لقد فارق ماركس الحياة في 14 آذار/ مارس عام 1883، لكنّ «الماركسية»، من بعده، شغلت العالم طيلة القرن العشرين، وظلّت حيّة بمنهجها لأنّ لديها القدرة على تجديد نفسها؛ ولم يعتقد أحد من أكثر غلاة العداء للماركسية، أو حتى يفكّر مجرّد التفكير، أو يخطر بباله، أنّ الحديث عن نهايتها أو موتها أو ذبولها سيكون حديث عقلاء قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. وهو ما دفع ببعض أعدائها وخصومها، في نوبات هستيريا وفرح غامر إلى درجة الجنون أحياناً، إلى إعلان نهايتها وشرب الأنخاب لتأكيد وفاة «الماركسية»، بل للتأكّد من وفاة ماركس نفسه، التي مضى عليها قرنٌ ونيّف من الزمان، حيث ظلّ شبحه مهيمناً، لا على أوروبا وحدها بل على العالم أجمع. هكذا، يؤرّخ بعضهم لوفاة ماركس، بل و«الماركسية»، لا سيّما بعد الإطاحة بالنموذج الاشتراكي البيروقراطي التعسّفي الذي استمر نحو 70 عاماً.
إيفان كانو (إيطاليا)

جدير بالذكر أنّ «بيان الحزب الشيوعي» المعروف باسم الـ«مانيفستو»، هو أول برنامج مشترك للحركة العمّالية الأوروبية، وقد صدر كبرنامج لما سمّي «عصبة الشيوعيين» في شباط/ فبراير 1848 في لندن، ونُشر باللغة الألمانية في جريدة Deuthe Londoner Zeitung، لسان حال المهاجرين الألمان، وأعيد طبعه لاحقاً في العام ذاته على شكل كرّاس، بعد تنقيحه، حيث كتب ماركس وإنجلز مقدمته التي كانت أساساً لجميع الطبعات اللاحقة (1). وحتى ماركس نفسه كان قد كتب، في إحدى الطبعات الصادرة في 24 حزيران/ يونيو 1872، إقراراً بتاريخية «البيان الشيوعي»، وأنه يحتاج إلى تحسينات ومراجعات، وأنّ نقاطاً فيه أصبحت قديمة بسبب التطوّر الهائل والمستمر خلال نحو ربع قرن. إلّا أنه أضاف أنّ بعضاً من ملاحظاته لا يزال صحيحاً من حيث أُسسه، وإن كان قد أصبح قديماً من حيث تفاصيله، ذلك لأنّ الوضع السياسي قد تغيّر كلّياً. وقد أكّد ماركس أنّ «البيان» قد أصبح وثيقة تاريخيّة لا نملك حق تغييرها (2).
لعلّ كلام ماركس بصدد بيان الحزب الشيوعي (المانيفستو) قد مضى عليه نحو قرن ونصف من الزمان، لكنّ بعض أصحابنا لا يزالون يتمسّكون بحرفية ذلك النص الذي انتقده ماركس في حياته، ويعتبرونه كتاباً مقدّساً ونصّاً غير قابل للنقد ويمثّل الحقيقة المطلقة، في حين تراهم يهملون منهج ماركس ويتعاطون مع آراء وتعليمات تقادمت مع مرور الزمان، أو أنها كانت صالحة في وقتها ولم تعُد تصلح لزمننا الراهن.
والأمر ينطبق على بقية أعمال ماركس، فحتى كتابه الريادي «رأس المال» لم يستطِع ماركس أن يُنجز منه في حياته سوى الجزء الأول، «إنتاج رأس المال»، في حين أنّ الأجزاء الثلاثة صدرت بعد وفاته بسنوات وهي «انتشار رأس المال». وقد تمكّن رفيق عمره الوفي إنجلز، عبر اعتماد مجموعة المخطوطات التي تركها ماركس، من إتمام بعض الفصول لإعادة تأليف الجزء الثاني من الكتاب الذي صدر عام 1885، أي بعد سنتين على وفاة ماركس. ثم صدر الجزء الثالث في عام 1894.
أمّا تاريخ النظريات التي درست قانون فائض القيمة، فلم يُنشر إلّا بين عامي 1905 و1910 بفضل جهود كاوتسكي. وللأسف فإنّ معظم الذين يتحدثون عن كتاب «رأس المال» يقصدون الجزء الأول الذي تناول فيه ماركس «فائض القيمة» على نحو مجرّد، في حين أنه انتقل في الأجزاء الأخرى، لا سيّما في الجزء الأخير منه، من المجرّد إلى المحسوس، خصوصاً أنّ ماركس، بعد دراسة الرأسمالية، توصّل إلى أنّ أزمتها العامة هي أزمة بنيوية لا فكاك منها.

ذيول الماركسية
لقد غيّر الكثير من الماركسيين اتّجاههم نحو الليبرالية الجديدة بحجة عدم صلاح أو صواب «الماركسية»، حتى وإن تشبّث بعضهم بذيولها أو بعناوينها لكنّه، في واقع الأمر، سار باتجاه أعدائها أو خصومها أو عمل «مقاولاً ثانوياً» لترويج مشاريعها من الباطن، أو من خلال واجهات مستهلكة. أما بعضهم الآخر، وإن كان «أقلية»، فقد تمسّك بكلّ حرف قاله ماركس، وردّده مثل ببغاء، وكأنه تعاليم مقدّسة تصلح لكلّ العصور وكلّ الشعوب والأمم، من دون أن ينظر إلى العالم المتغيّر، لا سيّما أنّ التغيير هو الحقيقة الوحيدة المطلقة التي لا تدانيها حقيقة أخرى.

الماركسية وصندوق الاقتراع
وخلال عقدين ونيّف من الزمن، غدا أيّ حديث عن «الماركسية» كأنّه من تراث الماضي أو بحثٌ في التاريخ أو خلاصات لنخب مترفة وجامعات نائية وبعيدة ومثقفين حالمين أو مناقشة في غير محلّها. لكنّ التاريخ مراوغ، على حدّ تعبير هيغل، ولعلّ مكره ومفاجآته كانت كثيرة وكبيرة، فخلال عقد واحد من الزمن عادت «الماركسية» من خلال صندوق الاقتراع، لا سيّما في العديد من دول أميركا اللاتينية. ولم يأتِ ماركس هذه المرّة بسترته المتّسخة، كما كان يصوَّر في العالم الثالث، ووراءه الرعاع والمشاغبون والبروليتاريا التي تريد تحطيم المعامل على رؤوس أصحابها، بل جاء ومعه جوقة البروفيسورية والفنانين والشعراء وأصحاب الرأي وشغّيلة الفكر واليد.
انتقلت الثورة في أميركا اللاتينية، وتحت شعارات متأثّرة بالماركسية، من الكفاح المسلّح إلى لاهوت التحرير، ثم إلى الثورة من خلال صندوق الاقتراع. وكانت مفاجأة أن يعود ثوار الساندنيتسا في نيكاراغوا إلى السلطة بعدما خسروها، وإذا بهم يستعيدونها عبر الانتخابات، وحصل الأمر نفسه في فنزويلا وبوليفيا والباراغواي والإكوادور. ومع أنّ هذا قد حصل فعلياً، لكنّ موكب تشييع «الماركسية» ظلّ مستمرّاً، فقد واصل بعضهم، متمسّكاً بذلك ومؤكّداً وفاتها، بإرسالها إلى مثواها الأخير، بل وإهالة التراب عليها، سواء بـ«نهاية التاريخ» مثلما قال فرانسيس فوكوياما، أو بـ«صدام الحضارات» مثلما بحث صموئيل هنتنغتون في أحد تحدّياته الثقافوية باعتبار أنّ الدين هو الذي يمثّل الحضارات والثقافات، بنظرة استعلائية أوروبية جديدة (3).
إذا كانت بعض العلامات الجديدة على حضور «الماركسية» على الصعيد العمليّ قد حصلت، فإنّها على الصعيد النظري سارت ببطء، لكنّ مراجعات وقراءات جديدة للماركسية وتطبيقاتها قد بدأت، وإن كانت لم تُخلِ مكانها. لكنّ محاولات التجديد والقراءة النقدية والمراجعة الفكرية والمساءلة الداخلية قد بدأت بروح مختلفة وبوعي أكبر، خصوصاً بعد سقوط التابوات والمحرّمات والكثير من عناصر الإرهاب الفكريّ التي رافقت التجارب الاشتراكية السابقة، سواء التي وصلت إلى السلطة أو تلك التي لم تصل.
ما طرحه ماركس هو تكسير آلة الدولة وإعادة سبكها مع طبعها بطابع بروليتاري ثم بطابع شيوعي مع شخصنتها بعدما كانت محايدة


الماركسية المعلّبة
ظهرت خلال العقدين ونيّف الماضية، دراسات ماركسية غنيّة ومراجعات مهمّة، خصوصاً في بعض البلدان الأنغلوساكسونية، لكنّ نصيب العالم الثالث منها كان شحيحاً، بل يكاد لا يُذكر لضعف المعرفة والاعتياد على التلقّي، ناهيكم عن المشكلات الكبيرة التي عاشها منذ انهيار النموذج الكونيّ للاشتراكية. ولعلّ ذلك ما حاولتُ معالجته في كتابَيّ «تحطيم المرايا - في الماركسية والاختلاف» و«الحبر الأسود والحبر الأحمر: من ماركس إلى الماركسية»، بالإشارة إلى ما أطلقه يساريّو جامعة برمنغهام البريطانية إلى تنظيرات السلوفيني سلافوي جيجيك الذي أعاد ربط المادية الجدلية بتطويرات وتعميقات جاك لاكان لعلم النفس الفرويدي، ناهيكم عن نظريات الأميركي فردريك جيمسون اللاحقة في دور الثقافة في «الرأسمالية المتأطرة» وأهمية القوى في فكر البشر وسلوكهم (4). وهو ما حاول فوّاز طرابلسي أن يشير إليه في مقدّمته لكتاب فؤاد خليل.
ولا بدّ من تسليط الضوء على أطروحات عدد من المجدّدين الماركسيين، سواء اتفقنا أم اختلفنا معها، لكن لا بدّ من تقدير الجهود النظريّة التجديديّة التي شهدتها «الماركسية» طيلة القرن العشرين، حتى في ظلّ وجود النظام الاشتراكي ومحاولاته تقنين قضايا الفكر وتجميد الحوار ومنع أيّ نقد لـ«الماركسية»، بل وتقديمها بطريقة أقرب إلى «التعليب»، أو ما بعده، ارتباطاً به أو تعاكساً مع حركته، لكن استناداً إلى منهج التحليل الذي جاء به ماركس مع محاولات تعشيقه مع نظريات أخرى.
لقد أصبح حضور «الماركسية» الجديد واقعاً بعد أزمة الرأسماليّة العالميّة الطاحنة والتي دلّت على صحّة الأطروحة التي تقول بدوريّة الأزمة في الرأسمالية، لأنّها جزء لا يتجزّأ من كينونتها، على الرغم من قدرتها، حتى الآن، على معالجة آثارها وتجاوز عقباتها. نقول إنّ هذا الحضور يتجلّى في استمرار تأكيد اكتشاف قوانين التطوّر التاريخي، لا سيّما قوانين الرأسمالية الأساسية التي اكتشفها ماركس، ونضيف، وخصوصاً مدى فاعلية هذه القوانين في عصر الإمبريالية وفي زمن العولمة، فضلاً عن طابعها الحداثي الاجتماعي وطبيعتها التغييرية ونظرتها المساواتية إلى البشر.
لكنّ الماركسية التي يشكّل ماركس حلقتها الأولى والأساسية ليست محصورة به، فماركس قد عاش عصره ودرس علومه واستنتج ما يصلح له، وعلى الماركسيين أن يدرسوا علوم عصرهم ويستنتجوا ما يصلح لهم. ويبقى ماركس جزءاً لا يتجزّأ من نظام معرفي يسعى إلى التغيير على أساس كوني، بعيداً عن النزعة المركزيّة الأوروبيّة التي وقع فيها ماركس نفسه أحياناً.
ولهذا، لا بدّ من تكييف الماركسية لحلّ إشكاليات البلدان النامية، بما فيها العالم العربي، في إطار المنهج وعبر قراءة للواقع الاجتماعي - الاقتصادي، خصوصاً بتأكيد دور العامل الديني والهويّة الثقافية التي تكتسب أهمية وخصوصية بالغة، لا سيّما في العالم الثالث ومنه البلدان العربية والإسلامية بشكل خاص، وهو ما ينبغي أخذه في الاعتبار؛ ولعلّ ذلك لا يحدث بإسقاطات استشراقية أو بصورة إرادوية، وإنّما من خلال فهم وتحليل واقع بلداننا ومجتمعاتنا التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والديني والتربوي والقانوني والنفسي.

نقد ماركسية ماركس
تحاول هذه الدراسة تسليط الضوء على جوانب أساسية من الوضعية النقدية في «الماركسية» من خلال المنهج الديالكتيكي، وسوف تمضي في هذا الاتجاه من دون أيّ حرج في نقد ماركسية ماركس نفسه في ما يتعلّق بطوباوية أطروحته بخصوص الدولة ومستقبلها، لا سيّما اختزالها إلى أداةٍ للقمع من دون النظر إلى جوانبها الخدمية والتعليمية والصحية والثقافية وغيرها، ولا شكّ في أنّ مسألة الدولة لم تكتمل دراستها على يد ماركس الذي قدّم قراءات ناقصة واستنتاجات كانت بحاجة إلى تدقيقات وإعادة قراءات.
وإذا كانت مسألة الدولة جوهرية ومحورية لدى ماركس ومجمل أطروحاته الفكرية والفلسفية، فإنّ القضاء على الرأسمالية سيعني وضع حدّ لها، لا سيّما بانتصار الطبقة العاملة، لأنّ الدولة البرجوازية هي، بحسب مفهومه، نتاج تطور الرأسمالية النهائي، وهو ما كان قد اشتغل عليه منذ «نقد فلسفة الدولة لدى هيغل» و«نقد فلسفة الحق» عند هيغل أيضاً، أو في كتابه المشترك مع إنجلز «الآيديولوجيا الألمانية». وبالطبع كان ماركس قد كرّس جهده الإبداعي ضدّ الرأسمالية ونظامها، وكان يعني أنّ الطبقة العاملة التي هي نقيض البرجوازية، إذا ما انتصرت، فإنّ ذلك سيقود بالضرورة إلى تدمير آلة الدولة البرجوازية (5).
وإذا كانت الدولة البرجوازية هي خصم ماركس الأول، فإنّ البروليتاريا مرشّحة لمواجهة هذا الخصم القوي الذي وُجد منذ «الأزل»، على حدّ تعبيره. فمن يضمن أن يزول أو يُزال بالأحرى في يوم من الأيام؟ وكأنّ ماركس في كتاباته الأخيرة يردّ على نفسه أو يعدّل أطروحته بشأن ذبول الدولة وزوالها، رابطاً ذلك بقدرة البروليتاريا على إصلاح المجتمع جذرياً بعد نجاح الثورة، أي أن يتمّ ذلك قبل الإجهاز على الخصم أو ما تبقى منه، وذلك بعد تحرير المجتمع كلّه من كلّ ذهول أو افتتان مرضي أمام السلطة، حتى لا نتحدّث عن الخنوع المبتذل.
كان ماركس يرفض وضع أيّ احتمال لدوام انقسام المجتمع إلى الأبد إلى حكّام ومنظِّمين من جهة، وإلى شغّيلة ومحكومين من جهة ثانية. واستناداً إلى ذلك، كما ورد في كتابه «الثامن عشر من برومير» أو في «الحرب الأهلية في فرنسا»، تحدّث ماركس عن زوال الدولة بالتدريج قائلاً: «العلم وحده يستطيع أن يحلّ هذه المسألة، ولن يحلّها، بل لن يُقدم على حلّها دفعة واحدة...». ولذلك، كما ورد في «نقد برنامج غوتا»، لا ينبغي الحديث عن الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا، المطابقة للتحوّل الثوري أو الانتقال السياسي، وعن الدولة المستقبلية في المجتمع الشيوعي (6).

ماركس والدولة
أي إنّ ما طرحه ماركس هو تكسير آلة الدولة وإعادة سبكها مع طبعها بطابع بروليتاري ثم بطابع شيوعي، مع شخصنتها بعدما كانت محايدة. لكنّ أطروحات ماركس عن الدولة ظلّت غير مكتملة، في حين غاص بفكرة المجتمع حتى العمق، لذا لا يمكن القول إنه قد أنتج نظرية مفصّلة أو متكاملة عن الدولة، وربما يكون ذلك جزءاً من عمله المؤجّل الذي لم يسعفه عمره البيولوجي لاستكماله أو التبحّر فيه.
وإذا كنّا قد أشرنا إلى نقده الفلسفي للدولة في نقد هيغل وفلسفته، فإنّ نقده اللاحق قد انطلق من قطيعته مع هيغل ومن بداية تقديم تصوّراته المادية عن التاريخ، وهو ما تناوله في كتاب «الآيديولوجيا الألمانية».
وإذا كان قد فعل ذلك في مرحلة ماركس الشاب، فإنّ ماركس الناضج أو الكهل، كان أكثر تركيزاً على المجتمع منه على السياسة، مثلما انتقل من الفلسفة إلى الاقتصاد. ولعلّ هذا ما ترك انطباعاً بأنّ «الماركسية»، بل ماركس بالذات هو من يقدّم العامل الاقتصادي على بقية العوامل (7).
إنّ عدم اكتمال نظرية ماركس حول الدولة جعلت فهمه قاصراً بشأن نمط الإنتاج الآسيوي الذي قاده إلى تأييد المركزية الإدارية «التحريرية» لشعوب غير قادرة على صناعة تاريخها، وهو استنتاج خاطئ يتعلّق بالدور التمديني للاستعمار، على الرغم من عودته لاحقاً لإدانة ذلك بعدما توصّل إلى استنتاج مفاده أنّ توسّع الرأسمالية المتفاوت في أوروبا وسائر بلدان العالم قد أسّس لشكل جديد من الاستغلال هو الاستغلال الكولونيالي (8). أما بخصوص قضايا الدين ووظيفته وحاجة البشر إليه، فقد اعتبر ماركس أنّ الدين سيزول بزوال الظلم والاستغلال بين البشر، وهو ما يراه الباحث نظرة تبسيطية لا تجيب عن لغز الحياة الأكثر تعقيداً، ولعلّ ماركس، في كلّ ما قدّمه حول هذا الموضوع، لم يكن أكثر من تخمين في حين أننا بحاجة إلى برهان. لكنّ ملاحظات ماركس الانتقادية تلك، لا تقلّل أو تنتقص من المنهج الماركسي الذي لا يزال صميمياً وصالحاً لقراءة وتفسير الظواهر الاجتماعية وتحليل تاريخ التطور الاجتماعي، فضلاً عن أهم اكتشافاته لقوانين الجدل وتاريخ التطور البشري وقانون فائض القيمة.
إن النقد الفلسفي للدين، لدى ماركس أو «الماركسيين» من بعده، يستند إلى اعتبار حركته التاريخية جزءاً من الحركة الاجتماعية ذات الأبعاد الفلسفية التي تتعلّق بالكون والوجود والمستقبل، فضلاً عن الحاضر. ولا بدّ هنا من الجمع بين فلسفة ماركس ونظريته السوسيولوجية، بما تمتلك من رأس مال معرفي يقوم على فكرة المساواة والحرية، الأمر الذي يضعها في صلب إشكاليات الراهن والمستقبل سواء بالنسبة للدين أو لغيره من الظواهر الاجتماعية. وكان ماركس نفسه و«الماركسية» في عهده موضوعاً للنقد، لا سيّما من قبل دوهرينغ، كما أنّ «الماركسية» المعاصرة قد تمّ نقدها من قبل علماء اجتماع مثل دوركهايم وماكس فيبر ومدرسة فرانكفورت (9).
وإذا كانت مساهمات إنجلز ثريّة وأساسية في تأسيس «الماركسية»، منذ «البيان الشيوعي» وفي ما بعد متابعة إصدار «رأس المال» بعد وفاة ماركس، فإنّ هناك مساهمات قيّمة لمفكّرين ماركسيين تعاملوا مع «الماركسية» في ظروفها، بدءاً بجورج لوكاش مروراً بسارتر وروجيه غارودي وحتى ألتوسير، ومن ثم الإطلال على المدرسة الماركسية الحديثة، لا سيّما بعد انهيار الاشتراكية، الممثلة بمحاولات سلافوي جيجيك وفردريك جيمسون.

* باحث عراقي

المصادر والهوامش

1- بدأ ماركس وإنجلز بكتابة «البيان الشيوعي» بتكليف من عصبة الشيوعيين بعد مؤتمر لندن المنعقد في تشرين الثاني/ نوفمبر 1847، ووجد البيان طريقه للنشر قبل أسابيع قليلة من قيام ثورة شباط/ فبراير الفرنسية عام 1848.
2 - انظر: دونكر، هرمان: البيان الشيوعي، ترجمة عصام أمين (النص الكامل مع دراسة وتحليل)، دار الفارابي، 2008، ص ص9-13.
3 - انظر: Huntington- Samuel- Aclash Of Civilization, Foreign Affaires, Summer 1993
Huntington, Samuel- The Clash Of Civilization And Remarking of world order, London, Simon and Schuster,1997
انظر: فوكوياما، فرانسيس - نهاية التاريخ والإنسان الأخير، مصدر سابق.
4 - انظر: طرابلسي، فوّاز، لدى فؤاد خليل - (المقدمة)، مصدر سابق، ص10.
5 - انظر: ماركس، كارل، وإنجلز، فردريك: الآيديولوجيا الألمانية، ترجمة د. فؤاد أيوب، دار دمشق ، بلا تاريخ.
6 - انظر: نقد برنامج غوتة. وقد كتبه كارل ماركس أواخر شهر نيسان/ أبريل - أوائل شهر أيار/ مايو سنة 1875، ونُشر لأول مرة في مجلة Die Neue Zeit ، المجلد 1، العدد 18، سنة 1890-1891.
7 - قارن: لينين، فلاديمير: الدولة في الماركسية، ترجمة فخري لبيب، القاهرة، 1984.
8 - ومن شطحات ماركس قوله: «لقد تحوّل الإيرلنديون، بواسطة القمع المنهجي، إلى أمة ساقطة» - من رسالة إنجلز إلى ماركس في 23 أيار/ مايو 1856 وهناك رسالة ثانية بهذا الخصوص بتاريخ 24 تشرين الأول/ أكتوبر 1869، وهو ما يذكّر بموقف ماركس من الشعب التشيكي الذي وصفه بأنه رجعي بالمطلق.
9 - انظر: طاهر، علاء: مدرسة فرانكفورت: من هوركهايمر إلى هابرماس، بيروت، منشورات الإنماء العربي، 1987.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا