استطاع وباء كورونا أن ينهك العالم بأسره من دون تمييزٍ بين دولةٍ وأخرى، وبين شعبٍ وآخر، حاصدًا عشرات الآلاف من الوفيّات، ومخلّفًا خسائر جسيمة طالت شظاياها الاقتصاد والصحة والثقافة والمجتمع. بغضّ النظر عن أسباب نشأة هذا الوباء، أكان من صنع يد الإنسان أم من صنع الطبيعة، إلا أن اللافت في الأمر أنه استطاع أن يغيّر أبسط تفاصيل العيش، بحيث إنه خلق تباعدًا بين أفراد العائلة الواحدة، وضربًا للقيم وللعادات الاجتماعية، واستنزافًا للقطاع الطبي، كاشفًا عن ضعفٍ في أنظمةٍ صحّيةٍ لطالما تغنّت بأنها من أقوى النظم، كما شكّل حجر عثرةٍ أمام النظم التعليميّة المعتمدة. بمعنى آخر، حقّق هذا الوباء ما لم تستطع حروب السلاح أن تحقّقه من أعداد وفياتٍ، وشرخ المجتمع الواحد، وتذويب الثقافات والقيم، وإفلاس الاقتصادات. أمام هذا الواقع، يستنجد الإنسان بأمل إنتاج اللقاح أو الدواء المناسب علّه يكون خشبة الخلاص من هذا الكابوس ويعيد إليه نشاطه الاعتيادي.والآن، وبعدما شهد ويشهد العالم بأسره هذا الكمّ الهائل من التغيير في أنماط العيش والسلوكات الاجتماعيّة والتربويّة وما قد يخلّف ذلك من آثار سلبيّة على المجتمع، ينبغي الوقوف على الواقع اللبناني والتساؤل عن: ماذا بعد كورونا؟ كيف يمكن ترميم ما هدّمه هذا الوباء من روابط وعادات اجتماعية؟ ما هي خطط إنقاذ التربية من أتون الإفلاس المعرفي والأخلاقي؟ كيف يمكن للدولة أن تغطّي عري النظام الصحيّ؟
استطاع هذا الوباء أن يقطّع الأوصال والروابط العائلية والاجتماعية، وأن يجعل من الفرد رهينة التكنولوجيا وعبدًا لها، إذ أضحت مواقع التواصل وسيلة الاتصال شبه اليتيمة للتفاعل من خلالها مع مشكلات الفرد والمجتمع، مع اختزالٍ للمكان والزمان، وكأن المطلوب من هذا الوباء القضاء على ما تبقّى من قيمٍ وعادات موروثة. إضافة إلى ذلك، يسعى هذا الوباء إلى ترسيخ اللاعدالة الاجتماعية من خلال إجراءاتٍ تتّبعها الدولة للجم أعداد كورونا، فتقفل القطاعات الإنتاجية وتشلّ الحركة الاقتصادية رغم معاناتها، وتمنع هؤلاء الذين يعتاشون من رزقهم اليومي من العمل، مقابل وعود واهية بمساعداتٍ مالية وعينيّة، في ظلّ غيابٍ للسياسات الاجتماعية. وفي المقابل يتمادى سفّاحو المواد الغذائية والطبية والمحروقات بسرقاتهم لتعظيم أرباحهم على حساب قوت الفقير وذوي الدخل المحدود من دون حسيبٍ ولا رقيب.
ومن الناحية التربوية، كثيرة هي الآراء والمنتديات التي انتقدت تجربة الدولة اللبنانية في التعليم عن بعد، الذي أظهر فشله نتيجة ضعف المشاريع التنموية والبنى التحتية في الدرجة الأولى، إلى جانب تحدّيات أخرى أعاقت سبل نجاحه. قاد هذا النمط إلى انعدام الجودة التربويّة وإلى استنزاف قوى المعلّمين الذين لطالما سعوا وفقًا للإمكانيات المتوافرة إلى إيصال كمّ من المعارف والخبرات، إلا أنّهم اصطدموا بعوائق كثيرةٍ منها عدم مبالاة المتعلّمين، وضغوطات عائلية واقتصادية، والتذاكي والغشّ، وكأن الامتحانات قد أعدّت للأهل لا للمتعلّمين، وانعدام التفكير التحليلي والنقدي والإبداعي لصالح الاتكاليّة والسطحية ...، كل هذا أدّى إلى خلق وادٍ عميق بين الغايات التربوية وواقع التعليم.
لكن لِمَ هذا التأخير في طرح استراتيجيات تقويم هذا الخلل القائم؟ فمهما طالت فترة الوباء سرعان ما سيزول. إذن، ما هي الخطط والهندسات التربوية التي وُضعت لمعالجة الإخفاقات التي ولّدها التعليم عن بعد، بحيث إن المتعلمين في عطلة أو في أحسن الأحوال شبه عطلة فقدوا حتى الآن سنتين من المعارف والمهارات، وما هو السبيل لتعويضها؟ هل المعنيّون متيقّنون ممّا ستكون النتائج (المخرجات) عليه بعد فترةٍ، علماً بأن التعليم قبل جائحة كورونا لم يكن أيضًا بالمستوى المطلوب.
لا يظنّن أحد أنه يمكن للمتعلّم (في مختلف المراحل الدراسيّة) أن يعوّض ما خسره من دون اعتماد خطط معدّة لتعويض هذا النقص. إضافة إلى ذلك، بات المتعلّم اللبناني يعيش حالات نفسيّة صعبة نتيجة انحسار أنشطته الجسديّة ولقاءات الرفاق، وحصر أنشطته بالألعاب الإلكترونية والإنترنت، مع التساؤل عن إمكان أن يفصلوا بين الغثّ والسّمين، وما يعيد عليهم من فوائد أو ما يسبّب ذلك من انحدار المستوى الأخلاقي والثقافي.
أما في ما يتعلّق بالقطاع الصحيّ، الذي لطالما كان لبنان ترياقًا لمحيطه العربي، فقد أظهر هذا الوباء عريه وعدم قدرته على مجاراته. ففي ظلّ الظروف الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان، يشهد القطاع الصحيّ كسائر القطاعات نزفًا هائلاً في طاقمه الذي يلجأ إلى الهجرة للهروب من كابوس الفقر، فضلاً عن سلوك بعض المستشفيات التجاري، حيث ترى في المريض فريسةً تنقض عليه لتنهش ما تبقّى من فتاتٍ في جيبه. أما المستشفيات الحكومية، ورغم الدعم الماديّ والنوعيّ الذي تلقّته، إلا أنها ما زالت تتخبّط في مشكلات جمّة. أمام هول هذا الوباء وفحش بعض المستشفيات واضمحلال قدرة أخريات، يرى المريض نفسه على قارعة طريق الطوارئ، أو في أحسن الأحوال على كرسيّ في ممر متعلّقًا بجهاز تنفّسٍ يربط مصيره بين الحياة والموت.
للأسف، تفقد الدولة يومًا بعد يوم هيبتها أمام مواطنيها، نظرًا إلى ما يعانونه من ظروفٍ معيشيّة سيئة، ومن واقعٍ صحيّ يهدّد حياتهم، في ظلّ أرقام إصابات ووفيات عالية تُسجّل يوميًا، واضطرابات أمنيّة متنقّلة، من غلاء معيشيّ يعكس فحش التجار، واحتكار ونقصٍ في الأدوية والمستلزمات الطبية، ونسبٍ عالية من البطالة والفقر،... وفي المقابل، تصارع الدولة طواحين دونكشوتيّة وتعجز عن القيام بأدوارها وتتخبّط بإجراءات تتّخذها لا تأتي بما هو مطلوب. أمام هذا الكمّ الهائل من الركام المتساقط على رؤوس اللبنانيين، ما زالت الطبقة السياسية تتلهّى بخلافاتها، غير مكترثةٍ لجوع المواطن وألمه، فماذا بعد؟

* أكاديمية لبنانية