هل بين الدولة والمقاومة تناقض مستمر، أم من الممكن التعايش والبناء؟ إشكالية عرفتها بلدان عدّة، والإجابات متباينة ومختلفة. ماذا عن التجربة اللبنانية؟ خصوصاً في هذه الأيام إذ نشهد نقاشات حادّة بين خيارات أيّة دولة وأيّة مقاومة: هل الصراع محتوم ودائم بينهما؟ أم التسوية والتوفيق احتمال وارد وكيف؟عبر امتداد التاريخ اللبناني ظهرت دورياً مناوشات سياسية تعقبها حروب أهلية طاحنة، تنتهي باتفاق و«تبويس شوارب». هذه الاتفاقات لم تكن يوماً «لبنانية صِرْفَة»، بل كانت دائماً نتاج خلطة دولية ببهارات كلامية معسولة حول «الوحدة الوطنية»، و«العيش المشترك»، و«إلغاء الطائفية السياسية». ولأن هذه الاتفاقات لم تعالج أصول المشكلة ولم تبتر جذورها، ظلّت أشجار الفتنة تنمو وتتكرّر.
لبنان ما زال «دولة مؤجّلة» أو دولة قيد النشوء والتأسيس، لأنه دائماً بحاجة إلى من يدير شؤونه الداخلية، بسبب عدم وجود نظام متفق عليه من جميع اللبنانيين، وغياب المؤسسات التي يحتكم إليها في الأزمات. إن هذه الحال من عدم الاستقرار والثبات والاتفاق على المؤسسات ومرجعيتها وصلاحياتها، تضع لبنان دائماً أمام أزمة هُوية. والدليل على ذلك أنه عند كل مفترق طرق، الأزمة التي تبرز لا تكون أزمة سياسية عابرة، بل أزمة وجودية كيانية وأزمة هوية. والصراع على السلطة والحكم سرعان ما يتحول إلى انقسام عامودي «سياسي بنكهة طائفية»، فبات الشعب اللبناني شعوباً إلى درجة أن أحدهم خاطب جمهوره قائلاً: «يا شعب 14 آذار»!
الواقع أن هذه الأزمة السياسية ما هي إلا نتاج الواقع الطائفي البغيض الذي يحكم لبنان منذ قرون. فعلى الرغم من أن عنوان الخلاف اليوم سياسي، إلا أنه عند أول احتكاك تكشّر الطائفية عن أنيابها وتصبح قوى 14 آذار مثلاً مقسّمة بين: مسيحيي 14 آذار وسُنّتها ودروزها، وتصبح المعارضة عدة معارضات بحسب الطائفة: فشهدنا تسميات مثل: مسيحيو المعارضة، أو اللقاء الوطني المسيحي، وسُنة المعارضة، والثنائي الشيعي، وشيعة السفارة!
والمشكلة الأكبر أن هذه الشروخ الطائفية لا تُعالج باتفاق أو بتوزيع حصص أو غيره، لأن معادلة التزايد السكاني تحكم الطوائف، فهي في دينَمية ونمو ديموغرافي وتمدّد مستمر، وكل طائفة لا تقبل بمكاسب لا تليق بحجمها و«قوتها»، سواء المالية أو العسكرية أو «الثقافية»! فكلما تمّت المحاصصة بين زعماء الطوائف، تبرز حاجة إلى «إعادة الاقتسام» من جديد بعد مدة من الزمن بسبب تقلب وتغير أحوال الطائفة وتغير تحالفاتها الإقليمية والداخلية... ما يولد ثنائيات طائفية سياسية متفجّرة تهدد وحدة المجتمع ووحدة الدولة، ما يشكل خطراً وجودياً على السيادة والحرية معاً.

ثنائيات متفجّرة وتكاملية
إن هذه الثنائية تجد أسبابها في تفكك المجتمع وضعف الدولة المركزية، أو بمعنى أدقّ، في عدم وجودها أساساً، كما تنسحب هذه الحالة على تفاقم ثنائية الدولة والمقاومة. فلولا عجز الجيش اللبناني غير المسلّح جيداً في الدفاع عن الأراضي اللبنانية والشعب اللبناني في وجه الاعتداءات الإسرائيلية، لما نشأت المقاومة ولما تسلّحت. كما أن مشكلة سلاح المقاومة ليست بنت اليوم كما يحاول البعض تصويرها.
فمنذ نيل لبنان استقلاله، تخلّى لبنان الرسمي عن واجبه في الدفاع عن أرضه المحتلة في الجنوب، كما تخلّى عن دوره في الصراع العربي – الإسرائيلي، فلم يشارك جيشه في الحروب التي خاضتها الجيوش العربية ضد «إسرائيل».
هذه «العقيدة» التي اعتمدتها الطبقة السياسية آنذاك، أخلت الساحة الجنوبية أمام المقاومة الفلسطينية، ثم المقاومة الوطنية، وأخيراً المقاومة الإسلامية. إن نجاح فعل المقاومة، أثبت فشل الدولة التي تعيش بشعار «قوة لبنان في ضعفه».
اليوم، هناك نقاش حادّ في لبنان حول ثنائية المقاومة – الدولة. لكن الحقيقة أن هناك مقاومة فاعلة ذات قوة فائضة، مقابل «لا دولة»، إذ لا قدرة ولا قوة لها! فالدولة بمفهومها الحديث غير موجودة، وكل فريق يتحدث عن الدولة انطلاقاً من مفهومه الخاص. في لبنان، هناك دولة الطوائف، ودولة المصارف، وأمراء الحرب، وأثرياء الحرب وغيرهم... لكن ليس هناك دولة حديثة. من هنا، كيف يمكن لدولة غير موجودة أصلاً أن تقوم بواجب الدفاع عن أرضها وشعبها، في وقت تعجز عن إخماد حرائق تشبّ في جبالها؟
مقابل فائض ضعف الدولة يوجد فائض قوة المقاومة. أساساً سلاح المقاومة هو نتاج غياب الدولة التاريخي، وتجاهلها لواجباتها، إما بسبب العجز أو بسبب افتقاد القدرة العسكرية. إضافة إلى الإهمال الإعماري والاجتماعي والاقتصادي لعدد من المناطق، ما اضطر أبناء هذه المناطق المحرومة والمهمّشة إلى إنشاء أحزاب وحركات تجذّر وعيهم وتسدّ حاجاتهم وتؤمّن ما تتقاعس الدولة عن تأمينه. ومع مرور الوقت، باتت المقاومة أقوى من الدولة وباتت تتفرد بولاء أبناء هذه المناطق والفئات، كنتيجة طبيعية تراكمت عبر السنوات. فالمقاومة هي التي حرّرت، وبنت، وعوّضت وأمّنت الخدمات الاجتماعية والطبية والمعيشية وحفظت الأمن في المناطق. فأنشأت عملياً منظومات بديلة عن الهيئات الدولتية.
لبنان ما زال «دولة مؤجّلة» لأنّه دائماً بحاجة إلى من يدير شؤونه الداخليّة بسبب عدم وجود نظام متّفق عليه من جميع اللبنانيّين


نستخلص مما سبق أن «لبنان دولة فاشلة» بالمرتبة الـ 18 من أصل 60 دولة، بحسب تصنيف نشرته دورية «فورين بوليسي».
وهناك من يعتبر أن لبنان ليس «دولة فاشلة» فقط، بل إنه أصلاً ليس دولة! بل هو دولة رخوة وفق تعبير مصطلح الاقتصادي السويدي گوننر ميردال، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد في عام 1974، عن كتابه «الدراما الآسيوية - بحث في فقر الأمم». ويقصد ميردال بـ «الدولة الرخوة»، الدولة التي تضع القوانين ولا تطبقها، لأن لا أحد يحترم القانون. وانتشار الفساد يزيدها رخاوة، والفساد ينتشر في السلطتين التنفيذية والتشريعية، حتى يصل إلى القضاء والجامعات، ويصبح الفساد في ظل الدولة الرخوة «أسلوب حياة». أهم سماتها :
- تراجع مكانة الدولة وهيبتها داخلياً وخارجياً.
- وجود مؤسسات حكومية أكثر من اللازم، ومن دون دور واضح، إلى درجة تتداخل وتتشابه معها صلاحيات المؤسسات وهدفها خلق مناصب المحسوبين.
- نسيج اجتماعي منقسم.
- التبعية للخارج وفقدان الدولة سيطرتها على جزء كبير من قرارها الداخلي (دولة تعيش عالة على الخارج).

قوة لبنان في ضعفه ومقاومته
لطالما اعتبرت الدولة اللبنانية أن قوة لبنان في ضعفه، لذلك فهي لم تعطِ تعزيز وضع الجيش أو تسليحه وإعداده الأولوية اللازمة، ونأت بنفسها عن المواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان الإسرائيلي منذ نشأته. ولأن الدولة تركت أرض الجنوب مشرّعة أمام الخروقات الإسرائيلية، صارت المنطقة «سائبة» ومُهيَّأة ومحتاجة إلى من يقوم بدور الردع والدفاع. فهي ساحة «فراغ قوة»، فأضحى الجنوب «خاصرة رخوة» يفتش عن قوة تملؤه... فكانت المقاومة الوطنية أولاً، ثم كان نشوء المقاومة الإسلامية حزب الله، كرد فعل طبيعي على الاعتداءات الإسرائلية والاجتياح وتقصير الدولة. فالمقاومة لم تنشأ من فراغ، ولم تزاحم الدولة لحماية جنوب لبنان، بل كانت أمراً واقعاً ضرورياً، وموقفاً شعبياً طبيعياً من العدوان الإسرائيلي الدائم والمتواصل، في ظل غياب الحماية لأهل الجنوب من قبل الدولة.
قامت استراتيجية المقاومة الإسلامية تاريخياً على ثنائية تكاملية بين المقاومة والدولة والتساند في ما بينهما. واكتسبت المقاومة مع الوقت خصوصية. ويمكن القول إن أكثر ما أعطاها القوة، ودرأ عنها الحملات الدولية لتشويه سمعتها لوقت طويل، كان تكاملها مع الدولة من دون تحمّل مسؤوليات الحكم. وقد حقّق الحزب انتصارات متتالية للبنان، لأن المعارك كانت تدور بين مجموعة مقاومة (حزب الله) والدولة العبرية، ولم تكن المواجهات من دولة إلى دولة، ما يهدد بإشعال حرب كلاسيكية نظامية غير متكافئة. وبالتالي أمّنت الدولة الغطاء السياسي للمقاومة، وكلّلتها بطابع من الشرعية، مدافعة عن حق لبنان الطبيعي في مقاومة الاحتلال في المحافل الدولية، ما أفسح المجال أمام حزب الله لتنفيذ العمليات العسكرية المقاومة ميدانياً.
وبعد الإنجاز الكبير للمقاومة عام 2000 بتحرير الجنوب اللبناني، باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وقع زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ونشأ على إثره فريق 14 آذار الذي تطوّر خطابه السياسي تدريجاً، حتى وضع سلاح المقاومة نصب عينيه. كما جعل من استهدافه «المَهمة الأولى» بغية الوصول إلى نزعه، عن طريق العمل على إلغاء التكامل الذي ساد طوال السنين الماضية بين المقاومة والدولة، حتى في أيام الرئيس رفيق الحريري الذي التزم نهج التساند بين الدولة والمقاومة ونجح بالتعاون مع المقاومة على انتزاع اتفاق نيسان.
لذلك، هناك اليوم فريق من اللبنانيين يخيّر المقاومة بين حلّين:
الأول: التخلي عن قوتها العسكرية لمصلحة فائض ضعف الدولة، وهيمنة حكم متهم بأنه فئوي ـــ مع أن الواقع والمنطق يؤكدان أن لا فعّالية للسلاح في يد جيش نظامي في ظل انعدام التكافؤ مع «إسرائيل»، وغياب التوازن الاستراتيجي واستحالة الحرب الكلاسيكية.
الثاني: استدراج المقاومة إلى التماهي مع الحكم وتجيير المقاومة إلى كنف الدولة، أي ما معناه التنصّل من المسؤولية الأخلاقية والوطنية تجاه المقاومة. وتعريتها أمام الضغوط الدولية من باب التهويل والإحراج. وهكذا تبقى المعادلة اللبنانية بين المقاومة والدولة تكاملية غير مكتملة.
هذا التحدي وضع المقاومة والدولة في مأزق وخطر المواجهة أو تحول المقاومة وحلفائها إلى جبهة وطنية قائمة على ثلاثة أُسس:
أولاً: وضع برنامج وطني للتعامل مع المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتخطيط لحلها.
ثانياً: تشكيل قيادة واحدة، وإدارة موحّدة لجبهة المقاومة والتغيير.
ثالثاً: إنشاء مؤسسات وطنية مُهيَّأة لإدارة شؤون النظام الجديد.
وهكذا يتم تقديم نموذج فريد وصالح للحكم كما وعد السيد حسن نصرالله، تمهيداً لبناء دولة مدنية ديمقراطية قادرة على استكمال التحرير، إضافة إلى الردع والدفاع ضد العدو... وقادرة أيضاً على تحقيق التنمية والعدالة والمساواة، وتحصين الوحدة الوطنية ووحدة المجتمع، من أجل ضمان مستقبل الدولة والمقاومة معاً في لبنان الجديد، وكسر المعادلات التعجيزية السابقة لمصلحة إبداع صيغة جديدة تجسّد تكاملية الدولة والمقاومة المكتملة على أساس بناء دولة المواطنة المدنية الديمقراطية المقاوِمة. وهذا يتطلّب معالجة منفصلة في بحث آخر.
* كاتب وناشر لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا