(مقدمة منهجية لكتاب قيد التحضير بعنوان «تاريخ الأزمة السورية»)
- 1 -

اخترتُ مصطلح «الأزمة» لتأطير ما جرى في سوريا، منذ درعا في 18 آذار/ مارس 2011، ولم أختَر مصطلحاً آخر. في هذه المقدمة، سأشرح المسوّغات النظرية لهذا الاختيار.

- 2 -

هناك تعريفات عدّة لمفهوم «الأزمة»: 1- في «الويكيبيديا» نجد التعريف التالي: «أيّ حدث يتّجه نحو إحداث وضع خطر وغير مستقر ممّا يؤثّر على الأفراد، أو مجمل المجتمع. الأزمة ذات تأثير سلبي على الأمن، والقضايا الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية» (1).
2- يقدّم الأكاديمي الدانماركي بول سفينسون، تعريفَين للأزمة السياسيّة: أ - «الأزمة السياسيّة ترتبط بالتحدّيات التي تواجه النظام السياسيّ، بنوع ودرجة يمكن أن يهدّدا استمرار هذا النظام. في هذه الحالة، يعيش النظام السياسيّ حالة كامنة من التعطّل أو الانحلال (BREAKDOWN)، وهذا التعطّل أوالانحلال يمكن أن يظهر على السطح، إذا لم يتغيّر النظام جذريّاً في بنيته أو إذا لم تتغيّر البيئة المحيطة بالنظام» (2). ب - «الأزمة السياسيّة هي أشكال من الاحتجاج تصل إلى نطاق يهدّد قدرة أصحاب المناصب في السلطة على حفظ النظام وقدرتهم على الاستمرار في ملء أدوار السلطة» (3).
عمل رقمي يستوحي الملصقات السوفياتية التي تمجد الثورة GraphicٍRiver


3 - مفهوم أنطونيو غرامشي للأزمة: «الأزمة تتشكّل (أو تتكوّن - CONSIST) بدقّة، عند واقعة أنّ القديم يحتضر وأنّ الجديد لا يستطيع أن يولد» (4).
من الواضح أنّ هذه التعريفات الأربعة لـ«الأزمة»، تُعنى بحالة داخل معيّن في بلد محدّد عند لحظة صراع سياسي بين طرفَين أو عدة أطراف محلّية. الصراع السياسيّ، هنا، يمكن أن يأخذ أشكالاً سلمية (تظاهرات - إضرابات - اعتصامات)، أو شكلاً عنيفاً ضدّ السلطة القائمة. الأزمة، هنا، تتكوّن عندما لا يستطيع أحد أطراف الصراع الانتصار، وعندما لا يستطيع طرفا الصراع (أو أطرافه) الوصول إلى تسوية للصراع. يمكن لتعريف غرامشي أن يدلّ على أنّ القديم عندما ينتصر، فإنّ انتصاره لا يعني حلّاً للأزمة، بل تسكينها أو تحويلها إلى كامنة، عبر انتصاره الذي يكون بأشكالٍ عنيفة عسكريّة - أمنيّة محض، وفق تعريف سفينسون لـ«الحالة الكامنة»، وبالتالي ستكون قابلة للانفجار وتتظهّر على السطح في زمن «ما» لاحق. عند غرامشي، انتصار الجديد على القديم يعني الحل للأزمة جذرياً، فيما التسوية عبر انتقال سياسيّ لنظام جديد يمكن أن تكون حلّاً آخر للأزمة. مفهوم غرامشي للأزمة، يعني أنّ الأزمة ناتجة من استعصاء توازنيّ ناتج من عدم قدرة أحد أطراف الصراع على الحسم وكسر التوازن، وبالتالي، فالأزمة هي انسداد توازنيّ في صراع «ما»، وهو ما يستمرّ ولا يمكن كسره، حتى ولو مالت موازين القوى في هذا الميل أو ذاك، إلّا أنّ هذا لا يصل إلى الحسم أو الانتصار. يمكن للأزمة أن تصبح مركّبة، مثل الأزمة السوريّة التي كانت داخلية، حتى آب/ أغسطس 2011، عندما أصبحت إقليميّة مع تصادم أنقرة مع