أمام التعقيد الحالي في المشهد الفلسطيني، اختار الأمين العام لـ«حركة الجهاد الإسلامي» في فلسطين، زياد النخالة، مصارحة الشعب الفلسطيني، في لحظة مفصلية يتعلّق بها مصيره ومستقبله. صارح النخالة الشعب الفلسطيني، قبيل الانتخابات التشريعية المقبلة، مبيّناً موقف الحركة من الانتخابات التشريعية المقبلة، وليطلق كذلك تحذيراً لا لبس فيه، مفاده أنّ ما يجري الإعداد له هو «ذهابٌ للحرب بعد الانتخابات». الحرب التي يحذّر منها النخالة ليست مع العدو هذه المرة، بل حرب فلسطينية داخلية.قدّم النخالة، في المقابلة التي أجراها مع فضائية «فلسطين اليوم»، مساء الجمعة 19/2، منطلقات رفض «حركة الجهاد الإسلامي» للمشاركة في الانتخابات التشريعية المقرّرة في 22 أيار / مايو المقبل. المنطلق الثابت هو رفض الحركة المبدئي لاتفاق أوسلو المشؤوم، ورفض المشاركة في أيّة مؤسّسة من إفرازاته، كالمجلس التشريعي وغيره، وهو موقف معروف للحركة من الاتفاق الذي أُشبع نقاشاً على مدى أكثر من 25 عاماً.
غير أنّ موقف الحركة لا يقف عند تمسّكها بموقفها المبدئي، بل يتجاوزه إلى الأخطار السياسية المحدقة التي ستجرّها الانتخابات على الشارع الفلسطيني. أول هذه الأخطار وأكبرها يتعلّق بالسؤال عن «ما الذي سيحدث في اليوم التالي» للانتخابات؟ قرّر المتّفقون على إجراء الانتخابات الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، من دون الاتفاق على إدارة المرحلة المقبلة - بحسب ما يقولون - وأنّ الشارع هو الحكم. فماذا لو فازت حركة «فتح» في الانتخابات، كيف يمكن لها أن تتسلّم إدارة قطاع غزّة، وماذا سيكون موقفها من سلاح المقاومة والغرفة المشتركة لقوى المقاومة، وكلّ ما تعتبره السلطة غير شرعي؟ هل ستقبل حركة «حماس» المساس بسلاحها؟ ناهيك بقبولها بالتخلّي عن سلطتها في قطاع غزة، مقابل عدد من الأعضاء في المجلس التشريعي. هل يُعتبر ذلك ثمناً مقبولاً لدى «حماس»؟ وفي حال فازت «حماس» في الانتخابات، فما هي الضمانة أن لا تُكرّر حركة «فتح» سياستها السابقة في ترك الجمل بما حمل، وترك «حماس» تواجه مزيداً من الحصار ومواجهة الموقف الأميركي، بل والموقف العربي الداعم للتطبيع أيضاً؟ بل كيف يمكن لـ«حماس»، في حال فوزها، إدارة الضفة الغربية التي تتحكّم إسرائيل بكلّ مفاصلها؟
إنّ التوجّه إلى الانتخابات من دون اتفاق على هذه القضايا المفصلية والرئيسية يعني ببساطة «نقل المشكلة إلى الشارع»، و«دفع ثمن الحصار والانقسام مرّتين»، بحسب كلام النخالة.
يرى الأمين العام لـ«حركة الجهاد الإسلامي»، أنّ التوجّه إلى الانتخابات في هذه المرحلة جاء استجابة «للبيئة المحيطة، ولا سيما في ظلّ تصاعد موجة التطبيع العربي، ووجود إدارة أميركية جديدة، ضغطت على الفلسطينيين لترتيب الوضع الفلسطيني الداخلي باتجاه التعايش مع متطلّبات هذه الإدارة والشروط الإسرائيلية». وبذلك، فإنّ محصلة هذه الضغوط، أوجزها النخالة بقوله إنّ «هذه الانتخابات محسوب لها إقليمياً ودولياً كي تنتج حكومة تذهب إلى طاولة المفاوضات أياً كان الناجح فيها، ومن لا يقبل تُفرض عليه عقوبات دولية وعربية من جديد... كلّ مشروع الانتخابات هو الذهاب للتفاوض مع إسرائيل... سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا».
إضافة إلى الموقف المبدئي والقراءة السياسية، يطرح النخالة سبباً ثالثاً ذا طبيعة «إجرائية» تجنَّب المجتمعون في القاهرة الإشارة إليها في بيانهم، وهي «تحكّم الاحتلال بكلّ مفاصل الحياة، الأمنية والاقتصادية والعسكرية، في الضفة الغربية والقدس»، طارحاً جملة من التساؤلات التي تغافل عنها البيان، مثل: إن كانت إسرائيل ستسمح بإجراء الانتخابات في القدس الشريف أصلاً، وهذه مسألة أبعد من أن تكون شكلية أو إجرائية بل مسألة أساسية حتى للسلطة ذاتها. فإن قبلت السلطة الفلسطينية إجراء الانتخابات بدون القدس، أو قبلت بالتحايل الصهيوني حول طريقة إجرائها في المدينة المقدّسة، فذلك يعني بوضوح أنّ السلطة قبلت بحذف القدس الشرقية من خريطتها التي تطالب بها، وقبلت بأهم جزء من «صفقة القرن»، وهي اعتبار القدس كاملة موحّدة عاصمة للكيان الصهيوني، وهذا هو الموقف نفسه الذي قبلت به إدارة جو بايدن، رغم كلامها عن إمكانية التفاوض بشأن الحدود في القدس. ثمّ ما هي الضمانة أن يسمح العدو لمرشّحين على قائمة «حماس»، أو غيرها، القيام بحملات انتخابية في المناطق (ج) التي تسيطر عليها قوات الاحتلال إدارياً وأمنياً وعسكرياً؟
النخالة غير مقتنع بما يسمعه من توافق بين حركتَي «فتح» و«حماس» على 90% من القضايا الخلافية بينهما، وتساءل عن 10% «المتفجّرة» الباقية. ذلك أنّ هذه المشكلات السياسية والإجرائية لا يمكن للجانب الفلسطيني وحده أن يتحكّم بها، «فالاحتلال هو الشريك الغائب في جلسات الحوار الفلسطينية». كما أنّ هذه القضايا لا يمكن حسمها في صناديق الانتخابات، ولا تأجيلها إلى ما بعد صدور نتائج الانتخابات.
ليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها الشعب الفلسطيني «مذبحة» يراد جرّه إليها. سبق تجربة ذلك في اتفاق أوسلو


وعليه، جاء موقف «حركة الجهاد الإسلامي»، على لسان أمينها العام، واضحاً: «لذلك، كان رأينا أن نتّفق على هذه المسائل، ونذهب إلى الانتخابات كجزء من الاتفاق، لا أن تكون الانتخابات هي كلّ الاتفاق... لا نريد أن نعود إلى الانقسام مجدداً، لذلك قرّرنا أن لا نشارك... ليس فقط بسبب أوسلو، بل أيضاً بسبب خطورة هذه الانتخابات».
أول ما يتوجّب التوافق حوله فلسطينياً هو الموقف من إسرائيل. ربما بدا حديث النخالة عن هذه النقطة صادماً بشأن عدم وجود «توصيف فلسطيني موحّد» عن الكيان الذي يحتلّ أرضهم وسبب مأساتهم ومعاناتهم: فهل هو «شريك»، أم «دولة جارة»، أم «محتل» و«عدو». هذه هي النقطة الجوهرية التي تؤسّس لأية وحدة فلسطينية حقيقية، وليس «تدوير الزوايا في البيانات ثمّ ينفجر الخلاف مجدداً ويدفع ثمنه المواطن الفلسطيني».
ومع ذلك، أكّد الأمين العام لـ«الجهاد الإسلامي» أنّ الحركة ستشارك في كلّ الحوارات الفلسطينية، حتى وإن كانت لها مواقف مختلفة عمّا تُجمع عليه الفصائل الفلسطينية. وقال بوضوح: «لا يمكن ولا يجوز استثناء حركة الجهاد الإسلامي بما لها من وزن وثقل من أيّ حوار فلسطيني، ونحن لن نغيب عن أيّ حوار، سنشارك ونصوّب ونُسمع الآخرين رأينا، ويسمع الشعب الفلسطيني موقفنا»، مؤكداً في الوقت عينه أنّ «حركة الجهاد الإسلامي»، «لن تعرقل، ولن تضع أية عقبة أمام مجريات ما اتفق عليه الآخرون». موقف «حركة الجهاد الإسلامي»، التي لم تكن يوماً طرفاً في الانقسام الداخلي، يأتي من رفضها أن تكون جزءاً من أيّ انقسام فلسطيني جديد ترى أن المسار الحالي سيوصل إليه، سيكون أقسى وأصعب وأشدّ على الشعب الفلسطيني من الوضع الحالي. ووفق المنظور نفسه، أعلن النخالة المشاركة في اجتماع القاهرة، الشهر المقبل، حول انتخابات المجلس التشريعي «لنرَ إن كان سيتغيّر شيء».
قرّرت «حركة الجهاد الإسلامي» مصارحة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، من منطلق أنّ «الشعب هو الذي يضحّي ويدفع بأبنائه إلى مقاومة الاحتلال، وهو الذي يدفع ثمن الخلافات». في حديثه، كان النخالة واثقاً في ارتكازه إلى الشعب الفلسطيني الذي «لن يتخلّى عن حقوقه في أيّ حال حتى لو بدا أنّ هناك من يقبل ويتفاوض ويجتهد... هناك من يقول إنّه يجتهد... وطوال ربع قرن كانت السلطة تجتهد... إذا افترضنا أنّ هناك 50% فقط في الداخل يؤيّدون المقاومة، فإنّ كل الفلسطينيين في الخارج يؤيّدون المقاومة... وكذلك الشعوب العربية والإسلامية».
هذا الكلام الذي ورد على لسان النخالة غاية في الأهمية، فهو من جهة يقول إنّ ما وصل إليه الوضع الفلسطيني لم يعد يحتمل مزيداً من «المجتهدين الجدد»، ويذكّر من جهة ثانية بأنّ «دفع الفلسطينيين كلّهم دفعاً إلى مذبح الجلوس أمام الإسرائيلي والقبول بالشروط الإسرائيلي، يجب أن لا نقبل به، وإلّا لماذا نحن حركات مقاومة؟»، مشيراً إلى أنّ الظروف التي أوجدها اتفاق أوسلو، والتي تمكّن العدو من خلالها من ربط حياة الفلسطينيين في الداخل بعجلته الاقتصادية، يرفضها نصف الفلسطينيين في الداخل، هم المؤيّدون للمقاومة، والأهم أنّه يرفضها كلّ الملايين الستة من الفلسطينيين في الخارج، الذين لا يحقّق لهم اتفاق أوسلو أيّة مكاسب، بل جاء على حسابهم المطلق. والإشارة هنا واضحة: حتى لو أدّت الضغوط إلى مفاوضات... وحتّى لو أدّت المفاوضات إلى اتفاق (وهو مشكوك فيه أصلاً)، فإنها قد تحلّ مشكلة الداخل، لكن ماذا عن أكثر من باقي الشعب الفلسطيني الموجود في الخارج؟
ليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها الشعب الفلسطيني «مذبحة» يراد جرّه إليها. سبق تجربة ذلك في اتفاق أوسلو، فكانت المقاومة «التي نشأت وقامت من الصفر» هي الرد. وهذه المرة أيضاً، إن جرى إخضاع الفلسطينيين في الداخل، فإنّ الفلسطينيين في الخارج لا يزالون مستعدّين للمقاومة، وسيقاومون دفاعاً عن أرضهم ووطنهم وقضيّتهم.
ومع ذلك، يقول النخالة بوضوح إنّ الرهان على أية مفاوضات مستقبلية مع الاحتلال هو رهان خاسر سلفاً، ذلك أنّ «الضفة الغربية التي تسمّيها إسرائيل (إيهودا والسامرة) هي جوهر المشروع الصهيوني، ولن تقدم فيها أية تنازلات». وكل الضغوط التي تتعرّض لها القوى الفلسطينية، بما فيها ضغوط من بعض «الأصدقاء»، تقوم على مبدأ «سحب ذريعة الانقسام الفلسطيني من يد إسرائيل كي تتهرب من المفاوضات، كي لا تعطيكم شيئاً»، التي يرد عليها النخالة بالتساؤل: «لكن من قال إننا نريد المفاوضات أصلاً؟ ومن قال إنّ إسرائيل يمكن أن تعطي شيئاً، وهي لا تعترف لا بوجود دولة فلسطينية، ولا بوجود شعب فلسطيني»، بينما يمارس كلّ الضغط على الجانب الفلسطيني وحده لتقديم تنازلات.
محور المقابلة كان مصارحة الشعب الفلسطيني بأنّ هذه الانتخابات لن تجلب له «السمن والعسل»، وأن لا ينساق وراء الأماني والأوهام، مذكّراً بكلّ التفاهمات السابقة حول تحسين الأوضاع سواء في الضفة أو في غزة، من دون أن ينفّذ منها الكيان الصهيوني شيئاً، إلّا تحت ضغط المقاومة، وعندما يرى أن مستوطنيه في خطر. دون ذلك لن يقدم الاحتلال شيئاً.
السؤال المطروح الآن، هو عن المطلوب من الشعب الفلسطيني. لم يدع النخالة من قريب أو بعيد إلى مقاطعة شعبية للانتخابات، بل ترك الخيار مفتوحاً حتى أمام «حركة الجهاد» نفسها، إن وجدت أنّه من المناسب دعم جهة ما بحسب برنامجها الانتخابي، ومن منطلق الحفاظ على المقاومة. وذلك موقف خاص بالحركة، لكن ماذا عن الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج؟ هل ثمّة إمكانية لفعل شيء لتجنّب الكأس المرّة: كأس الحرب الداخلية؟ ذلك ما ينبغي أن يكون موضع نقاش مجتمعي واسع، في الداخل والخارج، للدفع باتجاه فرض «الاتفاق قبل الانتخابات». وهذا دور جميع القوى المجتمعية بدون استثناء، ويأتي المثقّفون وروابط العائلات والوجهاء في مقدّمتهم.
ولقائل أن يقول إنّ مِن شأن توافق انتخابي وحكومي بين حركتَي «فتح» و«حماس» أن يجنّب الشعب الفلسطيني مرارة الاقتتال والانقسام والحصار مرة أخرى. وربما يكون ذلك صحيحاً، ولا سيما في ظلّ حديثٍ عن السعي لتوافق بين الحركتين على قائمة انتخابية واحدة. لكن، ألا يثبت ذلك كلّ كلمة أخرى قالها الأمين العام لـ«حركة الجهاد»؟

* كاتب فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا