية لا يمكن استبدالها لدى مصرف لبنان بما يعادلها من الذهب أو من العملات الأجنبية، وهذا ما تكرره أيضاً المادة الرابعة من قانون النقد والتسليف التي تعلن أنه «يمكن أيضاً إصدار قطع ذهبية، عندما يجيز القانون إعادة قيمة الأوراق النقدية بالذهب» على أن يتم تحديد مميزات القطع الذهبية بمرسوم يُتخذ في مجلس الوزراء، أي أن مصرف لبنان يمكن له أن يصدر عملات معدنية ذهبية شريطة إمكانية استبدال الورق النقدي بالذهب، الأمر الذي يعني أن تبديل النقد الورقي بالذهب يحتاج إلى صدور قانون يجيز ذلك، وهذا لم يحصل حتى اليوم (علماً أن مصرف لبنان أصدر في السنوات الأخيرة عملات تذكارية ذهبية دون صدور هكذا قانون ودون صدور مرسوم يحدد مميزاتها).
وهكذا يتبين لنا أن مصرف لبنان لا يحق له من تلقاء نفسه تحديد سعر صرف رسمي لليرة اللبنانية، هذا فضلاً عن اعتماده لأكثر من سعر صرف دون وجود أي معيار موضوعي أو نص قانوني يجيز له ذلك.

* أستاذ جامعي لبناني.
لشرح مفصّل حول ملابسات هذه القضية انظر:
joseph Oughourlian, Une monnaie, Un Etat, Histoire de la monnaie libanaise, érès, 1982, p. 165.