حين لفت الشاعر، المفكّر والفيلسوف الكبير، أبو العلاء المعري، قبل ألف سنة (973 - 1057م)، إلى «ضجة في اللاذقية ما بين أحمد والمسيح»، إنما كان يشير إلى واقعة مزمنة ومتجدّدة في استخدام الأديان أداة في الصراع على السلطة والنفوذ والمكاسب. برز في هذا السياق الطويل حلف غير مقدّس بين الملوك والسلاطين والحكام، من جهة، وكمّ هائل من رجال هذا الدين أو ذاك، ممن سخَّروا موقعهم ومؤسساتهم لخدمة أو مشاركة أصحاب السلطة (من عتاة الطغاة خصوصاً) والطامحين لبلوغها أو المحافظة عليها، من جهة ثانية. في لبنان، تحوَّلت تعبئة أتباع الأديان، من المؤمنين البسطاء والصادقين غالباً، إلى عامل مهم من عوامل بناء أدوات الصراع على السلطة وكسب النفوذ وبناء منظومات الولاء ومقوّمات الزعامة والحماية... أدّى ذلك بالتراكم الداخلي والاستغلال الخارجي، إلى إقحام العامل الطائفي وتكريسه في صلب بنية السلطة السياسية اللبنانية، ما أسّس لمنظومة المحاصصة التي تواصل اليوم تدميرها للبلاد، عبر الانقسامات، والتبعية، والنهب والفساد والإفقار، ولتعطيل الدستور والقانون، ولتسخير مؤسسات الدولة لخدمة المصالح الفئوية والخاصة ولبناء الدويلات... ولو سقط البلد على رؤوس الغالبية العظمى من أبنائه.في لبنان بشكل خاص، كما في كل مكان، لم يعبِّر استخدام الدين في الصراعات عن صراع فعلي (بل مفتعل) بين الأديان (ذات القيم المتشابهة والمتقاربة عموماً) وبين المتديّنين. هذه هي الحقيقة الجوهرية رغم ما ارتُكب من مجازر ودار من حروب وتغذّت من أحقاد... امتدت سنوات وعقوداً طويلة. هي كانت، دائماً، تخفي وتخدم مصالح كبرى لفئات تسعى وراء المواقع والكراسي، ومن أجل جني المكاسب والاستيلاء على الثروات وتعظيمها في بناء ثنائية السلطة والمال. كان، دائماً، ثمّة فئة تقاتل بضراوة وإصرار، وبكل الأساليب وخصوصاً الدموية منها، من أجل مصالحها على حساب مصالح أكثرية الناس. وهي، في مجرى ذلك، تشكَّلت في أقلية طبقية (طغمة، أوليغارشية...) جمعت في قبضتها، حتى وهي تتنافس بضراوة، على المكاسب والمواقع، سلطة وثروة توارثتها ونمّتها جيلاً بعد جيل، كما يحدث الآن أمام أعيننا، في لبنان، رغم قشور مظهرية وخادعة، ورغم ومرور الزمن وتبدّل الظروف...
تغذية العصبيات، في بلدنا، على مدى أجيال، وحتى قرون، بمثابرة المستفيدين وبفضل جهازهم الأيديولوجي ودائماً بدعم أجنبي، بلوَرت «الصيغة اللبنانية» ذات «التميّز» و«الفرادة» والتفوّق!! يتكاتف أطراف هذه المنظومة على تدعيمها وإدامتها رغم ما أشرنا إليه من النزاعات وحتى الحروب الأهلية، في ما بينهم. هم يجنون الآن ثمار جهودهم: في قدرتهم على مواجهة نتائج ما أحدثوه من خراب وما سبّبوه من كوارث للمواطنين على النحو المأساوي الذي تعيشه الأكثرية الساحقة من اللبنانيين في كلّ المناطق اللبنانية.
لقد بلغت الأزمة مستوى من الخطورة والتعقيد مرحلة لم يعد يجدي حيالها اعتماد المقاربات السابقة


يمكن القول الآن، إنّه بعدما تجاوزت أطراف المنظومة التحاصُصية القائمة، قطوع الإطاحة بها، أو على الأقل، تحميلها المسؤولية أو بعضها عن الأزمة، على يد المنتفضين (ممّن افتقرت غالبيتهم إلى وحدة المشروع والبرنامج والتنظيم...)، تواصل هذه الأطراف الآن لعبتها التقليدية في الصراع على السلطة والمواقع والنفوذ... وكأنّ كارثة لم تحدث: كارثة باشرت بإغراق البلاد في الفوضى والانقسام والفقر والتفكّك والموت... يزيد في المصائب انتشار وباء «كورونا» وخروج تفشيه المخيف، بسبب العجز والهشاشة، عن السيطرة. لذلك، يستعيد أطراف المحاصصة الآن سيرتهم المعهودة في الاستكلاب على المواقع والمغانم، ودائماً بسلاح الشحن الطائفي والمذهبي، ما يجعل مجرد تشكيل حكومة جديدة أمراً شبه مستحيل! وهم في كل ذلك يواصلون عبثهم المفضل في إيهام المواطنين أنهم يتصارعون من أجلهم: من أجل «حقوقهم» و«كرامتهم» و«مشاركتهم»... وأنهم هم مجرّد خدم للشعب الذي من أجله يطلبون السلطة والنفوذ والمال ويُجرون الصفقات ويقيمون التحالفات في الداخل والخارج... يقوى نبض هؤلاء بمقدار ما يستشعرون تراجعاً في الاحتجاج الشعبي وغياباً للبدائل إلا في نطاق منظومتهم القائمة. لا يهتم هؤلاء، لا بالأعباء التي ترهق وتهدد بالجوع، أو حتى الموت، مئات آلاف المواطنين، كما تهدد وجود البلاد أصلاً... على العكس، هم، حتى، مطمئنون إلى فعّالية السلاح الذي يستحضرونه في كل أزمة، وهو سلاح العصبيات لحجب الحقائق والإفلات من المسؤولية والعقاب، وللإمعان في التضليل الذي بنوا له مؤسسات كاملة تشكّلت في دويلات تقوى باستمرار على حساب الوطن ووحدته وعافيته واستقراره.
يزيد من كارثية الواقع الراهن، أنّ إدارة الدولة العظمى في العالم بقيادة ترامب، قد كرَّست كل إمكاناتها من أجل استغلال وتصعيد الأزمة اللبنانية لمصلحة العدو الصهيوني. وهي قد استطاعت، من خلال الحملات المتنوّعة والضغوط المباشرة والوقحة والرشوة السخية، تجنيد قوى سياسية ومدنية عديدة في خدمة خطتها، ضمن معادلة أن الحل المالي والاقتصادي والسياسي هو في الامتثال للشروط الأميركية الصهيونية، خصوصاً في ما يتعلق بالمقاومة ضد العدو، عبر عزلها وشيطنتها ونزع سلاحها...
لقد بلغت الأزمة، مستوى من الخطورة والتعقيد، وعلى كل المستويات، مرحلة لم يعد يجدي، أو حتى يجوز، حيالها اعتماد المقاربات السابقة. ثمة جهود هائلة يجب أن تُبذل من أجل بدء الحد من المخاطر تمهيداً لمعالجات أكثر نجاعة على طريق الحل الشامل. لن يحصل ذلك بدون عمل وطني مسؤول ومنظّم وواسع ومديد لتفادي وقوع كوارث جديدة تفوق أسوأ التقديرات الراهنة. هذه مهمة بحجم المقاومة ضد العدو من حيث الريادة والتضحيات والابتكار والتصميم والانتصار...

* كاتب وسياسي لبناني