منذ إعلان «حماس» موافقتها على إجراء الانتخابات الفلسطينية العامة وفق رؤية رئيس السلطة، محمود عباس، والتخلي عن شرط التزامن، وما تلى ذلك من إصدار لمراسيم الانتخابات، بات الحديث في الأوساط الفلسطينية يتمحور حول تفاصيل الانتخابات وشكلها وطبيعة التحالفات المتوقعة، حتى أن هناك من بدأ يتنبأ بالنتائج ويوزع الحصص! لكن النقاش الذي يعمد المتحمسون للانتخابات إلى تجاوزه والمتعلق بالسياق السياسي والاستراتيجي للمسار ما زال مفتوحاً. وهو سياق مرتبط بما جرى للقضية في العشرية الأخيرة، وبتطوّرات المنطقة ومواقف الأطراف الدولية من الصراع خاصة الولايات المتحدة الأميركية.لم يسبق أن جرت انتخابات فلسطينية بدافع محلّي مجرّد أو من دون تحولات استراتيجية تنعكس على مواقف الأطراف الفلسطينية في ما يخصّ النظرة إلى الصراع أو ما يُطرح من مشاريع سياسية. فانتخابات 1996 جاءت نتيجة لمسار «أوسلو»، وهو أكبر تحول في الموقف الفلسطيني وقد أنتج سلطة الحكم الذاتي في الضفة والقطاع؛ التحول في موقف «منظمة التحرير»، و«فتح» على وجه التحديد، سمح بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية لسلطة حكم ذاتي. أما انتخابات 2006، فجاءت نتيجة لتحولات في المشهد الفلسطيني بعد انتفاضة الأقصى، وهي رغم كونها أهم معركة خاضها الفلسطينيون وقدموا فيها تضحيات كبيرة، فإنه بعد استشهاد الصف القيادي المقاوم الأول خاصة قيادات «حماس» في الضفة والقطاع، إضافة إلى رحيل الرئيس ياسر عرفات، بتنا أمام تحول نوعي تمثل أولاً في تقدم تيار عباس ليقود المنظمة و«فتح» والسلطة، وليبدأ فوراً حوارات التهدئة في القاهرة، التي أنتجت التحول الأهم بعد «أوسلو»: موافقة «حماس» على دخول الانتخابات التشريعية لسلطة الحكم الذاتي.
هذا الاستدلال في الحالتين السابقتين لا يمكن تجاوزه بسهولة. فالانتخابات في الحالة الفلسطينية، وهي تحت الاحتلال وتفقد السيادة الحقيقية على الأرض والقرار، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمواقف الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالصراع وبتطورات الموقف الفلسطيني من الصراع. حتى في الحالة التي نحن بصددها، ورغم كون «الضمانات» ليست بالمعنى الحقيقي المبني على اتفاقات مشتركة بين الأطراف لضمان انتخابات نزيهة، فإن هذه «الضمانات» استُخدمت كإحدى الوسائل لتسويغ القفز باتجاه الانتخابات. السؤال الأهم اليوم، وهو يتطلّب إجابة واضحة وشفافة: ما السياق السياسي والإستراتيجي الذي يرافق «أجواء الانتخابات» وقد يدفع باتجاهها؟ وعلى وجه التحديد: ما التحول المتوقع الذي حدث أو قد يحدث في الموقف الفلسطيني؟
لقد استطاع الاحتلال خلال العشرية الأخيرة فرض حقائق جديدة على الأرض وطبيعة علاقته وتموضعه الإقليمي على النحو الذي يُحدث تحولات في مجمل الصراع: التوسع الاستيطاني وخطط الضم للضفة والجولان وإعلان القدس عاصمة واتفاقات التطبيع مع دول عربية وإسلامية شكلت بيئة جديدة. يأتي هذا كله وفق مشروع أميركي لحل الصراع سُمي «خطة ترامب» أو «صفقة القرن». هذا الوضع فرض على قيادات السلطة موقفاً يصعب التعامل المباشر معه وفق الخيار التقليدي بقبول الموقف الأميركي سقفاً للمفاوضات، الأمر الذي شكل ضغطاً عليها لاتخاذ إجراءات توحي بالرفض ضمن محددين أساسيين: الاحتفاظ بخيار المفاوضات في التعاطي مع الاحتلال، وامتصاص الحالة الفلسطينية السياسية والشعبية لتجنّب مواجهات مباشرة معه. هنا بادرت «حماس» إلى التواصل مع قيادات السلطة و«فتح» في محاولة منها لاستثمار هذا الوضع الضاغط لإحداث اختراق في موقف الأخيرتين باتجاه تشكيل حالة وطنية موحدة لمواجهة الاحتلال لو بالحد الأدنى الذي تستطيعانه، أو ما يسمى المقاومة الشعبية. لم تسفر هذه المحاولة عن شيء حقيقي على الأرض، وسرعان ما ظهر مساران جديدان لدى السلطة.
المسار الأول الذي قاده اللواء جبريل الرجوب مع «حماس» هو الانتقال بالحوار بينهما نحو عقد انتخابات فلسطينية. واستخدمت «فتح» هنا التهديد باستبدال القيادة وفرض أخرى، وتحديداً محمد دحلان، على الشعب كفزاعة، ووضعت أطرافاً فلسطينية تحت ضغط المحافظة على المؤسسات الفلسطينية ومنع وصول من يمكن أن يعملوا في برنامج تصفية القضية المسمى «صفقة القرن» إلى قيادة «المؤسسة السياسية». لكن تساؤلات عدة طُرحت حول آلية فرض قيادة جديدة وماهية خيارات «فتح» لمواجهة ذلك، ولم تكن تلقى إجابات، بل حُصرت الخيارات في تعزيز شرعية عباس والالتفاف حوله ودعم صموده! مع ذلك، ظلّ خيار مطروحاً لدى قيادة السلطة لتجنب «الاستبدال» هو قبول قواعد اللعبة الجديدة والانخراط فيها. والمسار الثاني، وقد تكفله الوزير حسين الشيخ، هدف إلى ترتيب العلاقة مع الاحتلال بإعادة «التنسيق الأمني» وتسلّم أموال «المقاصة». وأظهرت الرسائل المتبادلة بين قادة الاحتلال والسلطة أن الحوارات بينهما جرت بالتوازي مع حوارات الرجوب مع «حماس»!
لم يسبق أن جرت انتخابات فلسطينية بدافع محلّي مجرد أو بدون تحوّلات استراتيجية


هذا التحول في موقف السلطة و«فتح» من الاحتلال ومجمل المسار الاستراتيجي في المنطقة يجب أن يوضع في سياقه الحقيقي ولا يُقفز عنه. يشير هذا الموقف غالباً إلى اتفاقات أوسع مما أُعلن، ليشمل قبول السلطة وعباس على وجه التحديد قواعد اللعبة الجديدة وأخذ دور فيها وترك «الحرد» جانباً. فالواقعية التي ينتمي إليها «أبو مازن» غالباً ما تكون قد دفعته إلى القناعة بأن التحولات باتت حقيقة يصعب نفيها وأن ما هو مطروح أمامه: قبول قواعد اللعبة الجديدة أو الدخول في مواجهة مع الأطراف الرئيسية المؤثرة في مشهد البقاء... واستحضار تجربة «أبو عمار». لكن قبول عباس والسلطة قواعد اللعبة لا يشكل وحده مبرراً أو حافزاً للسماح لإجراء انتخابات يكرّس فيها نفسه زعيماً للكل الفلسطيني، ويخوّله لعب دور في الترتيبات الإقليمية الكبرى التي تجري. فما زالت غزة تشكل استثناء وتمرداً على قواعد اللعبة ولا يمكن لرئيس السلطة الحديث باسم القطاع الذي تديره «حماس». هذا التحدي يتطلب أن يُعاد فكّ المشهد الفلسطيني وتركيبه وبما يضمن خضوع غزة، لو على المستوى السياسي والإداري، لحكم عباس، وأن يمتلك الأخير ورقة الحديث باسم القطاع والكل الفلسطيني.
ضمن هذا السياق يمكن أن تُفهم موافقة عباس و«فتح» على الانتخابات وإصدار المراسيم الرئاسية. وما لم يضمن ذلك، فستبقى الانتخابات حديثاً في جولات الحوار وأفكاراً متبادلة على الأوراق. فالعامل الرئيسي وشبه الوحيد الذي يضمن إجراء انتخابات هو تأكد الأطراف الرئيسية المؤثرة في الصراع أن هناك فرصة لإحداث اختراق في موقف قوى المقاومة من الصراع والمسار اليوم في المنطقة. هذه الأطراف الرئيسية لديها قدرة كبيرة على تقدير الموقف نظراً إلى تحكمها في مفاصل اللعبة، إذ إنها لا تعتمد «التحزير» أو «التجريب» في التعاطي مع المسارات الرئيسية. وأفضل من يدرك ذلك هو عباس الذي يريد انتخابات تفضي إلى تكريس شرعيته فقط والسير في ركب برنامجه السياسي، أو ما يمكن وصفه «البيعة»؛ من المستبعد أن يضع شرعيته رهن التجارب والمفاجآت، فهو غير مضطر إلى ذلك ولا يوجد ما يهدد شرعيته الحالية، فكل الأطراف المحلية والدولية تتعامل معه لكن ما يلزمه لضمان حجز مقعد في اللعبة الجارية أن يلغي وضعية غزة القائمة وأن يُحدث اختراقاً في موقف المقاومة تجاه الصراع. وما لم يُضمن الاختراق في موقف هذه القوى ومبايعتها لعباس والاتفاق معه على انتخابات كرنفالية، فمن المستبعد أن تُجرى انتخابات.
لذلك كله، يُتوقع أن يكون خيار «القائمة المشتركة» الخيار المفضّل لقيادة «فتح»، الأمر الذي يعني أن انتخابات حقيقية مفتوحة الخيارات غير موجودة، وأن ما يجري أقرب إلى اتفاق سياسي لترتيب ما يسميه بعضهم «المؤسسة السياسية» وفق أجندة عباس التي تنتمي إلى الأجندة الإقليمية التي رسمت معالمها دولة الاحتلال وحلفاؤها الجدد برعاية إدارة دونالد ترامب، وهذه رغم أنها غادرت البيت الأبيض، فإن ما يُسمع حتى اليوم من إدارة جو بايدن لا يشير إلى نيتها تغيير أيٍّ من الحقائق التي فرضها ترامب على القضية الفلسطينية، بمعنى أن المسار العام مستمر. ومع نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، صار مسار عباس أكثر وضوحاً في ضرورة أن يلحق بركب الترتيبات الإقليمية، بل أرسلت السلطة، عبر وسطاء غربيين، إلى فريق بايدن استعدادها العودة إلى المفاوضات بدون شروط مسبقة، وأنها «مستعدة لوقف أي انضمام فلسطيني إلى منظمات دولية»، ومراجعة مناهج التعليم الفلسطيني استجابة لاتهامات بأنه يوجد فيها «تحريض»، و«إصلاح نظام دفع المخصصات المالية لعائلات الأسرى والجرحى والمقاتلين». يعزز ذلك التحليل القائل إن عباس سيذهب إلى انتخابات تخدم هذا المسار فقط، وإن الأطراف الرئيسية ستراقب ذلك من كثب ولن تسمح بأي مفاجآت.
التعويل الحقيقي في تجاوز هذا «الكمين» هو في موقف المقاومة بمنع أن تكون الانتخابات مدخلاً لإحداث اختراق جديد في الموقف الفلسطيني وجسراً يعبر عليه بعضهم ليأخذوا مكانهم في الترتيبات الإقليمية لتصفية القضية، وذلك بتغليب تقدير الموقف الاستراتيجي لمجمل المنطقة والقضية وتعزيز موقف المقاومة الرافضة لمسارات تصفية القضية، سواء جرت الانتخابات أم لم تجرِ، وتجنب الاصطفاف خلف عباس وفريقه في مراهنتهم على العودة إلى مشروعهم التقليدي ومنع إعطائه أي تفويض للحديث باسم الكل الفلسطيني، ووضع ذلك كله في الأولوية مقابل ما يتأمله آخرون من مكاسب يُزعم تحقيقها لتخفيف الحصار على غزة أو إجراء تحولات في بيئة الضفة باتجاه مزيد من الحريات للقوى هناك، فهاتان النقطتان هما أبرز ما يُطرح لتبرير الانتخابات.
التحدي الأساسي المرتبط بهذين العاملين أنهما مرتبطان بالاحتلال ولا يخضعان لسيطرة السلطة، فإدارة الحصار على غزة ومنع نشوء أي بيئة صديقة للمقاومة في الضفة هما في صلب استراتيجية الاحتلال وتحت سيطرته الكاملة. أما دور السلطة بإجراءاتها العقابية على القطاع أو «التنسيق» في الضفة واستهداف البنية التحتية لقوى المقاومة، فتأتي تابعة لاستراتيجية الاحتلال لا موازية لها أو بديلة عنها. وبافتراض أن السلطة ذهبت نحو رفع الإجراءات العقابية عن غزة والسماح للمقاومة بالعمل في الضفة، فالاحتلال قادر بأقل التكاليف على وقف هذا المسار والتدخل المباشر. من المستبعد جداً أن يسمح الاحتلال الذي لا يواجه أي ضغوط تُذكر أن تكون الانتخابات الفلسطينية مدخلاً لمواجهة استراتيجيته ونشوء بيئة مقاومة في خاصرته.

* كاتب فلسطيني باحث في العلاقات الدولية