ثمّة ما هو أهمّ من التداعيات التي خلّفها اقتحام أنصار دونالد ترامب لمبنى الكابيتول. في اليوم نفسه الذي حاول فيه المناصرون، بدعم مباشر من ترامب، تعطيل تصديق الكونغرس بمجلسَيه على انتخاب جو بايدن، كان المقعدان المتبقّيان في مجلس الشيوخ لولاية جورجيا يذهبان لمصلحة الديمقراطيين. انتقال الأغلبية في مجلس الشيوخ من الجمهوريين إلى الديمقراطيين سيحسم الكثير من الأمور التي بقيت عالقة خلال ولاية ترامب، وسيوفّر لبايدن شروطاً أفضل نسبياً للحكم,، مقارنةً بخلفه، على الرغم من ضيق القاعدة الشعبية التي يمثّلها، حتى داخل حزبه نفسه.
التمرّد على المؤسّسات والإجماع الحزبي
الظَّفَر بالأكثرية في الكونغرس بمجلسَيه(الشيوخ والنواب) يكاد يكون العنصر الوحيد الذي سيتيح استقرار السلطة بعد انتقالها للديمقراطيين, على اعتبار أن كلّ ما عدا ذلك هو نتاج الترامبية، التي ستعيش مع الأميركيين لفترة على الأرجح. وهي إن لم تستمرّ مع ترامب نفسه، فستذهب إلى سواه، لأنها تعبير عن مأزق فعلي داخل المؤسّسات التي أنتجتها الرأسمالية الأميركية. واستمرارها سيكون رهناً بالعودة أكثر إلى الحاضنة الشعبية، لأنّ التجذّر الذي يتسم به الانقسام الحالي هو في مواجهة المؤسّسات، حتى الحزبية منها. بدليل أنها بدت- وفي الحزبين معاً- إزاء حادثة الكابيتول متّحدةً أكثر من أيّ وقت مضى، كتعبير عن اصطفاف كبير، ليس في مواجهة اليمين المتطرّف وحده، بل في مواجهة أيّ حالة شعبية، تهدِّد بالخروج عن إجماع الحزبين، ومن ورائهما المؤسّسات والإعلام المهيمن والدولة العميقة. هذه المرّة، وبسبب خطورة الحالة التي مثّلها استمرار اعتراض ترامب على نتائج الانتخابات، اضطرّ يمينا الحزبين لإشهار تحالفهما، لأنّ وقوف اليمين الديمقراطي وحده في وجهه لم يعد يكفي لإيقافه في حين أنّ "حالة تمرّد" سابقة مثل حالة بيرني ساندرز, لم تستدعٍ أكثر من رصّ صفوف يمين الوسط الديمقراطي لاحتوائه، نظراً إلى إمكانية فعل ذلك داخل مؤسّسات الحزب الديمقراطي وحده، كونه لم يشكّل حينها، على الرغم من راديكاليته حالة شعبية مماثلة لحالة ترامب. خروج القاعدة الترامبية عن الأطر المرسومة لها، حتى وهي تشكِّك في كلّ المؤسسات الأميركية جعلها تبدو وحدها في مواجهة ليس فقط المؤسّسات والإعلام والدولة العميقة، بل المجتمع أيضاً، على اعتبار أن ثمّة تقاطعاً في مواجهتها، يشمل طيفاً واسعاً من القوى التي لا يجمعها إلا العداء لترامب بما يمثّل شعبياً، بما في ذلك اليسار، حتى مع شخصية مثل ساندرز، تعرّضت تماماً لما يتعرّض له ترامب الآن من حظر نخبوي ورسمي، أميركي وحتى دولي.

أُفُق الاعتراض اليميني
لا يبدو بهذا المعنى أنّ ثمّة أفقاً لذهاب الترامبية أبعَدَ مما ذهبت إليه مع مؤسِّسها نفسه. فتقاطُع أقصى اليسار مع يمين الوسط من الحزبين في مواجهتها يضعف من حضورها داخل أوساط الطبقة العاملة، لأنها في النهاية ورغم طابعها العرقي ظاهرياً، تعبير عن التهميش المتزايد الذي تسبَّبت به العولمة وآليات التراكم المصاحبة لها، إن لم نقل لكلّ الطبقة العاملة الأميركية، فأقله لأوساط واسعة منها وخصوصاً تلك التي تقطن بعيداً عن الساحلين الغربي والشرقي، أي في الوسط الأميركي الذي تسكنه أغلبية بيضاء. معطيات عديدة هنا، جغرافية وديموغرافية، ومتّصلة حتى بنمط وعلاقات الإنتاج في ظلّ العولمة، تتقاطع لتجعل من هذه "الأكثرية الأميركية الفعلية" أقلّية بالمعنى السياسي، وسط تهميش متزايد للأرياف التي يتحدّر منها هؤلاء ونموّ كبير في المقابل على مستوى النخب المدينية، ليس فقط ليمين ويسار الوسط اللذين يمثّلان الأكثرية السياسية المهيمنة حالياً، بل أيضاً لتنويعات اليسار الراديكالي المنحازة للثقافوية على حساب الصراع الطبقي. وهو ما يجعل من أيّ نقاش داخل اليسار حول الأولويات الفعلية للطبقة العاملة هناك ليس فقط نافلاً، بل أيضاً غير جدير باحتلال متن السجال إلى جانب "القضايا المركزية" الخاصّة بحقوق الأقلّيات والنساء والمثليين والتي تُعتبر المسألة البيئية بمثابة محور لها جميعاً بمعنى التنظيم المركزي لحركتها. هذا اليسار لم يعد بفعل طبيعته الثقافوية يتقاطع مع القضايا التي تهمّ أكثرية الطبقة العاملة هناك، حيث يعتبر أن ما يفرّقه عن الطبقة العاملة البيضاء أكثر ممّا يجمعه بها، وأنها تحوّلت بفعل هيمنة الترامبية عليها، أو حتى الموجات البيضاء السابقة لها إلى حالة فاشية لا يجب التعامل معها انطلاقاً من المحدِّدات الماركسية لبنية الطبقة العاملة. غالباً ما يخرق بيرني ساندرز هذا الإجماع، ولكن في سياق تسجيل النقاط على ترامب، ما يجعل حراكه بمجمله، حتى لو كان في مصلحة أكثرية الطبقة العاملة الأميركية، يصبّ في مصلحة التناقض الرئيسي بين مؤسّسة الحزب الديمقراطي، وحالياً بعض المؤسّسة الجمهورية والترامبية السياسية.
الطبقة العاملة التي حمت الهيكل في السابق، أصبحت عالة عليه حين تصدّع بفعل الجائحة، لذلك يجب تركها من دون حماية


محكّ حياة الطبقة العاملة
برَزَت أخيراً على خلفية الأزمة الاقتصادية التي تسبَّبَ بها الوباء مسألة الدفوعات النقدية المباشرة الخاصّة بالطبقة العاملة، والتي بسببها عُطِّلت رزمة التحفيز الكبيرة للاقتصاد التي كانت تُناقَش في الكونغرس، نتيجةً للخلاف حول حصّة هؤلاء منها. الانقسام كان طريفاً وهو يُظهِر إلى حدٍّ كبير هشاشة الإيديولوجيا التي تجمع يمين الوسط من الحزبين بأوساط اليسار في الولايات المتحدة، إذ بدا الرئيس المنتهية ولايته ترامب، والذي تعارضه أكثرية اليسار هناك أقرب إلى بيرني ساندرز والكساندريا أوكاسيو- كورتيز من أعضاء الحزب الديمقراطي الذين عارضوا مع زعيم الأكثرية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل رفع البدل النقدي المباشر للطبقة العاملة إلى حدود الـ 2000 دولار شهرياً. وقد كانوا بهذا المعنى السبب الفعلي وراء تعطيل إقرار الحزمة، لأنّ رفض ترامب لها كان بسبب عدم إيصال الدفعات إلى الحدّ المذكور، أي كما طالب بذلك أيضاً ساندرز وبقية اليسار الراديكالي. الاصطفاف الذي أظهرته هذه الحادثة يخالف التحالفات السياسية القائمة وينقض عملياً كلّ السردية التي تتذرّع بمناهضة الفاشية للهروب من استحقاقات الدفاع عن مصالح أكثرية الطبقة العاملة الأميركية، بما في ذلك القاعدة الترامبية التي يمقتها اليسار. إذ بمجّرد حصول تصويت يخصّ المصالح الفعلية لهذه الأكثرية بما يتجاوز قشرة الانقسامات العرقية تلتئم فوراً وخلافاً للانقسام الحاصل مصالح النُّخبة الرأسمالية من الحزبين لمعارضة أيّ مسعى لتعويض الطبقة العاملة عن فقدانِها طوال أشهر الجائحة ليس فقط عمَلَها وأجْرَها بل أيضاً حصّتها من بيع قوّة العمل في المراحل التي سبقت انتشار الوباء أي في المرحلة التي كان الإنتاج فيها يحقِّق أرباحاً طائلة للشركات والرأسماليين الكبار مدفوعاً بقوّة العمل الخاصّة بهذه الطبقة. وحين نُوقش ميتش ماكونيل إلى جانب "حلفائه الديمقراطيين" في هذه النقطة، ولماذا يجري الحفاظ على استمرارية عمل الشركات بدلاً من الدفع مباشرةً للطبقة العاملة، حتى لو كانت خارج عملها حالياً، ردّ بأنّ الدفوعات النقدية من دون عمل أو إنتاج هي بمثابة "اشتراكية للأغنياء". ما يقوله ماكونيل هنا يعبّر ليس فقط عن المصالح الطبقية للحزبين بل كذلك عن الإيديولوجية الرسمية للدولة الأميركية حين تتعطّل عجلة الإنتاج، ويُرمى بالعمّال الذين يديرونها، فعلياً خارجاً وتبدأ بالتالي المفاضلة بين من يستحقّ الحياة منهم على شكل سدّ الرمق ومن لا يستحقّها.

خاتمة
بحسب هذا الرجل الذي ينال حالياً، بعد انقلابه على ترامب إثر اقتحام الكابيتول، إجماع الحزبين، من يعمل في هياكل الإنتاج التي ستذهب غالبية الأموال إليها، أحقّ بهذه الدفوعات ممّن لا يعمل، والمقصود بالعمل هنا ليس الإنتاج بحدّ ذاته، بقدر ما هو الحفاظ على هيكل الرأسمالية الأميركية من الاندثار. الطبقة العاملة التي حمت الهيكل في السابق، أصبحت عالة عليه حين تصدّع بفعل الجائحة، أي حين توقّفت عن بيع قوّة عملها لمصلحة الرأسمالية الأميركية، ولذلك يجب تركها من دون حماية ومعها، أيضاً، وفي إجماع واضح يُظهِر مدى متانة العلاقة بين الحزبين خارج الأُطُر الرسمية، بقايا دولة الرعاية التي لوَّح بها ترامب حين أوقف الرزمة مطالباً بزيادة حدّ الدفع، ومعه وحيداً، أو يكاد خصمه من أقصى اليسار، بيرني ساندرز.
هذا الاصطفاف يتعارض مع الوقائع المعلَنة حول واقعة اقتحام الكابيتول، ويمكن اعتباره بمثابة سردية أخرى، ليس للواقعة بحدّ ذاتها,، ولا لهزيمة الترامبية عشيّة تنصيب مرشّح يمين الحزبين، بايدن، بل للصراع الفعلي الذي يجري داخل الولايات المتحدة منذ أكثر من عقد. الاستقرار الذي سيتحقّق بخروج ترامب من المؤسّسة قريباً، سيكون هشّاً على الأرجح، لأنّ خوف النخبة الأميركية والمؤسّسة من ورائها، من ظاهرة جديدة تشبه "الترامبية" لن ينتهي بذهاب "المؤسّس"، على اعتبار أنّ الأسباب التي أتت به، ليُظهِر هذا العمق الذي ينطوي عليه الصراع لا تزال قائمة، وستتجدّد بمجرّد أن ينتهي هذا الإجماع الشكلي والهشّ بين الحزبين الممثّلين للأكثرية السياسية المهيمنة.

*كاتب سوري