دمشق، ثمّ أصبحت دوليّة مع الفيتو الروسي في مجلس الأمن الدولي، بيوم 4 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، ثمّ كان هناك طابق رابع لمبنى الأزمة، مع دخول تنظيمات دولية عابرة للحدود مثل تنظيم «القاعدة»، الذي أعلن عن تنظيمه الفرعي السوري «جبهة النصرة»، في يوم 23 كانون الثاني/ يناير 2012، والذي أصبح لاعباً رئيسياً في الصراع السوري، ثم تنظيم «داعش»، الذي أعلن تأسيسه في 9 نيسان/ أبريل 2013، وكان محرّكاً رئيسياً للصراع السوري، ليس فقط داخلياً، وإنما في كونه كان دافعاً نحو قلب نظرة أطراف الصراع الدولية والإقليميّة للأزمة السورية. الأزمة السورية كانت مركّبة: داخلية - إقليمية - دولية - تنظيمات عابرة للحدود، وفي المسار المتحرّك للأزمة، أمسك «الدولي» بمقود الصراع السوري، ونافسه «الإقليمي»، وخصوصاً أنقرة في فترة خلافها مع واشنطن وموسكو، في فترة 2013 - 2016، على رسم مسار الأزمة السورية، ثمّ كان تعاون أنقرة وموسكو، منذ 9 آب/ أغسطس 2016، عاملاً أساسياً في تحديد مسارات عسكرية في الأزمة السورية (الغطاء الروسي لأخذ الأتراك لشريط جرابلس - الباب في آب/ أغسطس 2016 - شباط/ فبراير 2017؛ سقوط شرق مدينة حلب من أيدي المعارضة المسلّحة؛ في كانون الأول/ ديسمبر 2016؛ أخذ الأتراك لعفرين في كانون الثاني/ يناير 2018؛ سقوط الغوطة الشرقية من أيدي المعارضة المسلّحة في نيسان/ أبريل 2018؛ سقوط حوران من أيدي المعارضة المسلّحة في تموز/ يوليو 2018؛ وأخذ الأتراك لشريط تل أبيض - رأس العين، في تشرين الأول/ أكتوبر 2019) ومسارات عسكرية - سياسية (مسار أستانة بين السلطة السورية وفصائل مسلّحة معارضة، منذ كانون الثاني/ يناير 2017) ومسار سياسي مثل مؤتمر سوتشي (كانون الثاني/ يناير 2018)، الذي قاد عملياً إلى تسبيق «السلّة الدستورية» على «سلّة الحكم الانتقالي»، في محادثات جنيف بين السلطة والمعارضة تحت إشراف الأمم المتحدة.
- 3 -

يمكن أن تكون «الأزمة» نتاج «ثورة» أو «انتفاضة» أو «حرب أهلية». مثلاً، حصلت أزمة سلطة في روسيا، بعد ثورة شباط/ فبراير 1917، التي أسقطت الحكم القيصري، من خلال ازدواجية السلطة بين سلطتين متنافستين هما «الحكومة المؤقتة برئاسة الأمير لفوف ثم كرنسكي» و«مجالس السوفيتات» التي نشأت مباشرة أيضاً بعد نجاح ثورة شباط/ فبراير. أمام تنامي قوة المجالس السوفياتية للعمّال والفلّاحين (ثم الجنود)، حاول قائد الجيش كورنيلوف حسم هذه الازدواجية بالسلطة الروسية، من خلال حركة عسكرية لقلب حكومة كرنسكي في آب/ أغسطس 1917، والإمساك بالسلطة، حيث وقف لينين مع كرنسكي ضد كورنيلوف وأحبطا معاً محاولته العسكرية لاستلام السلطة السياسية، رغم تصادُم، واعتقالات كرنسكي للبلاشفة في تموز/ يوليو. في تشرين الأول/ أكتوبر 1917، أطاح لينين بكرنسكي. قادت ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، إلى حرب أهلية، بين عامي 1917 -1920، كان انتصار البلاشفة فيها حسماً لأزمة السلطة الروسية.
في إنكلترا، حصلت ثورة البرلمان ضدّ سلطة الملك المطلقة، بين عامي 1642 و1649. قادت هذه الثورة إلى حرب أهلية بين مركزين للسلطة في لندن وأوكسفورد، وإلى انقسام طبقي متجابه ومتحارب بين التجّار والمزارعين الأغنياء وأصحاب الشركات البحرية، وبين الأرستقراطيين والكهنة في الكنيسة الأنجليكانية، وإلى جيشين متحاربين، وإلى انقسام مناطقي بين لندن وجنوبها ومدن الساحل الشرقي، ومدينة مثل برمنغهام مزدهرة فيها الحرَف والمانيفاكتورات، وبين شمال لندن وغربها الريفي، وشكل أيديولوجي: طائفة البيوريتان ضدّ الكنيسة الأنجليكانية التي يرأسها الملك. انتصر البرلمان على الملك، وقطع رأس الأخير وأقيم «الكومونويلث»، برئاسة أوليفر كرومويل (5). لم تعمّر السلطة غير الملكية سوى أحد عشر عاماً، وعادت الملكية عام 1660، ولكنّها لم تستطِع الاستمرار في طريقة السلطة المطلقة. احتاج حلّ أزمة السلطة في إنكلترا إلى ثورة، بين عامي 1688 - 1689، لحلّ أزمة السلطة من خلال إنشاء الملكية الدستورية: الملك يملك ولا يحكم، حيث تحكم الحكومة المنبثقة عن البرلمان الذي كانت ثورته ضدّ سلطة الملك، منذ عام 1642، تعبيراً عن وجود أزمة سلطة، وهو ما احتاجت إنكلترا لحلّه، إلى ثورتين تخلّلتهما حرب أهلية.
لا يمكن للحالة السورية عام 2011 أن تقارَن بتلك الحالات الإنكليزية 1642 - 1649، ولا الروسية عام 1917، ولا الإيرانية في ثورة 1978- 1979


كان وضع إنكلترا مختلفاً عن روسيا: أزمة سلطة بين الملك صاحب السلطة المطلقة وبين البرلمان، قادت إلى ثورة، قادت بدورها إلى حرب أهلية، ثم أزمة سلطة بعد موت كرومويل، عام 1658، حُسمت بعودة الملك بعد سنتين، ثمّ تناقض بين مجتمع وسلطة أصبحت بشكل متدرّج، في الثمانينيات، ضعيفة التمثيل الاجتماعي، ممّا قاد إلى ثورة حسمت سؤال «من يحكم، البرلمان أم الملك؟»، في عام 1689، وهو سؤال 1642 ذاته. في روسيا، ثورة قادت إلى ازدواجية سلطة حُسمت بثورة ثانية قادت، بدورها، إلى حرب أهلية، قاد انتصار البلاشفة فيها إلى تفرّدهم بالسلطة. في الصين عام 1947، حصلت حرب أهلية مسلّحة بين الشيوعيين والقوميين (حزب الكيومنتانغ)، قادت مع انتصار الشيوعيين عام 1949 إلى ثورة.
تروتسكي، هنا، يعطي تعريفاً للحرب الأهلية: «لا تعلن تجزئة السلطة عن شيء آخر غير الحرب الأهلية» (6). في إنكلترا، بين عامَي 1642 - 1649، هناك حرب أهلية، وفي روسيا، بين عامي 1917 - 1920، توجد حرب أهلية. في سوريا ما بعد 18 آذار/ مارس 2011، لا توجد حرب أهلية، رغم وجود مناطق غير خاضعة لسلطة دمشق، مثل شرق الفرات وإدلب - شمال حلب، حاولت إقامة سلطات موازية هناك. هنا، لا يوجد تماثل مع الحالتَين الإنكليزية والروسية المشار إليهما.
لم تكن هناك ثورة في سوريا ما بعد درعا 18 آذار/ مارس 2011، إذا أخذنا تعريف الأكاديمي الأميركي تشارلز تيلي (1929 - 2008) للثورة، وهو الدارس الرئيسي لميكانيزمات الحركات الاجتماعية: «هي تحويل عنيف للسلطة عبر عملية صراع تتضمّن على الأقل تكتّلَين واضحي المعالم من المتنافسين بمطالب، التي لا يمكن مزجها مع بعض في خليط واضح، من أجل السيطرة على الدولة، عبر شرائح بارزة العدد من السكان تدعم مطالب المتنافسين» (7). ضمن آليات مصطلح «الثورة» عند تيلي، يمكن إدراج «الانقلاب» و«الحرب الأهلية» و«التمرّد». هو يرى أنّ هناك انقلابات أنتجت ثورة في العلاقات الاقتصادية - الاجتماعية من حيث النتيجة، مثل الانقلاب العسكري عام 1952 في مصر، وأنّ هناك حروباً أهلية كانت نتيجتها ثورية، مثل الحرب الأهلية في إنكلترا، بين عامي 1642 - 1649 (8). أنتج تيلي في العلوم السياسية، فرعاً جديداً هو «علم سياسة النزاعات»، وقد بدأ منذ الستينيات، على ضوء الثورة الطلابية في فرنسا، بدراسة مسار الاضطراب الاجتماعي الفرنسي ليس من ثورة 1789، بل من ثورة 1830.
أنتج تيلي كتابه «من التعبئة إلى الثورة»، عام 1977، ليفتح مجالاً جديداً في علم السياسة. في كتابه هذا، يبدأ من عام 1765 في بريطانيا. طبعاً، مفهوم تيلي لـ«الثورة»، يتضمّن حتى الثورات الفاشلة، مثل ثورة 1848 في فرنسا التي انتهت عام 1851 بانقلاب وديكتاتورية لويس بونابرت، وحلّه للمؤسّسة البرلمانية قبل إعلانه الإمبراطورية الثانية في العام التالي، أو ثورة 1905 الروسية الفاشلة ضدّ الحكم القيصري. لم يكن لمن تحرّك في المجتمع السوري، بدءاً من يوم 18 آذار/ مارس 2011، معالم كتلة واضحة المعالم، ولم يكن لها مطالب محدّدة تثبت عليها، حيث انتقلت من مطلب «الإصلاح» إلى «التغيير»، إلى «إسقاط النظام»، في أربعة أشهر، ثمّ في الشهر السادس بعد أيلول/ سبتمبر، انتقلت نحو السلاح وطلب التدخّل العسكري الخارجي. ربما كان لثبات النظام في مواقعه ورفضه التنازل سبباً في ذلك، كما أنّ الاصطدام بالجدار المسدود يفسّر الانتقال نحو السلاح، وجزئياً يفسّر هذا الانتقال نحو العنف المعارض استعمال السلطة السورية للعنف ضد المتظاهرين السلميين. كانت الكتلة الموالية للنظام أكثر تبلوراً من حيث المعالم، وأكثر ثباتاً، وقد مشت وراء السلطة السورية بثبات، ولفترة أصبح عمرها الآن يقارب العقد من الزمن. بالتوازي مع هذا، لم تكن هناك قيادة واضحة للمعارضة السورية تستطيع الإمساك بمقود الحركة الاجتماعية المعارضة، وتكون هي مركز القرار وهي واضعة البرنامج. إذا انتقلنا إلى العدد المؤيّد للحراك الاجتماعي المعارِض فلا يمكن مقارنته مع لندن، 1642 - 1649، عندما كانت في ثورتها على الملك تمثّل وحدها نصف مليون نسمة يقطن في العاصمة في بلاد يبلغ عدد سكانها أربع ملايين ونصف (9). في الثورة الإيرانية ضدّ الشاه، كان مليون شخص في تظاهرة مدينة طهران، بيوم عاشوراء المصادف في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1978 (10). كان عدد سكّان طهران يبلغ 4 ملايين و494 ألف نسمة، عام 1976 (11). رغم لجوء الشاه إلى حلّ مغادرة البلاد مع تكليف شخصية معارضة برئاسة الحكومة، هو شاهبور بختيار، فإنّ الشارع لم ينقسم بل ظلّ وراء الخميني الذي تحدّى بختيار بعد ثلاثة أيام من تولّيه منصبه، بتظاهرة في يوم 19 كانون الثاني/ يناير، كان فيها ربع سكان طهران ضدّ بختيار (12). كان الغرب واعياً لحدود قوّة بختيار، حيث وصفه دبلوماسي غربي بأنّه «كرنسكي إيراني» (13). في 11شباط/ فبراير 1979، سقط بختيار وتولّى الخميني السلطة. في روسيا، عام 1917، كانت بتروغراد وموسكو وراء لينين، في ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، بكتلة عمّالية يقودها الحزب البلشفي، عبر جهاز هو «مجالس سوفيتات العمّال والجنود»، والمدينتان تبلغان خمسة ملايين من أصل 150مليوناً مجمل عدد سكان روسيا آنذاك (14). مع تحالف لينين مع الاشتراكيين الثوريين اليساريين، عشية ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، قام القائد البلشفي بتأمين قاعدة فلاحية قوية للثورة كانت ظهيراً مساعداً لانتصارها.
لا يمكن للحالة السورية عام 2011، أن تقارَن بتلك الحالات الإنكليزية 1642 - 1649، ولا الروسية عام 1917، ولا الإيرانية في ثورة 1978- 1979. وبالتالي، لا ينطبق على سوريا ما بعد 18 آذار/ مارس 2011، مصطلح الثورة. يمكن للوقائع السورية أن ينطبق عليها مصطلح حراك اجتماعي معارض واسع متفرّق من دون قيادة موحّدة، جرى في مناطق حوران - ريف دمشق - ريف حلب، وفي مدن درعا - حمص - دير الزور، وفي بلدات محافظة إدلب. لم يشمل هذا الحراك المدينتين الكبيرتين دمشق وحلب، وكانت قاعدته الاجتماعية الرئيسية في الريف السنّي، وفي مدن مهمّشة. يمكن تسمية هذا الحراك بـ«الانتفاضة» uprising أو insurrection، ولكن لم تكن لها قيادة واضحة، ولا مطالب واضحة، وأساليبها تبدّلت بسرعة من تظاهرات سلمية إلى استعمال العنف المسلّح، وفي الأشهر الستة الأولى لم تكن ذات طابع أيديولوجي واضح، ولكن منذ خريف عام 2011، غلب الطابع الإسلامي على الحراك السوري المعارض، وهو ما ترافق مع استعمال العنف المعارض.
في الحالة السورية عام 2011، لا نجد وضعاً يتطابق مع الشروط الثلاثة اللازمة التي حدّدها تشارلز تيلي لنشوء ثورة:
1 - ظهور منافسين للسلطة يقدّمون مطالب حصرية تحوي بديلاً.
2 - التزامات كاملة بهذه المطالب.
3 - عجز الحكومة عن القمع. (15)
هذا الحراك الاجتماعي السوري المعارض، منذ يوم 18 آذار/ مارس 2011، أنتج أزمة سورية لها طوابق أربعة في مبناها: طوابق سورية - إقليمية - دولية - تنظيمات عابرة للحدود. يمكن لحالة التنظيمات العابرة للحدود، مثل «النصرة» و«داعش» أن تُضاف إليها تنظيمات أتت من وراء الحدود لمساندة السلطة السورية في الصراع، مثل حزب الله اللبناني، وتنظيمات شيعية عراقية - أفغانية موالية لإيران. الأزمة السورية من حيث قوة محرّكاتها الداخلية وتغذيتها الخارجية، ومن حيث تأثيراتها على إقليم الشرق الأوسط، ومن حيث تأثيراتها الدولية، هي أكبر أزمة شهدتها العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في المقابل، لا توجد «حرب سورية»، وإنّما نزاع بين سلطة ومعارضة سوريّتين، حيث ليس هناك من حرب سورية - سورية ما دامت لا توجد حرب أهلية، وليس هناك حرب سورية من خارج على داخل، وبالطبع من داخل على خارج. هناك صراع على سوريا وصراع في سوريا بين الأطراف الدولية - الإقليمية المتصارعة والمتنازعة في الساحة السورية، والتي أحياناً تتلاقى، مثل موسكو وواشنطن، عبر تلاقياتهما في اتّفاق موسكو بين جون كيري وسيرغي لافروف، في 7 أيار/ مايو 2013، لتفعيل «بيان جنيف1»، الصادر في 30 حزيران/ يونيو 2012، ثمّ اتفاقهما حول السلاح الكيميائي السوري، في 14 أيلول/ سبتمبر 2013، ثمّ اتفاقهما على القرار الدولي 2254، في 18 كانون الأول/ديسمبر 2015 الذي قاد إلى مسار جنيف التفاوضي بين السلطة والمعارضة السوريّتَين.

