استوقفتني البارحة صورة لحاكم مصرف لبنان يعلوها تعليق تهكمي يعبّر عن استخفاف هذا «الجريء» بمأساة المودعين العالقين في أسر وعوده وتدابيره وقيوده، وبدع مخيلته الإجرامية الخصبة، ويعدهم بمقايضة أموالهم بحلوى على شكل بيض ورؤس «عبيد». وقد راودتني صورة ردة فعل هؤلاء المظلومين الساكتين، وكان أفضل الرد على الحاكم وصورته هو: «لست الأب الصالح لننتظر منك طيب الهدايا، وإنما هو بيض الأفاعي المسموم ورؤوس فسادكم الأسود. ولن يفرحنا سوى رحيلك أياً كانت الطريقة»!. وقد وجدت في تلك الصورة مناسبة لرسالة أوجهها إلى المودعين تحت عنوان «لا تصمتوا عن قول الحق بعد اليوم ولا تصمتوا عن المطالبة بحقوقكم وأموالكم وعرق جباهكم وتعب العمر الذي أفنيتموه لجمع بعض المال لتقاعدكم أو لأيامكم الصعبة، أو لطبابتكم أو لتعليم أولادكم... فمن يضع لِجَامَاً على فمه، سيضعون سرجاً على ظهره».
هذا الشعب اللبناني العظيم لا يزال حتى اليوم صامتاً ومُخدّراً يعيش تحت تأثير أوهام وكذب أهل السلطة الفاسدة العفنة المتواطئة والجبانة، التي تترك مصيره لحاكمٍ هائج متهوّر يعبث بقدر البلاد والعباد، ويتحكّم بلا رحمة بلقمة عيشنا وعلم أولادنا ومستقبلنا وكرامتنا. هو الشريك الأساسي في إرتكاب جريمة إنسانية ووطنية كبرى لم تقتصر على سلب المواطن أمواله وحرمانه من السلامة والأمن والأمان لتقاعده وشيخوخته وآخرته، بل تعدّتها إلى تدمير ما تبقّى من بنيان وطننا «النموذج» الجميل بطبيعته الفريدة وبتعدّديته، الرائع بأبنائه، المُبدع بمهاجريه وصمود المقيمين فيه، ينتظرون عودة أبنائهم يكحلون عيونهم برؤياهم بين موسم أعياد وآخر... ظلّ يغشّنا ويتلاعب بأموال المُقيمين والمُغتربين ويكذب علينا على مدى خمس وثلاثين سنة هو ومن أتى به من حكّام لبنان...
إن فظاعة جريمتهم بحق الوطن هي بحجم عمالتهم ونذالتهم وحقارتهم ووحشية ذلك الدمار الذي حاول تأديب البلاد ولم ولن ينجح. وها هم اليوم يستكملون الجريمة بحرمان الفقير حتى من لقمة عيشه وخبزه اليومي ومن الدفء على أبواب شتاء قادم!
تذكّروا معي تصريحات سمعناها منه: «عن أية أزمة وانهيار تتحدثون وتتهامسون، ليرتكم بألفِ خير لا داعي للهلع... لا تخافوا فالمصارف في أحسن أحوالها وكذلك اقتصاد لبنان...». وها هو اليوم يستكمل مسيرة الكذب والعهر والنفاق والدجل، وبكل وقاحة يقول من على إحدى الشاشات المتواطئة معه في جرائمه وفي حضرة بعض «الإعلاميين الداعمين المُبيّضين لسواد صورته وقبحها»: لكم كل الحقّ بأن تسحبوا ودائعكم لدى المصارف وإنمّا بالليرة اللبنانية... فأنتم في لبنان، وكل الدول تفعل ذلك فتُردّ الأموال للمودعين بعملتها الوطنية! فلماذا «تتبغددون» وتتكبّرون على عملة بلدكم أيها البسطاء؟ لقد نسي الحاكم بأمره أو تناسى أنه دولر الإقتصاد، وأن المصارف لم تقل يوماً لمن أودعوا أموالهم لديها بالعملة الخضراء بأنها لن تردّها إليهم بغير الليرة اللبنانية التي طبع لنا الحاكم ونوّابه القُدامى والجُدد آلاف المليارات منها، لتفقد أي قيمة لها، فأين شرعة المُتعاقدين، وماذا يتبقّى من القوانين بعد أن داس على أحكام قانون النقد والتسليف مادة مادة وفقرة فقرة، خاصة تلك التي تتعلّق بدور هيئة التحقيق الخاصّة الوقائي، بحيث بات هو الخصم والحكم والآمر الناهي والكل بالكل...
نسي الحاكم بأمره والـ «بلاشفقة ولا ضمير»، أنه كبّد المالية العامة والخزينة طيلة سنوات وسنوات مبالغ طائلة لكي يُحافظ على سعر صرف ثابت لليرة على الدولار، وبدّد المليارات في سبيل ذلك، وأشرك المصارف وأصحابها في جريمته بإغراء المُغتربين بتحويل جنى أعمارهم إلى مقبرة «نظامه المصرفي» الذي طالما تغنّوا به واوهمونا انه مفخرة لبنان واللبنانيين، مقابل لقمة الفوائد الربويّة المسمومة، وهو الذي من أول واجباته وصلاحياته ومسؤولياته الحفاظ على هذا النظام المصرفي وضمان استقراراه وازدهاره، ليبقى ميزة لبنان التفاضلية في المنطقة. وها هو يُبدّد هذه الثروة لحساب عدو جاثم على حدود لبنان المحصّن، يسعى جاهداً لتعميم الفوضى والتحريض ورفع درجة الاحتقان الداخلي علّه يخضعه فيتنازل له عن حقه بثروته.... او لصالح كبار حيتان المال من سياسيين وزعماء، غطّى فسادهم وإفسادهم وصفقاتهم طيلة سنوات طويلة... فلا عجب ان نراهم اليوم يستبسلون في حمايته وفي الدفاع عنه وفي منع حصول تحقيق جنائي او مُحاسبي في مصرف لبنان، حتى لو وصل الأمر للخراب الكامل لكل لبنان... او لصالح مصرفيين ورجال اعمال اغرقهم بالعطايا والهبات والمكرمات و«الهندسات المالية البهلوانيّة» و«غبّ الطلب» طيلة فترة ولايته المتجدّدة بدعم خارجي (أميركي خاصة) قلّ نظيره، وهو لا يخفى على احد ولا يحتاج لأي دليل.
أما آخر بدع الحاكم بأمره، اللا رياض واللا سلامة، التي لا يمكن أن نمرّ عليها مرور الكرام، فهي زعمه بوجود ثلث الذهب في أميركا والباقي في خزائن المصرف المركزي في لبنان، دون أن يُفسّر لنا تصريح نائبه الثالث أمام بعض النواب والذي ينفي فيه الأخير المُعيّن مُوخّراً إجراء اي جرد مادّي فعلي للذهب منذ سنة ١٩٩٦. فبالله عليكم كيف تفهمون هذه التصريحات الغريبة، الغامضة والمُتناقضة؟ ألا تزرع الشك بعدم وجود الذهب من أصله اليوم، وتُجيز السؤال حول إمكانية أن يكون جرى التصرّف به منذ زمن عن طريق بيعه أو رهنه أو بدعة أخرى لا تخطر بالبال؟.
أيها المودعون...إلى متى سكوتكم بعد كلّ هذا الذلّ والإذلال والإفقار والتجويع على أيدي عصابات مُجرمة ماكرة بمعظم مكوّناتها وزعاماتها وقياداتها السياسية، إلا القلة القليلة ممن لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة.
لا وألف لا. لا يجوز السكوت بعد اليوم.... وقد بات من الكفر كظم الغيظ وكبت الأحاسيس وكبح الغضب ولجم الثورة في وجه العصابات الطائفية المُتفاهمة على ذبحكم بسكين رياض سلامة، والمُتّفقة على حمايته وعدم مُحاسبته والتحقيق معه لأن ذلك سيفضححهم وسيفضح كذبهم ونفاقهم وصفقاتهم طيلة كل تلك الفترة الطويلة، وسيعرّيهم ويُسقط ورقة التين الأخيرة التي ما زالوا يتمسّكون بها امام ناخبيهم ومُؤيّديهم، وسيضعهم في اوضاعٍ حرجة امامهم. ولذلك فهم يناورون ويحتالون ويلعبون على الكلام ويُنمّقونه ويزرعون فيه قصداً وعن سابق تصميم وإصرار، بعض الحواشي الغامضة المُتعمّدة بهدف التورية والتعطيل في معظم مُقرّراتهم وتوصياتهم، كما ورد مُؤخّراً عند إستعمال كلمة بـ«التوازي» التي احتار معظم المحلّلين والخبراء وحتى بعض السحرة والمنجّمين في تأويلها عندما في آخر توصية صادرة عن مجلسنا النيابي المُوقّر الذي استنفر اليوم ويريد تحقيقاً متوازياً في كل مؤسسات وإدارات وصناديق الدولة. وهذا ما من شأنه ان يُؤجّل كل التحقيقات ويُبعدها عشرات السنوات الضوئية الى الأمام في مُهمّة نعرف جميعاً ومُسبقاً انها من سابع المُستحيلات، بسبب تجذّر الفساد وإمتداداته الى داخل كل مفاصل تلك المؤسسات والإدارات! فهل لدينا ترف الإنتظار؟ وهل الوضع القائم مع كل مفاعيل وإرتدادات الإنهيار الحاصل على كل المستويات يحمل ذلك؟
إذاً ، فبماذا ينفعنا السكوت بعد اليوم؟ وهل به نستعيد أموالنا ونُعوّض خسارة عمرنا والأحلام والطموحات التي دفنوها معاً، خلال كل تلك السنوات الطوال التي انقضت على سوء إدارتهم وقصورهم وقلّة ضمائرهم وإبداعهم في إفلاس الدولة والمصارف بالتواطؤ مع أصحابها؟ ناهيك عن سمسراتهم وصفقاتهم وزرع أزلامهم ومحاسبيهم في كل مواقع القرار لتسهيل سرقاتهم واكتساب ما لذّ لهم وطاب بالحرام من ضرع بقرة الخزينة الحلوب على حساب المكلفين بالضرائب العمياء دون رحمة. وأي مغارة هي تلك التي غزاها علي بابا ومعه مئات الحرامية واللصوص والسارقين واستمروا باستنزافها على مدى كل تلك السنوات؟!.
لن نقول مبروك لهكذا شعب على هكذا حاكم وجمعية مصارف وأصحاب مصارف، ولا على هكذا حُكّام طبعاً، فهم جميعهم من الطينة والعجينة والبذرة الفاسدة ذاتها... ولهؤلاء نقول: «ليس ما بعد ظلمكم ظلم وإستبداد، ونعدكم بأن نخرج من الرماد ونحاسبكم ولن يطول الزمن!

* د. طلال حمود
مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود