إذا لم تكن هناك مراجعات حان وقتها لما جرى في البيت الفلسطيني من انشطار بين الضفة الغربية وغزة قبل نحو أربعة عشر عاماً، فإنه يصعب الرهان على أية مصالحة توقف ما تتعرّض له القضية الفلسطينية من تجريف متّصل.إنهاء الانشطار ضرورة وجود.
بتفكيك وحدة الشعب والقضية أخذت الانهيارات مداها واستُبيحت كلّ الحرمات.
فقدت القضية الفلسطينية مركزيّتها وجرت هرولة عربية للتطبيع مع إسرائيل.
وصلت المفارقات مداها بإدانة الجامعة العربية اعتراف «كوسوفو» بالقدس عاصمة لإسرائيل وإبداء استعدادها لنقل سفارتها إليها، فيما كانت قد صمتت على موجة التطبيع المجاني الذي أقدمت عليه دول عربية عديدة!
ككلّ قضايا التحرر الوطني فإن القضية الفلسطينية سياسية وحقوقية وإنسانية في وقت واحد.
إذا لم يكن هناك أفق سياسي فإن أيّ تقدم معرض للانتكاس.
ما موضوع المصالحة... على أي أساس... ووفق أي برنامج؟
هذا هو السؤال الجوهري قبل الانتخابات وبعدها.
من حيث المبدأ العام لا يصح أن تتأسّس مصالحات على استعداد مسبق لتلبية أية تنازلات قد تطلبها إدارة «جو بايدن» من دون أن يصدر عن دولة الاحتلال أيّ استعداد لأي انسحاب بما في ذلك الجولان السوري المحتل!
المراجعات شرط ضروري لتجنّب المزالق الماثلة في فكرة المصالحة، التي أخذت زخماً جديداً في مباحثات القاهرة بين خمسة عشر فصيلاً فلسطينياً.
مراجعة السياسات وأوضاع الخلل لا استعادة قواميس التعريض المتبادل.
أكثر الملاحظات جوهرية على ما توافقت عليه الفصائل الفلسطينية باختلاف توجّهاتها غلبة ما هو إجرائي على ما هو سياسي، كأن الانتخابات الرئاسية والنيابية المزمعة سوف تجدد الشرعية المستهلكة وتؤسس لمرحلة جديدة في العمل الفلسطيني المشترك.
قد يقال إنه في الظروف الحالية يصعب التعويل على أي مدخل سياسي لإنهاء الانقسام باستثناء إطلاق العبارات الإنشائية من وقت لآخر عند اشتداد الأزمات بما يشبه إبراء الذمة أمام الرأي العام الفلسطيني الغاضب، ففجوات الثقة واسعة وتجربة الانشطار مريرة وزوايا النظر متناقضة.
هذا صحيح، لكنه لا يؤسس لشرعية حقيقية تنتسب إلى طلب التحرر الوطني ولا يضمن الوحدة الداخلية على أي مدى.
كانت اتفاقية «أوسلو» بقيودها الغليظة عبئاً على القضية الفلسطينية وفرص توحّد فصائلها، وجاءت أولى انتخابات تشريعية لتفتح الباب واسعاً لسيناريوهات الانشطار الداخلي عام (2007).
لم يكن يخطر ببال قيادات «حماس» أن تحصد أغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وعندما باغتتها النتائج لم تتردد لحظة واحدة في الدخول إلى معترك السلطة، أو أن تقبل سلطة بنيت على أساس تعارضه جوهرياً.
كان ذلك مأزق «حماس» الذي ذهبت إليه باختيارها.
في كلام سمعته من «خالد مشعل» رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» فإن «السلطة فكرتها خاطئة، ووجودها قفز على مراحل الصراع مع إسرائيل، وأن «عرفات» قد تعجّل، لكنها الآن أمر واقع لم يعد من الممكن تجاوزها، أو إلغاؤها إلا بتوافق وطني كامل... وهذا مستحيل».
في كلام آخر لـ«إسماعيل هنية» الذي خلفه في منصبه: «رفض السلطة يعني رفض التفويض الشعبي، وإحباط لمعظم الفلسطينيين الذين منحوهم أصواتهم في الانتخابات التشريعية».
ما إن دخلت «حماس» مأزق السلطة حتى أصبح الخروج منه مستحيلاً.
كان تقدير مفكّرين فلسطينيين أن «حماس» أخطأت في قبول السلطة، غير أن الخروج منها، أو حل السلطة نفسها قد يزكي انقلاباً عسكرياً يقوم به رجال إسرائيل في الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
عندما نجحت السعودية في عقد اتفاق بين حركتَي «حماس» و«فتح» في مكة المكرّمة لتشكيل حكومة وحدة وطنية إثر الانتخابات، لم يكن هناك من يعتقد أنه قابل للبقاء.
كان توقّع «مشعل» – وأنا أنقل نصاً من أوراق سجلت عليها تصريحاته الخاصة: «أن ينهار الاتفاق بين 6 شهور وسنة»، وهو ما حدث فعلاً.
هكذا جرى الانشطار في الأراضي الفلسطينية المحتلة بالحسم العسكري على ما تقول «حماس»، أو الانقلاب العسكري بتوصيف «فتح».