- 4 -

الانفجارات الاجتماعية لها آلياتها الخاصّة. أليكسيس دي توكفيل الذي درس الثورة الفرنسية والتي اعتبرها ولادة انفجارية لجنين تمّ الحبل به طويلاً في رحم النظام القديم واسم هذا الجنين «نظام الإدارة المركزية الموحّدة»، يقول في كتابه «النظام القديم والثورة» (1856)، ما يلي: «الثورة انتهجت وتبعت مسارها الخاص» (16). ثم يضيف: «عشيّة اندلاع الثورة، لم يكن الناس في فرنسا، لديهم أيّ فكرة عن كيف ستكون النتيجة» (17). تفاجأت الأحزاب الروسية المعارضة، وكذلك القيصر، باندلاع ثورة شباط/ فبراير 1917. ميزة لينين أنّه وضع بعد عودته من سويسرا في نيسان/ أبريل، خطّة هي أقرب إلى سيناريو من أجل ثورة ثانية في كراس «موضوعات نيسان»، تمّ تنفيذه بدقة في ثورة تشرين الأول/ أكتوبر، بعد ستة أشهر: الإطاحة بالحكومة المؤقتة وتسلّم المجالس السوفياتية للسلطة، والسير باتجاه ثورة اشتراكية بدلاً من الاكتفاء بالثورة الديموقراطية التي طرحها لينين عام 1905 في كتابه «خطتا الاشتراكية الديموقراطية في الثورة الديموقراطية».
الانفجارات الاجتماعية، أيضاً، ليس لها أسباب موحّدة. هناك تطوّرات مفصلية، تساعد على تهيئة الظروف للانفجار، مثل الانكسار أو الفشل أو التخبّط في مستنقع حرب خارجية كبرى، مثل الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) التي تورّط فيها القيصر الروسي: «الحرب كشفت بشكل عنيف وفاقمت الضعف البالغ للنظام القديم، غير أنّه يصعب القول إنّها كانت السبب الحاكم لهذا الضعف» (18).
ليس العامل الاقتصادي وحده سبباً للانفجارات الاجتماعية، يقول أنطونيو غرامشي عن فرنسا 1789: «الحالة الاقتصادية نحو عام 1789، كانت على العكس من ذلك جيّدة على المدى القريب، وبالتالي على أنه لا يمكن القول إنّ كارثة الدولة المطلقة تعود لأزمة فقر... لم يختلّ توازن القوى للسبب الميكانيكي المباشر الذي هو إفقار الفئة الاجتماعية ذات المصلحة... وإنّما جاء هذا الاختلال في إطار من الصراعات أعلى من العالم الاقتصادي المباشر، إطار مرتبط بمكانة الطبقات (المصالح الاقتصادية المقبلة) وبقنوط الشعور بالاستقلال وبالسيادة وبالسلطة... فالتغييرات تحدث... لأنّ الاعتلال قد فاق حدّ التحمّل لدرجة أنّه ليس بإمكان المرء أن يرى في المجتمع القديم أية قوة قادرة على إعادة الأوضاع إلى صورتها الطبيعية بالطرق القانونية» (19). رغم هذا يبقى العامل الاقتصادي من بين فتائل التفجير الاجتماعي: «رغم أنّ هناك أسباباً معقّدة لثورات 1848 في أوروبا، فليس من المصادفة أنّها قد حدثت بعد الحصادات السيّئة للمواسم الزراعية ومجاعة 1845 - 1846، وبعد الأزمة الاقتصادية عام1847» (20). يمكن أن يكون العامل الاقتصادي، إذا أخذناه من خلال التناقض بين علاقات الإنتاج القائمة وبين قوى الإنتاج الكامنة والتي تريد نظاماً سياسياً أكثر تطوّراً من النظام السياسي القائم الذي يرعى علاقات الإنتاج السائدة، عاملاً أساسياً في انفجار المجتمعات: «اللاتوازن بين مستوى التطوّر الاقتصادي ومستوى تطوّر النظام السياسي، هو خطر مهلك لاستقرار الدولة» (21). هذا رأيناه في الاتحاد السوفياتي، حيث إنّ الفئات الاجتماعية المتطوّرة (أصحاب الياقات البيض: التكنوقراط - الأكاديميون، أصحاب الاختصاصات الجامعية) التي نتجت عن التحديث التقني والتصنيع بين الثلاثينيات والثمانينيات، أصبحت ترى في نموذج «حكم الحزب الواحد» الذي يترافق مع نموذج «رأسمالية الدولة في الاقتصاد»، بالترافق مع «نظام أوامري إداري»، عائقاً أمام انطلاق طاقاتها الاقتصادية الكامنة. هؤلاء كانوا القوة الاجتماعية (والاقتصادية الكامنة)، التي كانت وراء البيريسترويكا عند ميخائيل غورباتشوف، بين عامي 1985 - 1990، ثمّ وراء راديكالية بوريس يلتسين، منذ صيف 1990، وهم الذين أطاحوا بحكم الحزب الشيوعي السوفياتي، بين شهري آب/ أغسطس 1991 وكانون الأول/ ديسمبر 1991، نحو إقامة نظام التعددية الحزبية بالترافق مع نموذج اقتصاد السوق. تفادى دينغ سياو بينغ «بيريسترويكا» صينية، من خلال اتجاهه نحو قيادة الحزب الشيوعي لعملية التحوّل نحو «اقتصاد السوق».
لا تحدث الانفجارات الاجتماعية نتيجة مؤامرات خارجية، بل يشتغل التخطيط الخارجي على استغلال حرائق مشتعلة، إما من أجل صبّ مزيد من الزيت على النار، نحو زيادة مأزق خصم أو خصوم يشتعل بيته أو بيتهم باتجاه حشرهم في الزاوية الضيّقة من أجل فرض أجندات عليهم، أو من أجل استغلال تلك النار من أجل طبخ طبخة أو طبخات محدّدة. عمل الولايات المتحدة الأميركية في العراق، بين عامي 1991 - 2003، وبعد عام 2003 في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يؤكّد موضوعة التخطيط لاستثمار أزمات وأوضاع داخلية متأزّمة وانفجارات تشتعل، وأحياناً انفجارات تكون مفاجئة بالنسبة لواشنطن (بين ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011 وسقوط حسني مبارك، تغيّرت السياسة الأميركية تجاه الحدث المصري ثلاث مرّات بسبعة عشر يوماً). هناك وثيقة كانت سرية وكُشف عنها عام 2014، صادرة عن وزارة الخارجية الأميركية، في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2010، ضمن القسم التابع للخارجية المسمّى «مبادرة الشراكة للشرق الأوسط - MEPI»، وهو قسم تمّ إنشاؤه في كانون الأول/ ديسمبر 2002، ويكشف في الوثيقة كيف أنّ الانتهاء من العراق أميركياً كمهمّة قد جعلت «ميبي»، منذ كانون الأول/ ديسمبر 2003، تقوم بتركيز جهودها على سوريا وليبيا. كانت «ميبي» تقوم بعملها، من خلال أنّ «السفارات الأميركية عبر مكاتبها تخطّط للتمويل وأن تكون ضابط ارتباط لتمويل المنظّمات غير الحكومية ومجموعات المجتمع المدني»، والهدف هو «بناء شبكة من المُصلحين يعلّم بعضهم بعضاً ويدعم أحدهم الآخر، ولتحفيز التغيير التقدمي في المنطقة» (الوثيقة بعنوانMIDDLE EAST PARTNERSHIP INITIATIVE:OVERVIEW 22/OCTOBER/2010)، تم الكشف عن الوثيقة في موقع MEBRIEFING.COM، في مقال بتاريخ 8 حزيران/ يونيو 2014، يحمل عنوان .S.STATE DEP.DOCUMENT CONFIRMES REGIME CHANGE IN MIDDLE EAST. هنا، تعرف واشنطن بالتأكيد أنها لا تستطيع زراعة الموز في تربة السويد، بل في تربة الإكوادور.
- 5 -

يجب دراسة الانفجارات الاجتماعية المحلّية التي تتحوّل في مسارها إلى إقليمية - دولية - منظمات عابرة للحدود، وتحديد كمّ تعداد عدد المتصارعين في تلك الانفجارات التي يمكن أن تأخذ شكل «حرب أهلية»، أو «ثورة»، أو «انتفاضة»، أو «تمرّد». وعملياً، كلّها تشكل أو تنتهي في شكل «أزمة»، عندما لا يكون هناك حسم انتصاريّ لأحد الأطراف. يقول توكفيل: «في كلّ الحروب الأهلية الأجانب يحملون السلاح» (22). في الأزمة الليبية 2011 - 2020، نجد مصر - السعودية - الإمارات - فرنسا - روسيا - ميليشيا الجنجويد - ميليشيا فاغنر، في مواجهة تركيا - إيطاليا - الجزائر - الولايات المتحدة - ميليشيات سورية مسلّحة إسلامية). في الأزمة الأفغانية 1979 - 1989، نجد الاتحاد السوفياتي - الهند مع الحكومة الشيوعية الأفغانية، في مواجهة الولايات المتحدة - باكستان - السعودية - إيران - الصين، التي كانت تدعم المنظّمات الإسلامية الأفغانية المعارِضة لحكومة كابول.
- 6 -

ليس بالضرورة أن تنتصر المعارضة أو المنافسون المواجهون للنظام القديم أو القائم. يقول غرامشي: «بوسع المجتمع القديم أن يقاوم وأن يسعف بمهلة للتنفس، قاضياً جسدياً على النخبة المضادة وناشراً الإرهاب في صفوف الجماهير الاحتياطية، أو بإمكان التصفية المتبادلة للقوى المتضادّة أن تؤدّي إلى سلام القبور، ولكن تحت رقابة حارس أجنبي» (23).

* كاتب سوري

هوامش:

(1) https:en.wikipedia.org/wiki/crisis.
(2)Palle Svenson: "stability,crisis,and breakdown: some notes on the concept of crisis in political analysis", university of Aarhus, denmark, 1985.(11pages.p.d.f).
www.tidsskrift.dk/scandinavian_political_studies/article/view/32537/30523
(p .4). يعرف سفينسون النظام السياسي بالتالي: «ما يدلّ على قيم الأهداف والمبادئ، وقواعد، وبنية السلطة» (ص 9).
(3) Svenson: "ibid",p.5
(4) "Oxford essential quotations" ,oxford university press, current online version, 2017. تعريف غرامشي للأزمة مأخوذ من «دفاتر السجن»، قسم «أزمة السلطة».
(5) G.M.TREVELIAN: "English social history", penguin books, England, 1979,pp.256-257
(6) ليون تروتسكي: «تاريخ الثورة الروسية» (ج 1)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1971، ص 52.
(7) Jesus de Andres and Ruben ruis ramas: "charles tilly,s concept of revolution and the (color revolution) "
www.researchgate.net/publication/315668377
(p.d.f) ,p.6.
58pages))
2016 ,spain.
(8) Andres and ramas: "ibid', p.7
(9) تروتسكي، «المرجع نفسه»، ص 52
(10) لورين جنكنز: «اهتزاز الشاه»، مجلّة «نيوزويك»، 1 كانون الثاني/ يناير 1979، ص 20
(11) "The world almanac and book of facts1980" ,published by newspaper enterprise association,new york1980,p.546.
(12) «إيران بعد الشاه»، مجلة «نيوزويك»، 29 كانون الثاني/ يناير 1979، ص 9
(13) «إيران بعد الشاه»، المرجع السابق، ص 8
(14) تروتسكي، المرجع نفسه، ص 52
(15)CHarles Tilly: "from mobilization to revolution", university of Michigan press,1977,p.d.f copy available through center for research on social organization in the university of Michigan (255 pages), p.161.
(16)Alexis de Toqvueville: "the ancient regime and the revolution", harpers and brothers publishing, presented in divinity school in harfard university since 1919, p.d.f version, (367pages), p.32.
(17) Toqueville:"ibid", p.32
(18) إسحق دويتشر: «الثورة غير المنتهية»، ضمن كتاب «ثورة أكتوبر في نصف قرن»، دار الحقيقة، بيروت 1970، بحث دويتشر ص 27 - 161، ص 38
(19) أنطونيو غرامشي: «الأمير الحديث»، دار الطليعة، بيروت 1970، ص82
(20) Leonid Grinnin:"State and socio-political crisis in the process of modernization"
في المجلة الروسية:
"Social evolution and history" vol. 12. no. 2, september 2013, pp 35 - 76, p.54.
(21) Grinnin: "ibid", p. 64.
(22) Toqueville: "ibid", p.42.
(23) غرامشي: المرجع السابق، ص 83

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا