إلى غسّان كنفاني... مرّة أُخرى
(1)

غِياب الرؤية يعني غياب الطريق، يعني أنّك لن ترى أيّ شيء ولن تصل إلى البيت، فأنت في الظلام الدامس الكالح بلا بوصلة أو هدف. هذه كارثة كبيرة وواحدة من أكبر مشاكلنا، كبشر وكعرب، وهذه مُصيبة تؤدّي عادةً إلى الهلاك الأكيد، نعم، ليس لأنّها سببٌ في وقوع آلاف الضحايا وحوادث السير القاتلة فحسب، بل لأنّها في حالتنا الفلسطينية والعربية ستأخذك إلى الهزيمة الحتميّة أيضاً. وذلك لأنّ العدو الصهيوني لن يحتاج إلى القتال حتى يهزمك، ستذهب إلى الميدان مُغمض العينين تسبقك الهزيمة، وتَتَحّول إلى مُجرّد «جوكر» يتلاعب به كهنة المحاور ويعبثون في مصيره، ستكون كالأطرش في الزفة، هذا إذا وصلت إلى الميدان أو الزفة أصلاً...
«غسان كنفاني» (1990) للفنان الفلسطيني عدنان الزبيدي (1951 ــ 2007)

إنّ غياب الرؤية يعني أنك «رح تدخل في الحيط»، كما علّمنا العجوز عامل البناء الشهير في حارتنا العَم أبو فَلَاحْ. قال غسّان كنفاني: «إنّ الموت السلبي للمقهورين والمظلومين مُجرّد انتحار وهروب وخيبة وفشل».
وتزداد أزمتنا الفلسطينيّة والعربية اتّساعاً وعُمقاً حين نُوهِمُ أنفسنا والآخرين أنّنا نعرف كُلّ شيء ونحن لا نعرف ولا نرى. أو حين نتصوّر، مثلاً، أنّ شَخصاً ما أو «مُفكّراً» أو تيّاراً سيّاسياً واحداً في وسعه التفكير بالنيابة عنّا، كمن يسلّم مصيره وقدره لشيخ الطريقة العارف بأسرار الجن والإنس، القابض على كُلّ البصيرة وناصية الرؤية والطريق والهدف.
هل في وسع شخص أو مجموعة بشرية، خصوصاً إذا كانت متجانسة، أن تملك كلّ الحقيقة والطريقة والطريق؟ هذا امتياز ربّاني لم يحالف آلهة ما قبل الأديان ولا بعدها، ولا حتّى شخصيّة أسطوريّة في كتب وقصص العجائب والخيال. امتياز عجزت على تحقيقة الملائكة والأنبياء. وتكون الرؤية الحقيقية نابعة من الرأس، ومن الداخل، ليس من العينين... وتكون جماعيّة أو لا تكون. كان الشيخ إمام أكثر من يملك وضوح الرؤية والبصيرة في مصر المحروسة.
(2)

رفع الشهيد الأديب غسّان كنفاني شعاره المُقدَّس وثبّته كالمسمار الفولاذي على غلاف مجلّة «الهدف» التي كانت منبراً للفكر الثوري في أزمنة مَضت، كَتَب: كُلّ الحقيقة للجماهير.
كان في الواقع يقصد: «قُل الحقيقة للجماهير» ذلك لأنّ الجماهير، بحسب كنفاني، مدرسة يومية تُعَلِمّك فلسفة الشعب معصورة في كلام قليل، وجامعة من طراز آخر. فالناس الذين يكتوون بنار الواقع يكتوون بنار العدو، ويعرفون الحقيقة، فإذا لم تفضَح وتكشف الزيف، كمثقّف يسعى لتغيير الواقع لا تبريره، ستعرف الجماهير أنك تكذب أو تتواطأ وتتلعثم وتقول نصف موقف.
يمكنك خداع الناس، سنة واحدة أو عشرين سنة، وربما أكثر، لكنّ الشعب عند لحظة فارقة «يكمشك» ويكتشف الخديعة ويسأل عن الطريق إلى البيت، فلا تلومه إذا غضب وقرّر صلبك على خشبة النسيان أو علّقك مثل خروف العيد وأجلسك على خازوق حقيقي، فالجماهير الشعبية الفقيرة يُعذّبها فهم الواقع وحالة إنكار واقع قاسٍ، مُحايد، عابس، صريح. ولا يجامل. ويقول للناس الحقيقة.
(3)

كتب غسان كنفاني عن «لغة عمياء» وعن مثقّف مسخ لا يرى إلا صورته في المرآة ولا يسمع إلا صوته. قال في ندوة قدّمها في بيروت بعنوان «عن التغيير واللغة العمياء»:
«يبدو أننا في حاجة ماسّة إلى إعادة القيمة للكلمات كتعاريف مُحدّدة تعني شيئاً مُتّفقاً عليه، وهي خطوة كانت لازمة لجميع شعوب العالم في أواخر القرن التاسع عشر، وهي على عتبة انطلاقها نحو العصر. لقد باتت الاصطلاحات مُجرّد اغتراب وأدى هذا الصَمَم المتبادل إلى انعدام كامل في قيمة الحوار، ومضى الإشكال إلى أبعد من ذلك فصار بالوسع أن يستخدم إنسانٌ ما اللغة ليستر عجزه أو ليخفي مَقصده، صار بين أيدينا الآن تراث من اللغة العمياء التي أفقدت الحوار قيمته الفعلية، ومن الممكن أن تُستخدم لأغراض متناقضة في وقت واحد».
وعلى نهج غسان كنفاني، مشى ناجي العلي ورسم امرأة فلسطينية تُوصي «حنظلة» وهو يكتب رسالة إلى الأمين العام لاتحاد الكُتّاب والصحافيين «قول له والله ما فهمت عليك ولا كلمة»! كان ناجي يرسم صورة زواحف المؤسَّسة الرسمية الفلسطينية وكيف يتطاولون ويتنّدرون على لاجئ فلسطيني فقير وقف أمامهم.
قالوا له «ولك إنتَ مين مفكّر حالك حتى تعدل خطنا؟» ردّ عليهم: «أنا القارئ!».
إنّ غياب الحوار الذي ينطلق من «التعاريف المحدّدة»، كما يقول كنفاني، ومن حقائق الواقع الموضوعي ونتائجه في الساحة الفلسطينية العاثرة، يعني غياباً حتميّاً للرؤية السياسية وتناسخاً للكوارث والهزائم. لذلك، تتعثّر الاستراتيجية الوطنية المطلوبة التي تنشُد التغيير والخلاص الجماعي، فكيف يمكن لشعب أو حركة تحرّر وطنية بلوغ التحرير من دون رؤية واضحة؟ من دون لغة مفهومة؟ من دون أدوات العصر؟ من دون تحديد معاني الكلمات؟ من دون سلاح؟
على الحزب الثوري أن يتعلّم كيف يبني نفسه بذراعيه يتعلّم من ورشة العمل ومن العمّال


إنّ الحوار الحقيقي المنتج يكون حُرّاً أو لا يكون، وفي الحالة الوطنيّة الراهنة يجب أن يكون هدفه تحرير العقل والقضية والمؤسَّسة الرهينة من قبضة «الأبوات» من «أبو الخيزران» إلى أبو مازن، ولا فرق، فالخلاص من «الأبوات» شرط التقدّم خطوة إلى الأمام، أو سيظل كهنة القبائل والمثقف الفلسطيني الهامل يعلك الكلام عمّا يسمى «أزمة المشروع الوطني» مجرّد «علاك مصدّي». الحوار الشعبي الذي يتحرّر من مضافة المخاتير ويعتمد المُكاشفة والمُصارحة والنقد، يصير قوة ثورية هائلة تصنع الرؤية والطريق الجديد ويصير تجسيداً للإرادة الشعبية الفلسطينية، فالتغيير يظهر ويتراكم حين يتمرّد الشعب على الواقع وحين يتساوى البشر في حق الفعل والقول. وإذا لازم الوعي النقدي إرادة شعبية فلسطينية حرّة، سيولد «الإنسان الجديد» كما يسمّيه غسان كنفاني. إنّ إنسان كنفاني الجديد هو نقيض الفلسطيني التقليدي القديم الراكع للعدو والقابع في ظلمات وشعاب الجهل، الفلسطيني المسخ الذي أراد صنعه الجنرال الأميركي كيثث دايتون. هذا صراع بين نقيضَين: بين فدائي يعمل ويفكّر وبين شرطي أمن. الصراع بين إنسان - قضية وبين هيكلٍ فارغٍ، وطبلٍ «وطني» لا قضيّة له ولا ضمير.
والرؤية الثورية تصنعها ممارسة ثورية في الواقع، لأنّ انفصال الفكر عن الممارسة السياسية هو العبث. فالسياسة الصحيحة تصنع السلاح الصحيح والهدف الصحيح. نحن الفلسطينيين نعيش حالة من التغييب والغياب، من الغربة والاغتراب. ساحتنا الفلسطينية العربية مُستباحة وفي الوقت ذاته قاحلة كالصحراء الجرداء، وهناك تصحّرٌ في الوعي والأخلاق معاً، وتجريفٌ عجيب من الداخل لكلّ القيم الوطنية الإنسانية، اغتراب الشعب عن وجوده، حالة أطلق عليها غسّان كنفاني «جريمة خَلع الفلسطينيين عن قضيّتهم».

(4)

إن فقدان الحُرية الداخلية، يعني العبودية ونفياً لمبدأ المساواة في صورتها البديهية، يعني فقدان القدرة على الاختيار. الحُر وحده يقرر، ويختار الدرب، حتى لو كان طريق الخطأ، لأنّ حرية الاختيار طريق مغاير للجهل، نقيض للاستعماء والاستعمار والاستبداد والاستحمار، وهذا هو المعسكر المعادي الذي استعمر واستوطن فلسطين وباع فلسطين... هو المعسكر ذاته لم يتغيّر ولم يَتبَدّل. كتب غسّان قصّة قصيرة عن رجلٍ أعمى كان يسير في الطريق، وفجأة استعاد نظره فوجد نفسه يقف أمام جدار وعلى مفترق طرق. أين يذهب؟ هذه كل القصة. ماذا أراد الكاتب؟ ربما أراد القول إنّ الرجل الأعمى استعاد وعيَه، هذا هو المهم. والآن في وسعه أن يختار ويسلك المسار الذي يريد، وفي وسعه أن يرى الطريق، ويتحرّر من الظلام ومن الارتهان والاتكاء على عكازة ومواعظ الآخرين. في وسعه أن يتحمّل مسؤولية قراره أيضاً.
(5)

إنّ قوى حزبية فلسطينية وعربية تفشل في تحقيق الحوار الداخلي مع نفسها هي قوى آفلة وفاشلة حتماً ستدخل «في الحيط» كما قال لنا أبو فلاح. هذه الفصائل والقبائل الفلسطينية والعربية تطوي صفحتها على مهل في كتاب التاريخ، مذ تحوّلت «القيادة» إلى مرتبة، وتحوّل معنى المسؤولية إلى امتياز شخصي وبدل أن يكون دور القيادة صنع بديلها، وحماية قرار الشعب وصيانة وتجديد الرؤية الجماعية وتعزيز الخدمة العامّة وتطوير العمل التطوّعي والفدائي، أصبحت مجرّد هياكل بلا روح وغير قابلة للتجديد والتغيير والإصلاح، لأنها، صارت فوق النقد، فوق المحاسبة، فوق الحزب، فوق الشعب!
يقول كنفاني: بعض مديري الدوائر أقدم من الأرشيف في مكاتبهم!
لقد فشلوا في الحوار مع أنفسهم، فكيف يصنعون الحوار الوطني أو الشعبي أو شق الطريق الجماعي نحو التحرير؟ هل يمكنك ممارسة التحرّر من دون أن تكون حُرّاً؟ هل يمكنك اجتراع رؤية بديلة وأنت لا تقرأ ولا تسمع؟ هل يمكنك معرفة مزاج الشعب من دون تفحّص واقعه وجراحه. إنّ الهرم الفلسطيني يقف على رأسه. وإنّ من تطاولوا على كرامة الشعب الفلسطيني، لم يردعهم أحد، وصاروا فراعنة!
(6)

لا توجد ساحة أو مكان للحوار الشعبي. الفضائيّات العربيّة تابعة للسلاطين، وبرامج الردح على شاكلة «الاتجاه المعاكس» صارت في كلّ مكان. في كلّ الأحزاب، تقدّم لنا أسوأ ما لدينا، ولا تبني إلا الزيف.
هذه ثقافة السلطة التي تكره الوعي النقدي، وبالمناسبة: لا فرق بينها وبين من يتناسخ من جماعة الرأي الواحد ممن يجملون رؤية السلطة وصورة السلطان. إنّ أبواق الإعلام من فريق الرأي الواحد مثل أبواق جوقة «الرأي والرأي الآخر»، مثل جماعة المليون رأي ولا موقف واحد، مثل الذين يقبلون دائماً أو يرفضون دائماً.
يقول كنفاني: ليس أسهل من الولاء المُطلَق إلّا الرفض المُطلَق. أكثر الفصائل الفلسطينية والأحزاب العربية لم تعد تنتج إلا الخواء والرثاء وبيانات التعزية والتبريك والتهنئة ولم تعد قادرة على المشي ولا على الوقوف. ولم تعد تُفرّق عزيزي القارئ بين «اليسار» و«اليمين»، وهذا ليس لأنّك أعمى بل لأنّك ترى القطيع وهو يزحف وتكرّر الطقوس والكلمات ذاتها، تسير في طريقه إلى مقرّ المقاطعة في رام الله المحتلّة، وتستجدي الحوار مع مختار الحكم الذاتي. هذه زواحف تجُرُّ زواحف تمشي كلّها خلف المرياع الكبير.
(7)

ومثلما لا طريق إلا برؤية قابلة للنقد والمراجعة، لا يقوم البناء إلا على أساس خريطة العمل أولاً وعلى «أساسات» مُسلّحة بالحديد والباطون. ويعلو البناء بالعمل الجماعي وإرادة العمال والصنائعية والمهندسين، يُشيّدون البيت معاً، طوبة طوبة، ويبنون المدماك فوق المدماك.
وعلى الحزب الثوري أن يتعلّم كيف يبني نفسه بذراعيه، يتعلّم من ورشة العمل ومن العمّال. لقد سقط الطريق حين تركنا عيوننا، غير أنّ هذا الشعب الفلسطيني لن يستسلم، وفي وسعه دائماً أن يتجدّد ويتمرّد ويستعيد مرّة أخرى وعيه وسلاحه ليشق طريقه نحو البيت... وهذا هو المخاض الفلسطيني العظيم.
يقول كنفاني: تحسبُ أنّ قصّةً ما انتهت، وإذ بها تبدأ من جديد.
* كاتب فلسطيني