تمدّد الانشطار بآثاره وتداعياته إلى صلب القضية الفلسطينية وشرعية المقاومة نفسها.
كان ذلك من تداعيات اتفاقية «أوسلو»، فلم يسبق في التاريخ السياسي الحديث أن تولّت حركة تحرير السلطة قبل أن تحرر أراضيها، وتعرف حدودها، وتنشئ قواعد سيادتها الكاملة عليها، أو على جزء منها كنقطة انطلاق لاستكمال مهمتها في تحرير بقية الأراضي المحتلة.
صمّمت «أوسلو» على نحو يسمح للاحتلال بالبقاء بأقل التكاليف السياسية.
اعتقد الزعيم الفلسطيني «ياسر عرفات» أن بوسعه أن يحسّن شروط اللعبة عند وضع قدميه على أرض السلطة.
سمح بنوع من الزواج السري بين السلطة والمقاومة، غير أن إسرائيل حاصرته، واخترقت صفوف رجاله، واغتالته بسمّ في النهاية، من دون أن يجرؤ أحد من أنصاره على طلب تحقيق دولي في الاغتيال!
في أعقاب «أوسلو» مباشرة استمعت من رئيس المجلس الوطني الفلسطيني «سليم الزعنون ـ أبو الأديب» أثناء لقاء خاص في بيت صديق فلسطيني مشترك بضاحية مدينة نصر يقول، وهو يقف منتشياً: «لقد أكّلهم أبو عمار الأكلة».!
كان صادقاً في مشاعره، يعتقد أن «عرفات» قد خدعهم، وتمكن من دخول الأراضي المحتلة، وأنه سوف يتمكن في النهاية من بناء دولة مستقلة لها سيادة، وعاصمتها القدس.
كان ذلك ما يعتقد فيه «عرفات» نفسه، غير أن التجربة أثبتت فشل ذلك الرهان، فقد مزّقت إسرائيل عملياً الاتفاقيات التي وقّعتها. توسعت في بناء المستوطنات، وبنت جداراً عنصرياً يمزق الأرض ويحيل ما تبقّى من فلسطين التاريخية إلى أشلاء، ومع ذلك أخذ الفرقاء الفلسطينيون يتصارعون على أشلاء وطن وأطلال سلطة بالقتل خارج القانون وعلى الهوية السياسية.
كان أسوأ ما جرى في المشهد الفلسطيني الدامي تصويره كما لو أنه اختيار بين «العملاء»، و«الأمراء».
لم يكن يصح تلخيص «فتح» في «جنرالات إسرائيل في الأجهزة الأمنية»، أو رجال في قمة السلطة حولها شكوك بالفساد، أو تجاهل التنظيمات السياسية الأخرى مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الشريك الرئيسي لـ«فتح» في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
ولم يكن يصح تلخيص «حماس» في الدعوة إلى «إمارة إسلامية»، أو الحكم عليها بالإعدام الأدبي للحماقات الكبرى التي صاحبت الحسم العسكري من قتل على الهوية، وإجبار بعض القادة الأمنيين على الركوع عرايا، أو انتهاك حرمات بعض الأديرة، أو التصريحات الطائشة من نوع أن الحسم العسكري يشبه «فتح مكة»!
بأي حساب تاريخي فإن «فتح» أكبر وأقوى التنظيمات المسلحة الفلسطينية، والعمود الفقري الذي تأسست عليه منظمة التحرير الفلسطينية، و«حماس» تولّت في مرحلة لاحقة مسؤولية المقاومة المسلحة وقدمت شهداء وتضحيات.
استثمرت إسرائيل في الانشطار للمضي قدماً في مشروعها الاستيطاني على ما تبقّى من أراض فلسطينية.
في ذلك الوقت نشأت ثلاثة اقتراحات في ما يتعلق بالغطاء السياسي للتفاوض بين رئيسَي «فتح» و«حماس» محمود عباس وخالد مشعل.
الأول - أن يُعقد في الجامعة العربية وبرعايتها.
والثاني - أن يُعقد برعاية مصرية – سعودية مشتركة.
والثالث - أن يُعقد - كما جرت العادة – برعاية رئيس الاستخبارات المصرية.
مال التصور العام لقيادة «حماس» إلى الموافقة على الاعتراف – مجدداً – بولاية الرئاسة الفلسطينية على غزة بجوار الضفة، والدعوة إلى إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على أسس احترافية ووطنية وفق اقتراحات أمنية مصرية سابقة. بل إن «حماس» وافقت – من حيث المبدأ العام- على قبول فكرة حكومة وحدة وطنية جديدة لا تقتصر – هذه المرة – على محاصصة مقاعدها بين «فتح» و«حماس» بدخول فصائل أخرى إليها مثل «الجبهة الشعبية» و«الجهاد».
الأفكار الأساسية تعيد إنتاج نفسها في كل مرة حتى مباحثات القاهرة الأخيرة.
إذا لم يحدث اختراق سياسي ببرنامج مرحلي يؤسس لوحدة حقيقية بين الفلسطينيين وفق قاعدة أن القضية أهم من الفصائل فإن النتائج لن تتغيّر.

*كاتب وصحافي مصري