«متفوّقة من خلال الحبّ، وتميل بشكل أفضل إلى إخضاع الذكاء والنشاط دائماً للشعور، وتشكّل النساء تلقائياً كائنات وسيطة بين الإنسان والرجل» (أوغست كونت).
الثامن من آذار (مارس)، «يوم المرأة العالمي»، يومٌ يُجسّد تاريخاً من النضال والكفاح لجميع النساء، في صيغة الجمع وليس المفرد، كي لا نختصر كلّ النساء في واحدة. كي لا نحبس المرأة في مكانة ودور غير طبيعي.
8 آذار، ذكرى عالمية تحاكي مسيرة آلاف النساء في كلّ أرجاء الكوكب، كلّ النساء، يوم لمدّ يد التضامن والتلاقي، لتشكيل السدّ المنيع، للمطالبة بالمساواة بالحقوق وبالتحرّر من سيطرة النظام الأبوي الطائفي الرأسمالي.
إنه يومها، استحقّته «النساء» بجدارة، وخُطَّ بدماء نساء مجهولات، ضخّت فيه المرأة الروحَ والنبض والحبّ والأمل والفرح في غدٍ مشرق. يحيا يوم المرأة العالمي!
■ ■ ■

في هذه المناسبة تمّ إرساء رؤية لنهج نضالي جديد، دفع بالحركة النسوية لتعبر مراحل وموجات من التفاعل والتطور، دون مهادنة. واجهت الكثير من التحديات وتفرّع عنها الكثير من التيارات وأخذت أشكالاً عدَّة من النضال عبر الزمن.
أمّا اليوم، أمام تحديات العصر في هذا الزمن المتداعي، يرتفع الصوت عالياً نحو أشكال وأطر من النضال تستطيع أن تحاكي الواقع وتنصاع لنداء الآلف من الشابات والشباب الباحثين عن سبل للتغيير، اللاهثين وراء ثورة تعيد لهم ومض الحياة وتسحبهم من دوائر اليأس، وتدفعهم إلى تحديات فكرية نضالية ومجتمعية، تحثهم على مقارعة الواقع بالفكر والعزيمة.
لقد تخلّى الكثير من الحركات النسوية عن الأطر الحزبية، وسعت لتشكيل أطرٍ نسوية مطلبية، حققت الكثير، لكنها لم تستطِع زعزعة أساس الهيكل، الذي عاد وأطبق على الكثير من الحقوق مع تفاقم أزمة الرأسمالية نتيجة جائحة كوفيد- 19. فكانت النتيجة موجعة لكلّ اليد العاملة بشكل عام وللنساء بشكل خاص.
أمام هذا الواقع الأليم نرى إنه لا يمكن تحرير أنفسنا من خلال ترك هياكل الهيمنة مكانها، هذا ما أدركته نساؤنا اليوم، فتحرُّر المرأة ينضم الى تحرّر الفرد. لا يمكن اختزال الهيكل الأبوي في النظام الرأسمالي فقط، فهو وُجِد قبله، لكن الأخير تبنّاه من أجل تكاثره من أجل الربح والقيمة الفائضة. لكن أيضاً لا يمكن القتال من أجل المساواة فقط في العمل والحقوق دون التحرّك في اتجاه تدمير الرأسمالية، نحن لا نسعى إلى تقاسم هذه السلطة ولا الانسجام معها. بل علينا أن نتكاتف جميعاً مثل الحركة البروليتارية، فالحركة النسوية وجدَت في استغلال المرأة والسيطرة عليها قوة راديكالية، بل إن مثل هذه الراديكالية هي محرّك الثورة. علينا التفكير في بنية الهيمنة على النساء في النضال الثوري في إعادة النظر بالأيديولوجية التي تشكل ذاتيتنا في المجتمع. ولا يمكننا التفكير في الشيوعية دون التفكير في النسوية، فهما قدمان لنفس الجسد، جزء لا يتجزأ من الحركة الشيوعية، من هنا ضرورة أن تتشكّل الحركة النسوية على المستوى السياسي والنضال الأيديولوجي والنظري، مستفيدةً من تجذّر نضالها في المجال العام منذ زمن سحيق.
وإذا كانت الحركة النسوية قد ارتكزت في عملها وأدبياتها إلى التراث الاشتراكي العظيم في مجالات الفكر والفلسفة، فإنّ الأحزاب الشيوعية لا يمكن لها أن تكتفي فقط بالتحليل الاقتصادي والسياسي للواقع دون الغوص في بنية المجتمع، وتحديد مكامن الهيمنة التي تتمحور بشكل أساسي في المواجهة مع الإطار الأيديولوجي المجتمعي. والسعي لخلق مناخ يساند ويهدم كلّ المعوّقات أمام النساء ويؤمّن البيئة الهادفة داخل الحزب، المكان الأول لتشكل الوعي النضالي. إنّ إدراك ديناميات المجتمع ومواقع الهيمنة فيه وتحليل أسس المواجهة ينبغي أن يكون الحافز الأهمّ لانخراط النساء في مواقع القرار والمشاركة في صياغة سياسات الأحزاب الشيوعية وفي طليعتها حزبنا.
■ ■ ■

من الظواهر اللافتة في لبنان، اعتماد الأحزاب على القواعد النسائية في الترويج والدعم والتحرك والتنظيم اللوجستي والتواصل في القرى وأطر العمل الأهلي. فهن يمثلن الجسر نحو القمّة والرافعة الأساسية لكنهن يتراجعن عند مواقع القرار، فهن يتماثلن مع الإطار الأيديولوجي القائل: «وراء كل رجل عظيم امرأة»، ويفتخرن في فعل الدعم وليس الفعل.
وإذا ألقينا نظرة على العمل السياسي للنساء في لبنان، نرى بوضوح أنه يندرج ضمن حدود العمل السياسي الضيّق الأفق لأنه مقيّد بالطائفة والعائلة والحزب. نظامٌ قائم منذ قرن من الزمن على تقاسم السلطة بين الطوائف. هذا التمثيل الطائفي يشجّع نمط الزعامة النابعة من المحسوبية ومن الشخصية الأبوية والحامية، ومن الطائفة، وهذا النمط لا يحابي الرجال فحسب، بل هو مبنيّ عليهم. ومن هنا يبدأ التحدي، فمشاركة النساء في هذا النظام هو عبارة عن خرافة وليس فقط للنساء بل أيضاً لكل الشباب المؤمن بالتغيير من خلال تقديم المشاريع والخطط الفاعلة للتطوير. نحن في نظام سياسي معادٍ للتطوّر وللنساء.
لقد أعاق الاضطراب السياسي المستمر المترافق بسبات تشريعي كلّ تطوّر على صعيد إصلاحات التمييز على أساس النوع الاجتماعي أو الإصلاحات الانتخابية والسياسية. رغم التحسينات الإحصائية الطفيفة هنا وهناك، إلّا أنّ مشهد تمثيل المرأة في السياسة الوطنية ظلّ مشهداً قاتماً.
العمل السياسي للنساء في لبنان يندرج ضمن الاطار الضيّق الأفق لأنه مقيّد بالطائفة والعائلة والحزب


يعزّز الدستور اللبناني من التعارض بين حقوق المرأة اللبنانية كفرد وبين مكانتها القانونية كفرد أدنى في وحدة اجتماعية ذكورية، ألا وهي العائلة. فيما تكفل المادة السابعة المساواة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين، يفوّض الدستور جميع مسائل الأحوال الشخصية (الزواج، الطلاق، الميراث، الحضانة، النفقة، إلخ) للمحاكم الدينية المختلفة.
وعلى الرغم من الواقع السيئ المحيط بالنساء في لبنان الذي استعرضناه أعلاه، إلّا أنّ هذا العام نُحيي يوم المرأة العالمي على وقع انتفاضات العالم العربي بموجاتها المتتالية وبمرور عام على انتفاضة 17 أكتوبر في لبنان. لذلك، لا بدّ لنا من توجيه التحية إلى النساء اللواتي احتللن الساحات وانتزعن وجودهنّ المصادَر من المنظومة الطائفية القمعية، فرفعن الصوت للإفراج عن قوانين قيدّت حريتهنّ وحقوقهنّ وحرمتهن من أطفالهن وذلتهن في حياتهن الزوجية، ولخلاصهنّ من نير رجال الدين المسلط على حياتهن الشخصية. ظهرت الحركة النسائية كمحرك أساسي في عملية التغيير الجذرية والشاملة، رافعة مطلب الدولة العلمانية وفصل الدين عن الدولة. والمدخل الحتمي لهذا التغيير يكون من خلال إقرار قانون مدنيّ موحّد للأحوال الشخصية، ومنحها الحقّ بإعطاء المرأة جنسيتها لأولادها وإقرار قانون يجرّم المعنّف والمغتصب والمعتدي.

■ ■ ■

أعلنت النساء أنهن لن يتراجعن عن المواجهة، فكُنّ عرضة لاستهداف قوى السلطة، في محاولة لكسرهن وترهيبهن ودفعهن إلى الانكماش على ذاتهن والعودة إلى الانصياع. إنّ ظاهرة العنف السياسي الممنهج من قِبل السلطة وأدواتها على المنتفضين بشكل عام والمنتفضات بشكل خاص، لم يقتصر على لبنان وحسب، بل انتشر في كل الدول العربية والمغاربية التي شهدت انتفاضات، من مصر، حيت اتُّهمن بالدعارة ومورس عليهن فحوصات العذرية. إلى تونس التي رغم الإنجازات الهائلة، لم تسلم من الإسلام السياسي المتربص والساعي لانتزاع الحقوق بكلّ الوسائل المتاحة. إلى سوريا من خلال تعذيب المعتقلات السياسيات إلى الإبادة الجماعية للنساء الأيزيديات والمقاتلات الكرد من قِبل داعش وتركيا. وصولاً إلى كندكات السودان المناضلات. والاغتيالات والترهيب الممارس على الناشطات العراقيات «والنائبات» المنتخبات من أجل التخلي عن دورهن التشريعي ومواجهة التطرّف الديني. إلى الرفيقات المعتقلات في الصحراء الغربية. وصولاً إلى الأسيرات الفلسطينيات في سجون العدوّ الإسرائيلي، من فتيات صغيرات في السنّ.. إلى العجزة والمريضات بهدف ردعهنّ عن المشاركة في مناهضة الاحتلال وما يعانين من ذلّ وترهيب على حواجز العار، إلى هدم منازلهن وتشريدهن واعتقال أزواجهن وأبنائهن. وأثناء كتابة هذا المقال، صدر حكم نعتبره غير شرعي كونه صادراً عن محكمة صهيونية باعتقال المناضلة الفلسطينية خالدة جرّار لمدة عامين. إنّ هذا الاعتقال سيزيد المناضلة إصراراً على المضي قدماً في النضال ضدّ الاحتلال.
إن ظاهرة اعتقال النساء مرتبطة بطبيعة هذه الأنظمة الرجعية المحافظة والعميلة ومن منطلق المساواة بين الأرض والعرض بكسر العين تداري النساء عن جلاديهن. سجون الذُلّ والقمع وممارسة الإرهاب هو مدخل لإذلالها وتكريس الأجساد وضبطها بغية إنهاكها وإلحاق الهزيمة بها. تخيفهم النساء عندما يحتللن الشوارع، يتحدّين ذكوريتهم المريضة. فهنّ يقاتلن كتفاً إلى كتف مع أطفالهن ورجالهن وأحبائهن، هذه القوة والحرية ترعبهم!
من أساليب العنف السياسي أيضاً، يبرز العنف اللفظي والتجريح وتشويه سمعة الناشطات السياسيات والتعرّض لأعراضهن فيتحوّل الخلاف السياسي إلى حملة تشويه سمعة وإذلال يطال الجسد، جسد الأنثى، كمن يستثني أي قدرة على النقاش الفكري والسياسي للنساء. وللأسف أيضاً تمّ استعمال حق الكوتا النسائية، كأداة للمحاربة النساء بالنساء أنفسهن. مثلاً في العراق صوّتت «نائبات» ينتمين إلى الأحزاب الإسلامية المتطرّفة ضدَّ القرارات الداعمة للحقوق النساء، وهذه تعدّ مفارقة غريبة جداً. بالإضافة إلى كلّ ما ذكر، فإننا نشهد ازدياد سعار التطرّف الديني على أشكاله ضدّ النساء الأحرار، والهجوم المستمر على علاقاتهن الاجتماعية وأساليب عيشهن، بهدف استبعاد الأصوات الحرة.
حاولنا ومن خلال هذا المقال تبيان صعوبة التحديات المُلقاة على عاتق النساء المغامرات والمنخرطات في العمل السياسي في لبنان وفي العالم العربي، من الاستهداف السياسي المباشر إلى الضغوطات الاجتماعية والدينية. من الإرادة الصلبة في الدفاع عن حقوق كلّ المهمشين والمستضعفين إلى القناعة الثابتة بمقارعة الأنظمة القمعيّة والإمبريالية المهيمنة فكرياً وثقافياً.
■ ■ ■

لهنّ، عبق رحيق شهر آذار، بوردة للنساء الأسيرات المقاتلات الشرسات، معاً في ثورة ديمقراطية نواجه فيها الأنظمة القمعية التابعة والأيديولوجية الدينية الرادعة لأيّ تحرّر اجتماعي.
نضالنا مستمر للحبّ والأمل والحياة، في أصعب اللحظات في مواجهة جائحة قاتلة، التي أبطأت حركة دوران الأرض واعتقلتنا أسرى منازلنا، فرضت القوانين لتقوّض حرية الحركة والعمل والتعليم. فالتزم الناس منازلهم. في خضم هذه المعركة الشرسة تواجه النساء بشكل خاص معركة قاسية، تُضاف إلى تفاقم المسؤوليات (من الاهتمام بالمنزل وتحضير الطعام وتدريس الأطفال...)، تتمثل بالعنف المنزلي، الأرقام المتزايدة مخيفة، نساء فقدن أرواحهنّ نتيجة ثورة غضب زوج، يعبّر عن وحشية، وتملّك أعمى، مدعوم بتهاون السلطات.
وأخيراً، ليكُن هذا اليوم حافزاً جديّاً للنظر في قضايا النساء بمنظار جديد، ولنكُن على يقين أن زعزعة أسس الهيكل، بهدف تدميره يحتاج إلى بناء بيئة مناسبة داخل الحزب، حزب يضجّ بالشابات المُفعمات بالأمل والنشاط، يبعثن الحياة في قطاعاته، شابات مقاتلات لا يهبنَ المواجهة، شابات يشاركن في القرار السياسي. فشهيدات وأسيرات ومقاتلات ومناضلات الحزب أضأن مرحلة مجيدة من تاريخه، وما زلن يُلهمن الآلاف بشجاعتهن وتحدّيهن للواقع ورفضهن للظلم. لنتبنَّ القضايا النسوية الماركسية في نضالنا الحزبي اليومي نساءً ورجالاً، ومنهجاً فكرياً أيديولوجياً يتطرّق إلى علاقات اجتماعية بديلة عمّا يفرضه هذا المجتمع، من خلال القوانين التنظيمية المساعدة لضمان إشراكهن في العمل وتمثيلهن في الهيئات وصولاً إلى مواقع القرار.
*عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني، ومسؤولة مكتب قضايا وشؤون النساء – افتتاحية مجلّة «النداء» التي تصدر اليوم

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا