بدا العماد ميشال عون في مشهدية «معراب»، يوم الثلاثاء الماضي، ضعيفاً، بل وحتى مغلوباً على أمره. هذا هو شأن كل «من يطلب شيئاً لنفسه» فيضطر إلى تقديم تنازلات صغيرة أو كبيرة (الرئيس سليم الحص يشدد دائماً على سلبية هذه المعادلة). لكن الدكتور سمير جعجع ذهب بعيداً في المبالغة في «إنجاز» «معراب» هذا، إلى درجة أنه تصرف بطاووسية أعدَّ لها كل العدة الضرورية: المظهرية (مواكبة إعلامية طويلة وتفضلية). الخطابية (كلمة مكتوبة مع التشكيل بالحركات والنقطة والفاصلة والقفشات العفوية «المهضومة»). الاستعراضية (حركات سلطانية مستمد بعضها من مسلسل «حريم السلطان» التركي، ما استحق تهنئة المخرجة المنفذة من قبل «القائد»). الإيحائية الاستباقية («اللوك» الجذَّاب الذي بدت فيه «الست ريدا» بوصفها السيدة الأولى المستقبلية أو «البدل عن ضائع» حتى إشعار آخر من... الست «ريما» في بنشعي!
لاحظ الإعلام، المكتوب خاصةً، هذه «الحركات» و«الجعجعات» وأضفى عليها أبعاداً سياسية متنوعة كان أبرزها (وأقساها على الطرف البرتقالي العوني) إثارة انطباع بأنه قد تمّ نقل الزعامة المسيحية من الرابية، مقر العماد ميشال عون، إلى معراب مقر قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع. استمرأ «الحكيم» وفريقه الإعلامي هذا الانطباع (غير البريء أحياناً والتحريضي في أغلب الأحيان). ذهب في المبالغة بعد يومين فقط، ومن خلال استطلاع مركب على شاشة قناة «المر» MTV، إلى حد تتويج جعجع، ليس فقط ملكاً على المسيحيين، بل على غالبية اللبنانيين أيضا، ومن دون منازع!
جعجع «قناص» سابق. عمليات الكوماندوس، التي مارسها أساساً في مراحل الحرب الأهلية، أبرزت مواهبه في محاولة اصطياد الفرص وتدبير الكمائن والمكائد، استناداً إلى عاملي السرعة والمفاجأة. مارس هذا الأمر في السياسة أيضاً حين أصبح الآمر الوحيد لما تبقى من «القوات اللبنانية». كان الجنرال عون أول الضحايا حين ناور جعجع بتأييد «اتفاق الطائف» ليعزل الجنرال سياسياً ويسهِّل عملية تصفية تمرده السياسي والعسكري، ومن ثم عملية نفيه خارج البلاد. لكن جعجع كان الضحية الثانية لجعجع! استسهل الرجل وغامر في ظرف غير مؤاتٍ. واصل عمليات القتل والاغتيال بهدف التفرد و«توحيد القرار» كما فعل قائد «القوات» المؤسس الشيخ بشير الجميل حين حاول، بالقوة، أساساً، «توحيد البندقية اللبنانية». أخطأ جعجع الحسابات. دخل السجن لأكثر من عقد من الزمن، فيما كانت الحالة العونية ناشطة وتحاول ملء الفراغ، بعد أن استطاعت النهوض مجدداً. أما جعجع فلم يكسب من سجنه سوى المزيد من العزلة وبعض أوهام «القداسة» التي أضفاها على «آلامه» ومغامراته مستفيدون أو إيمانيون أو سذَّج.
في إعادة تركيب للصورة والمشهد في «معراب» وقبلهما، يمكن رسم المراحل الآتية: الرئيس سعد الحريري يتبنى ترشيح عضو «فريق» «الممانعة» والمقاومة، القديم والمثابر، النائب سليمان فرنجية. الحدث انطوى على تجاهل كامل للدكتور جعجع الذي تبيّن له أنه ليس فقط مرشحاً غير جدي بالنسبة لتيار الحريري (وكل تحالف 14 آذار)، وإنما هو يشغل، أساساً، موقعاً التحاقياً وثانوياً في ذلك التحالف. هذا فضلاً عن أن فرنجية هو خصمه اللدود لما بينهما من دماء إثر اغتيال عائلة طوني فرنجية (والد سليمان) بكاملها. «الحكيم» يشعر بالمهانة والذعر ويسعى إلى الانتقام. يسأل، يبحث، يستطلع، «يحور ويدور...» متصيداً الصعوبات والثغرات في ترشيح فرنجية وخصوصاً استياء العماد ميشال عون الذي بدى مستعداً لإعطاء الحكيم ما كان يرفض إعطاءه في السابق (وفق مبدأ: أعطى من لا يملك لمن لا يستحق؟!). يراهن على عدم تأييد السعودية لمبادرة الحريري. يكتشف العكس، فيلجأ إلى «الدوحة» لتعويض الفاتورة الشهرية، مستغلاً، أيضاً، الحذر المستمر والتنافس غير المعلن الذي ما زال متأججاً ما بين القيادتين السعودية والقطرية. في المعادلة ما بين فرنجية وعون كان الحكيم «كالمستجير من الرمضاء (النار) بالنار». استبدل مرشحاً صديقاً لسوريا والمقاومة (فرنجية)، بصديق لهما، أبعد تأثيراً وأرجح نفوذاً، هو العماد عون.
بعيداً عن الضجيج الإعلامي الانتصاري الذي استند إلى «حاجة» عون الذي جعلته ضعيفاً إزاء مشهدية جعجع الاستعراضية، فالواقع أن هذا الأخير، خسر حليفاً محلياً قوياً هو الحريري، وراعياً إقليمياً مهماً هو المملكة السعودية. انهارت الثقة به من قبلهما، على الأقل. قطر لن تتمكن من تعويض هذين (التحالف والرعاية) مهما أغدقت من الأموال (التي من دونها لن يكون «الحكيم» «قائداً» بإمكانه أن ينفق على الآلاف من قواته النظامية المتفرغة، فضلاً عن المؤسسات والحملات والإعلام والاستطلاعات والحماية والأمن والتسلح...).
انهارت كل المزاعم عن «مبدئية» الحكيم (التي آمن بها أيضاً بعض يساريين محبطين أو «تائبين»!). حشره المذيع (في قناة إم. تي. في مساء الأربعاء الماضي) المقرب جداً منه كما القناة، السيد وليد عبود، بشأن ما انطوت عليه خطوته، بترشيح عون، من لامبدئية وبراغماتية. بالغ في التبرير والمداورة. بل أنه أصابته، حتى، نوبة اعتدال لم يألفها، فاندفع يحاضر في ضرورة طي صفحة الماضي (متناسياً أنه حاول توقيت إعلان ترشيحه لعون مع تاريخ إسقاط «الاتفاق الثلاثي» الذي عاد وساهم في إحيائه من خلال التطبيق المشوّه لـ«اتفاق الطائف»). هو مستفيد من ذلك بسبب كثرة ارتكاباته في الماضي، وبسبب تطرفه المستمر، المكرِّر للمطالب الإسرائيلية، ضد المقاومة خصوصاً، حتى ما قبل مشهدية «معراب»!
في السيناريو الحقيقي وغير المبهرج بالاستعراض والإعلام والمقارنة بين ضعف عون «وقوة» جعجع، أنه حتى لو انتخب عون رئيساً فإن الرئيس العتيد (أي عون) لن يكون صانعاً للرؤساء. وإذا استطاع فالأقرباء أولى بالمعروف! ثم أنَّ فرنجية قد أصبح مرشحاً أول، أو ذا أولوية، في الاستحقاق المقبل. أي أنه في حال تبنيه ترشيح عون وانسحابه بالتفاهم لمصلحته، سيكون، في الواقع كما في الاحتمالات والتعهدات، صاحب الفرصة الأكبر بعد ست سنوات!
يبقى أن مشاهد «معراب» وما قبلها وربما بعدها، ليست سوى فصل جديد من المهزلة المستمرة في لبنان منذ الاستقلال إلى اليوم. ففي بلد الأرز الذي يشهد خلوده على العراقة والثبات، يواصل حكام هذا البلد المنكوب تأرجحهم وبهلوانياتهم وعبثهم وفئوياتهم وقلة هيبتهم. في هذا الزمن الرديء الذي تتصارع فيه الأوصياء ويتراجع تأثيرهم، الإقليمي واللبناني، بسبب حروبهم ومشاكلهم الداخلية أيضاً، لم يهتدِ حكام لبنان بعد إلى وصفة تعالج إدمانهم المرضي على الفئوية والالتحاق والتبعية. هي المحاصصة أيضاً من لا تزال توجه سلوكهم، وهي الحصص التي ما زالت تحدد قرارهم بالقبول أو بالعرقلة أو بالتريث أو بالرفض...
الشعب اللبناني، ذو الإنجازات البارزة في حقول المقاومة والانفتاح والتعلق بالحرية، يُمهل (كسواه من الشعوب) ولا يُمهِل. هو يراكم النقمة سنة بعد سنة وملفاً بعد ملف. لن يكون بعيداً اليوم الذي تتحول فيه هذه النقمة، المتصاعدة الإيقاع والمتواصلة الحلقات والمتعددة الحقول، إلى فعل تغيير جدي لتحرير اللبنانيين من كابوس الطائفية والتبعية وانعدام المسؤولية.
* كاتب وسياسي لبناني