في مسيرة الإمام الصادق المهدي، العديد من المحطات السياسية والثقافية والفكرية المهمة التي جعلت من الإمام، مثقفاً بين السياسيين، وسياسياً بين المثقفين. لقد كان زعيم «حزب الأمة القومي» في السودان، ورئيس «منتدى الوسطية»، الذي خطفه «داء العصر» أول من أمس عن 84 عاماً (**) شخصية قادرة على التعبير المميز عن الأبعاد الثلاثة للشخصية السودانية، وهي البعد العربي والإسلامي والأفريقي، مدركاً أن تكامل هذه الأبعاد هو ضمانة وحدة السودان على تنوّعه، وضمانة دور السودان في محيطه وقارته... كما كان حريصاً على هُوية السودان العربية محذّراً جهاراً نهاراً من مخاطر تغيير هوية السودان عبر مشروع «السودان الجديد«» الذي أسماه «السودان البديل» إذ رأى فيه محاولة لاستبدال ثقافته وتاريخه ومكوّناته الحضارية بسودان بديل يصبح سكيناً في الخاصرة العربية، وبشكل خاص في خاصرة مصر.بين هذه المحطات، كان لي شرف مشاركته في محطات أربع شكّلت علامات مضيئة في تاريخ أمتنا المعاصر.
المحطة الأولى كانت في الخرطوم في 31 يناير1987 حين افتتح الإمام الصادق المهدي رئيس الحكومة السودانية آنذاك، المؤتمر الأول (بعد المؤتمر التأسيسي) «للمنظمة العربية لحقوق الإنسان». كان قد تعذّر انعقاد المؤتمر في أي بلد عربي، فحرص الصادق، وبإسهام من الرجلين الكبيرين الراحلين الميرغني النصري وأمين مكي مدني، على استضافته. وانتخب حينذاك المهندس الراحل أديب الجادر رئيساً، والأستاذ محمد فايق (أطال الله بعمره)، رفيق جمال عبد الناصر، أميناً عاماً. وضمّت الأمانة العامة أبرز رجالات التيار القومي العربي، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، ممن أرادوا التأكيد على اعتبار الديمقراطية وحقوق الإنسان أحد أبرز عناصر المشروع النهضوي العربي.
وللمنظمة العربية لحقوق الإنسان التي تأسست في جزيرة قبرص عام 1982 قصة جديرة بالتذكّر دائماً. ففي ذلك الحين لم يجد «مركز دراسات الوحدة العربية» وعلى رأسه الأخ الكبير الدكتور خير الدين حسيب (أطال الله بعمره) غير ليماسول القبرصية مدينة تستقبل ندوة «الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي»، بعدما اعتذرت كل العواصم الأخرى التي جرى الاتصال بها عن عدم استقباله، فيما كانت بيروت تعاني يومها من آثار الغزو الصهيوني عام 1982 وغير قادرة على استقبال الندوة.
على هامش تلك الندوة التقى المشاركون وكانوا من مختلف أقطار الأمة، على فكرة تأسيس «المنظمة العربية لحقوق الإنسان»، لا لتكون إطاراً للدفاع عن حقوق الإنسان العربي المنتهكة في معظم الأقطار فحسب، بل لتقدم نسخة عربية من منظمات حقوق الإنسان عصية على استغلال الغرب لها لتحقيق أغراضه الاستعمارية، أو لتبرير تدخله في الشؤون الداخلية للأقطار العربية.
ذلك المؤتمر انعقد في «الفندق الكبير» في الخرطوم، وحضرته من لبنان مع الراحل الدكتور معن زيادة، والأخ فيصل درنيقة مدير العلاقات العامة في مجلة «المنابر» التي كانت صدرت حديثاً. وكان للصادق المهدي في افتتاحه كلمة بالغة الأهمية عن العلاقة بين الثقافة والسياسة، بين نهوض الأمة وبناء الدولة الديمقراطية التي دفع الصادق ثمناً باهظاً في السجون والمنافي بسبب دفاعه عنها...
أما المحطة الثانية التي جمعتنا بالراحل الصادق المهدي فكانت في المؤتمر القومي / الإسلامي الذي تأسّس بمبادرة من المؤتمر القومي العربي عام 1994، فقد كان الصادق المهدي أول المتجاوبين مع هذه الفكرة ومع دعوة أول منسق عام للمؤتمر الراحل الدكتور أحمد صدقي الدجاني، رغم أنه لم يكن «قومياً عربياً» بالمعنى المتعارف عليه، كما لم يكن على علاقة جيدة مع «الحركة الإسلامية» في السودان ومؤسّسها، زوج شقيقته، الراحل الدكتور حسن الترابي.
وتفسير الصادق لمشاركته تلك، هو أنه يعتقد أن ما من تيار واحد في الأمة قادر على مواجهة التحديات كافّة التي تواجهها الأمة، وأن التكامل بين الإسلام والعروبة والأفريقانية هو أحد أبرز الشروط لترسيخ وحدة العديد من أقطار الأمة، وفي مقدمها السودان التي تتشكل شعوبها من تكامل هذه الهويات. وأذكر أنني قلت له يومها: «بتأكيدك على التكامل بين الأبعاد الثلاثة تلتقي مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي تحدث عن الدوائر الثلاث التي ستتحرك الثورة المصرية في إطارها وهي الدوائر العربية والإسلامية والأفريقية».
المحطة الثالثة كانت في ملتقى القدس الدولي الذي انعقد في إسطنبول في 15-17 نوفمبر 2007 بدعوة من مؤسسة القدس الدولية، وهيئات واتحادات عربية عدة. وكم سعدت بجوابه لي حين اتصلت بصفتي رئيساً للجنة التحضيرية للملتقى داعياً إيّاه للمشاركة: «نداء القدس لا يمكن لعربي، أو مسلم، أو حرّ في العالم إلا أن يستجيب له... فأمتنا، إما أن تنتصر في القدس وإما أن تبقى مهزومة إلى الأبد..». وكان حضوره لافتاً بين آلاف الشخصيات الوافدة من كل أرجاء العالم، إذ كان يلتف حوله كثيرون مستمعين باهتمام بالغ إلى أفكاره وآرائه، ناهيك بكلمته المؤثرة في الافتتاح.
أما المحطة الرابعة فكانت في 15يوليو 2016، حين دعا «المؤتمر القومي العربي» في دورته السابعة والعشرين المنعقدة في تونس في فندق «لورويال» في مدينة الحمامات إلى التنسيق مع «المؤتمر القومي/ الإسلامي» و«المؤتمر العام للأحزاب العربية»، لعقد الدورة السابعة لـ «المؤتمر العربي العام» من أجل رفض تصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية، رداً على ما جرى في مؤتمر وزراء الداخلية والخارجية العرب قبلها...
أبدى الإمام الصادق المهدي حماساً لاستعداده للحضور إلى المؤتمر الذي انعقد في بيروت في فندق رامادا بلازا وكان لحضوره الافتتاح مع المئات من الشخصيات العربية والإسلامية وجلوسه إلى المنصة الرئيسية مع فاروق القدومي (أحد مؤسسي حركة فتح) والأستاذ حمدين صباحي والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح (فكّ الله أسره) اللذين نالا أكثر من عشرة ملايين صوت في الانتخابات الرئاسية المصرية عام 2012، والأمين العام لجمعية العلماء المسلمين في الجزائر الأخ صالح دحان، والمنسق العام للمؤتمر القومي/ الإسلامي الأخ خالد السفياني (المغرب)، والأمين العام لمؤتمر الأحزاب العربية الأخ قاسم صالح (لبنان)، والراحل حسين شيخ الإسلام (ممثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية)، والسيد إبراهيم أمين السيد (ممثلاً حزب الله) ، إضافة إلى الأمين العام لـ«المؤتمر القومي العربي» يومذاك الدكتور زياد حافظ (لبنان).
وأذكر أن الصادق المهدي قال عشية افتتاح المؤتمر لمديرته الأخت رحاب مكحل: «أنا سليل أسرة مقاومة للاحتلال البريطاني والتي كان ينعتونها بـ «الإرهاب»، فكيف لا أشارك بمؤتمر يندد بتصنيف المقاومة إرهاباً؟». كان ذلك الحضور اللافت لممثلي هذا الطيف الواسع من القوى الشعبية العربية (قومية وإسلامية ويسارية)، وفي المقدمة الصادق المهدي، أحد الأسباب التي حالت دون إدراج ذلك البند المهين في قمة نواكشوط العربية بعد أشهر على ذلك المؤتمر، بعدما اتضح أن الموقف الشعبي العربي في واد وموقف بعض الأنظمة في واد آخر... وهو أمر يتضح اليوم أيضاً في المعارضة الشعبية العربية الواسعة للتطبيع مع العدو ـــ والإمام الصادق من أبرز أركان هذه المعارضة ـــ مقابل هرولة بعض الحكام وأتباعهم إليه. ولعل محاضرته ضد التطبيع، في الخرطوم أخيراً، أسطع دليل على وطنية الصادق المهدي وإيمانه بعروبته وإسلامه وإنسانيته.
في حياة الرجل الذي أمضى عقوداً منها متنقّلاً بين السجون والمنافي وبين رئاسة وزراء بلاده، العديد من المحطات المهمّة... ولا سيما في الدفاع عن قضايا بلاده الملحّة، سواء بالنسبة إلى دفاعه عن الديمقراطية أو حرصه على حل سلمي لمشكلة الجنوب، ودفاعه عن القضايا العربية وفي مقدّمها قضية فلسطين...
كانت سيرة الإمام الصادق المهدي الحافلة بالنضالات والمواقف الشجاعة، خير معبّر عن ثنائية حكمت السودان منذ استقلاله عام 1954. وقد لخّصها في يومها المفكر الراحل منح الصلح حين تحدث عن «التناوب بين الانقلاب العسكري والديمقراطية المتخلّفة، ففشل الثانية يمهد للانقلاب، وفشل الحكم العسكري يمهد للثانية».
وهذه المعادلة على ما يبدو ما زالت قائمة رغم التعديلات النسبية التي حصلت بعد انتفاضة الشعب السوداني الأخيرة، وقيام ائتلاف بين العسكر والقوى المدنية يبدو هو الآخر مهدداً بالانفراط...

*كاتب وسياسي لبناني

** توفي الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة السوداني ورئيس وزراء آخر حكومة منتخبة قبل انقلاب عمر البشير (1989)، فجر الخميس 26 نوفمبر 2020 في الإمارات حيث نُقل للعلاج بعد إصابته بفيروس كورونا

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا