لا يجزم أحد بـأن عملية انتخاب رئيس جديد للجمهورية ستتم في موعدها الدستوري، أي قبل الخامس والعشرين من شهر أيار المقبل. يكاد يكون العكس هو الصحيح. معظم «العارفين»، من ذوي المواقع الرسمية والسياسية والحزبية المؤثرة، يُعلن، من دون كبير تردد، بأنّ الأرجحية هي لاحتمال تجاوز المهلة الدستورية الى أجل غير معروف.
يجري لهذا الغرض، وبشكل «طبيعي»، التذكير بأن الانتخابات الرئاسية في لبنان، إنما هي، تقليدياً، ثمرة تفاهمات خارجية تتولى المؤسسات الدستورية اللبنانية، تظهيرها بشكل شرعي.
لا يغير في هذا الواقع إلحاح الكاردينال الماروني بشارة الراعي على ضرورة اعتماد دينامية أمر واقع تستجيب للنص الدستوري وتقطع الطريق على الذين يدفعون نحو «الفراغ»، أي نحو خلو سدّة الرئاسة الأولى. لا يعني ذلك أن الراعي غير ملم بقواعد «اللعبة» في لبنان. إنه يمارس عملية حضّ على التحرك والمبادرة خوفاً على هذا الموقع الماروني، الذي سيكون شغوره عامل إضعاف إضافي للمسيحين في توازنات السلطة والنظام الطائفيين. السيد حسن نصر الله، بدوره، اقترح السعي لانتخاب رئيس «صُنع في لبنان». هو يدرك تماماً أن هذا الامر متعذر، لكنه يعبر عن «رحرحة» متزايدة بسبب تأييد حزب الله زعيم «التيار الوطني الحر» المرشح العماد ميشال عون، وبسبب التطورات الميدانية في الوضع السوري التي لعب الحزب دوراً مؤثراً جداً في احداثها.
لا يعني ذلك، ايضاً، أن «السيد» لا يدرك قواعد اللعبة القائمة. هو، على الاقل، ممن كرروا اتهام الفريق الاخر، بافتقاره للقدرة على اتخاذ القرار في الشؤون اللبنانية الاساسية بسبب علاقة مع الخارج الحليف لا تسمح له بذلك. في المقابل، طبعاً، فريق الرابع عشر من اذار يطلق اتهامات مماثلة بشأن علاقة تحالف 8 آذار بكل من إيران وسوريا.
لا شك في أن ثمة فارقاً متحركاً ما بين تحالفي الثامن والرابع عشر من اذار لجهة درجة التأثر بالخارج الحليف، لكن المشترك بينهما فيما يقيمان من علاقة وثيقة مع حلفاء خارجيين. وهي علاقة تزداد تعمقاً وتوسعاً يوماً بعد يوم. وآخذاً بعين الاعتبار جملة العوامل الفاعلة في هذه العلاقة (السياسية والروحية والمالية...).
يمكن القول، من دون تردد أو تعسف، إن القوى الخارجية الحليفة، عربية او غير عربية، هي الطرف الاقوى والاكثر قدرة على تحديد بوصلة هذه العلاقة واتجاهاتها، بما في ذلك حيال الامور الداخلية اللبنانية الاساسية. إلى ذلك، فإن الاستقواء بالخارج هو عنصر مكوِّن واساسي في لعبة الخصومة والصراع الداخليين في لبنان. وهي لعبة تنظمها المحاصصة السياسية والطائفية والمذهبية ويكرسها النظام السياسي اللبناني القائم والمُتبنى من قبل الفريقين على حد سواء.
تتجه علامات التعجب، أكثر، إلى «الفريق السيادي» اللبناني. لا يتردد رموز منه في تأكيد أن القرار الاقليمي والدولي هما مرجعية الاستحقاق الرئاسي.
يقولون ذلك، لا عن تبرم وامتعاض، بل عن مقبولية وتسليم مطلقين!
يقود تتبع مواقف هؤلاء الى أنه على اللبنانين أن ينتظروا، أولاً، تحسّن العلاقات بين الملك السعودي عبد الله والرئيس الأميركي باراك اوباما. كذلك يجب انتظار تفاهم ما، أميركي ـ فرنسي. لقد أشير مراراً الى اهتمام فرنسي ملحوظ بالاستحقاق الرئاسي: مرة بالتجديد او التمديد للرئيس ميشال سليمان، ومرة اخرى بالتراجع عن هذا الاحتمال... ورغم أن فرنسا لم تعد لاعباً أساسياً في لبنان والمنطقة، إلا أنها تبقى، مع ذلك، وبسبب مزاج فرنسي جموح، عنصراً «مفيداً» في دعم اتجاه او عرقلة آخر.
وعلى الضفة نفسها ايضاً نقع على انخراط سعودي كبير في الوضع اللبناني. وهو انخراط سياسي ومالي وأمني، زادت في تظهيره وزيادة حجمه الازمة السورية من جهة، وتراجع واشنطن عن لعب دور مباشر، عسكري وأمني، في تقرير مسارات هذه الازمة، من جهة ثانية. يجعل ذلك من السعودية صاحبة تطلُب خاص، لم يكن قائماً على هذا النحو من قبل.
لا شك أيضاً، في أن للفاتيكان رغباته، وكذلك لعدد من الدول العربية والغربية: بريطانيا ومصر... هذا إضافة إلى أن اللبنانيين يستثيرون، من خلال تهاونهم بأمورهم واتصالاتهم و«حركشاتهم»، شهية الآخرين لإبداء رأي أو موقف.
أما في المحور الآخر فسوريا وإيران أعلنتا، بشكل مباشر أو غير مباشر، سعيهما لانتخاب «رئيس ممانع». تداخل الوضعين اللبناني والسوري يجعل السلطة السورية، في كل الظروف تقريباً، شريكاً مؤثراً في مجمل الاستحقاقات اللبنانية.
لا شك إذاً، أن القرار يعود الى القوى الخارجية، توافقاً أو تعارضاً. لكن اللبنانيين، «السياديين» خصوصاً، لا ينامون على ضيم! فمهما كانت الصيغة التي سينتهي اليها الخارج، فإن البصمة اللبنانية تبقى ضرورية سواء عقد المجلس النيابي جلسة في «ساحة النجمة» أو في الدوحة القطرية، أو في الطائف السعودية، أو في سانت كلو الفرنسية!
إنها مهزلة تتحول، بفعل التفاقم والفئوية الى مأساة حقيقية. فهي، اولاً، تشير إلى ازدياد الانقسام والتشرذم وتداعي المشتركات الوطنية حتى فيما يتصل بالامور البديهية. وهي، ثانياً، ترهن استقرار لبنان ومؤسساته، وحتى وجوده نفسه في مراحل الازمات (وهي كثيرة ومتفاقمة الآن)، للقوى الدولية والإقليمية الأكثر تأثيراً. بديهي أن النتائج لن تكون بالضرورة، ودائماً، لمصلحة لبنان واللبنانيين، مجتمعين أو حتى لمصلحة أحد طرفي انقسامهم!
من نتائج الانقسام وعلاقة التبعية والارتهان استمرار المسائل الأساسية في الوضع اللبناني، معلقة حتى إشعار آخر، بما في ذلك الدولة والسيادة والاستقرار والكيان نفسه. وهو امر يرتب مخاطر على كل صعد: امنية وسياسية واقتصادية... وخصوصاً اليوم، حيث يكثر الحديث عن إعادة النظر بخرائط البلدان كاحتمال قد تنتهي اليه الصراعات القائمة باشكالها السياسية واللاتنية والمذهبية، كلياً أو جزئياً.
ثمة خلل جوهري يعكسه الاستحقاق الرئاسي كما عكسته كل الاستحقاقات الكبيرة المماثلة. إنه خلل يستدعي فعلاً وطنياً إنقاذياً استثنائياً لوقف التدهور وجبه المخاطر واحتمال انقاذ لبنان وفتح مسار جديد في تاريخه، وربما في تاريخ المنطقة، على غرار ما كان عليه الانجاز الشعبي اللبناني في مقاومة العدو الصهيوني وفي الانتصار عليه في أكثر من معركة حتى الآن!
* كاتب وسياسي لبناني