لا يُشبه اتفاقا السلام الإماراتي والبحريني الموقّعان مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، في شهري آب/ أغسطس و أيلول/ سبتمبر الماضيين، اتفاقات كامب ديفيد 1979، وأوسلو 1993، ووادي عربة 1994، الموقّعة مع كلّ من مصر والفلسطينيين والأردن على التوالي.أوجه الاختلاف عديدة، ولربما استحضرتها قراءة إسرائيلية - غربيّة في مسار هذي الاتفاقات الثلاثة الأخيرة، وهي - من حيث النتيجة - لم تأتِ بالسلام، ولا أرست أكثر من استقرار نسبيّ كانت سِمته الأبرز هشاشته التي كانت تُخفي تحت رمادها إمكان استعادة النار لجذوتها عند كلّ مفترق طرق، في وقت كثرت فيه مفارق هذي الأخيرة. وكانت قد خلصت تلك القراءة إلى استنتاج مؤدّاه أنّ «سلام الأنظمة» الذي كرّسته الطبعات الثلاث الأولى، لم ولن يكون مُجدياً، وهو في أفضل حالاته لن يمثّل أكثر من «هدنة»، أو وقف لإطلاق النار من الصعب اكتسابه لصفة الديمومة. أمّا المطلوب، فهو «سلام المجتمعات» الذي إن حصل كان شرطاً كافياً لوضع المنطقة برمّتها في قوالب بدت أمراً مستعصياً، على امتداد عقود الصراع السابقة، بفعل حالة الانفصال التي كانت قائمة ما بين الأنظمة العربية وبين مجتمعاتها في النظرة تجاه التسوية مع إسرائيل. مثّلت حالة التوحيد عند الإسلام بين «الله المنزّه والمتعالي» مع «الله الفعّال» التي تمظهرت في الأسماء الحسنى التسعة والتسعين، حالة حركية قادرة على الفعل، وعبرها كانت تلك الفعالية قد استطاعت تجاوز الإشكالية القائمة في العلاقة ما بين المادة والروح، حيث الفصل بينهما، وكذا الخلاف حول أسبقية أحدهما على الآخر، كان يمثّل على الدوام منهجاً يدفع نحو لاهوت يمضي في تراسيمه نحو فكر «آخروي» لن يجد من مستقرٍّ له إلّا في الغيبيات والماورائيات. ويمكن تلمّس ذلك بوضوح عند المسيحية، التي ارتبط ظهورها بالضعف والترهّل عند الشعوب التي اعتنقتها. والمؤكّد، هو أنّ المسيحية لم تمثّل حالة نهوض لتلك الشعوب إلّا بعد مفترقين اثنين: أولهما، عندما شهد ذلك الفكر عودة إلى «فكر روما الوثني»؛ وثانيهما، عندما ظهرت البروتستانتية التي مثّلت حالة تهويد للمسيحية، في حين تلاقى الإسلام في منهجيّته تلك مع اليهودية، حيث سيُراكم سجل التلاقيات العديد من المحاور الأخرى، من نوع صورة الله «الحربي» التي كانت بارزة لدى الاثنين، وكذا العقيدة الشمولية التي تطول السياسة والاقتصاد والمجتمع بكل نواحيها الثقافية والأخلاقية والمسلكية. ولربما كان ذلك ما يفسّر حالة التنافر ما بين اليهودية والإسلام، التي حتّمتها تشاركية الاثنين في تبنّي مشروع يحمل عقيدة متشابهة حدّ التماهي، بل ويستخدم الاثنان الأدوات نفسها لتحقيق ذلك المشروع. وكنتيجة، كان المشروعان يحملان بنية متناقضة يصعب عبرها التساكن في ما بين طرفَيها. كان من اللافت بُعيد توقيع الاتّفاق الإسرائيلي مع الإمارات، يوم 13 آب/ أغسطس، أن وصفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بـ«الاتفاق الإبراهيمي»، ثمّ أعاد ذلك التوصيف، كنوع من التأكيد عليه، السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، الذي أضاف شارحاً أنّ إبراهيم، هو «أبو الديانات الكبيرة، ولا يوجد شخص يرمز بشكل أفضل إلى إمكانية وحدة هذه الديانات الثلاث العظيمة أكثر منه».
كان لمحطات الصراع البارزة، في الأعوام 1948 و1956 و1967 و1973، ثم في عام 1982، تأثيرٌ طاغٍ على رؤية وتوجّهات الشارع العربي


الحديث عن إحياء مسار إبراهيم ليس بجديد، والعمل على تلك الفكرة كان قائماً منذ عقد ونصف على الأقل. ففي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2006، أطلقت جامعة «هارفرد» الأميركية رحلة كانت مراميها تصبّ في ذلك السياق، وضمّت باحثين ورجال دين وأعمال ترأس وفدهم يوري آدم الذي أعلن في حينها أنّ مخيال «الرحالة» بعيد كلّ البعد عن السياسة، وأنّ جلّ مراميهم هي معرفية وثقافية وإنسانية. المؤكّد، هو أنّ ما قاله هذا الأخير كان صادقاً فيه بدرجة لا يدانيها أيّ شك، طالما أنّ المطلوب هو اختراق الوعي العام وإحداث انحراف عام فيه، بعدما تهتّكت موازين القوى العسكرية القائمة بين طرفي الصراع، وبعدما ألحق التهتّك الأخير هزيمة ماحقة بالضرورة، بميادين السياسة العربية كنتيجة للفعل الأول، ولم يبقَ أمامنا سوى ميادين الأيديولوجيا التي بات التمترس وراءها وسيلة وحيدة لحفظ الذات والهوية الضامنتَين للبقاء.
في لحظ العلاقة القائمة ما بين المكوّن اليهودي، وباقي المكوّنات التي احتواها النسيج المجتمعي العربي، في مطلع القرن العشرين وصولاً إلى منتصفه، يمكن القول إنّ ذلك المكوّن كان يعيش منصهراً في بوتقة ذلك النسيج، مع الحفاظ على خصوصية الثقافة والمعتقد التي كانت واضحة، لكنّها، في الآن ذاته، كانت تعيش حالة تحفّز للانقلاب على وضعيّتها تلك. وقد شكّل ذلك ظاهرة «السفارديم» التي رمزت إلى اليهود الشرقيين الذين كان من بينهم اليهود العرب. ففي عام 1937، كان 69% من غرفة تجارة بغداد هم من اليهود، وهو رقم لا تتضح ضخامته إلّا إذا أدركنا أنّ نسبة هؤلاء إلى مجموع سكان العراق، لم تكن تتجاوز الـ6.2% آنذاك. وفي عام 1942، كان البنك العقاري المصري الذي كان يتحكّم بمليون فدّان (تعادل 4 ملايين دونم) من الأراضي المصرية، مملوكاً بالكامل لثلاث عائلات يهودية مصرية، ولم يكن حال هؤلاء في سوريا بأقلّ من ذلك. ويكفي للدلالة على ذلك، إبراز اعتراف النائب اليهودي السوري، وحيد مزراحي، الذي قال إنّ «أبناء الطائفة الإسرائيلية في هذه البلاد يتمتّعون، منذ قرون، بالمساواة مع بقية الطوائف في الحقوق والواجبات». والقول آنف الذكر، مقتطع من مداخلة له كان قد ألقاها في الدورة التشريعية الأولى من الدور الرابع لمجلس النواب السوري، المنعقدة بتاريخ 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 1947، أي عشية صدور قرار تقسيم فلسطين الذي صدر أواخر هذا الشهر الأخير، في وقت كانت تلوح في الأفق تراسيمه. وقد تطرّق مزراحي إلى ذلك، من أجل إثبات موقف طائفته التي يمثّلها في المجلس، بقوله: «اليهود في هذه البلاد يستنكرون القرار الجائر، ويستنكرون أعمال الصهيونية، ويعتبرون هذي الأخيرة عقيدة سياسية منقصة عن الدين لا تتّفق مع عادات وأخلاق يهود البلاد العربية».
الجدير ذكره، هنا، هو أنّ التحولات الجارية، ما بعد 14 أيار/ مايو 1948، على توجّهات ذلك المكوّن، كانت قد حصلت بفعل الجهود التي بذلتها «الوكالة اليهودية»، وهي من حيث المرامي كانت تندرج تحت تصنيف العمل «التأسيسي» الخادم في عمليات رصّ صفوف البنيان الداخلي اللازمة لإصباغ الكيان بصباغ هوياتي ذي خصوصية ضامنة للقيام عبر التمايز مع المحيط. ومن المهمّ أن نلحظ في هذه السردية، أنّ التواريخ السابقة وما حملته من المعطيات الآنفة الذكر، كانت كلّها مسبوقة بأحداث كبرى لها دلالاتها، مثل «وعد بلفور» 1917، وانتفاضة آب/ أغسطس 1929 التي حدثت في أعقاب اقتحام اليهود لحائط البراق، وثورة عز الدين القسام 1936... ما يعني أنّ الافتراق اليهودي - العربي، لم يحدث تماماً برغم كلّ تلك الموجبات، ومردّ ذلك أسباب عدّة، لعل من أبرزها أنّ القوى والتيارات السياسية العربية كانت تنظر إلى المكوّن اليهودي الذي يشاطرها العيش بين ظهرانيها على أنه حالة ثابتة، ولا يمكن أن تكون له علاقة بمشروع يهدف إلى زرع ورم غريب ذي طابع تناحري. إلّا أنّ ذلك لم يعد قائماً، منذ عصر يوم الجمعة 14 أيار/ مايو 1948، الذي شهد إعلان ديفيد بن غوريون ولادة الكيان. بعد ذلك التاريخ، ستتغيّر الصورة، وبشكل فاقع، لدى الشارع العربي الذي استطاعت ذاته الجماعية تلمّس الخطر، في حين أنّ حسابات الأنظمة كانت بعيدة عن لمسه، ما اقتضى تغريد كلّ من الاثنين - أي الأنظمة والشارع - في واديَين سحيقَين ما انفكّا يتباعدان بتعاقب الأحداث.
كان لمحطّات الصراع البارزة، في الأعوام 1948 و1956 و1967 و1973، ثم في عام 1982، تأثير طاغٍ على رؤية وتوجّهات الشارع العربي، من حيث تبنّيها للدثار الأيديولوجي القادر على مواجهة الخطر القابع على الحدود والمتحفّز للقفز والتمدّد.
وبشكل ما، يمكن القول إنّ زلزال «الربيع العربي»، البادئ أواخر عام 2010، والمستمرّ في مفاعيله حتى اليوم، كان قد أدى إلى صعود قوّتَين رئيسيتَين، باتتا تسيطران على الشارع العربي، هما الليبرالية والإسلامية. وإذا ما كان مضموناً «ولاء» الأولى انطلاقاً من استعدادها للانصهار والتماهي في المشروع الغربي الذي تمظهر في التهتّك الذي أصاب أنسجتها والذي فاق كلّ التوقّعات ومعها التصوّرات الغربية، فإنّ القوة الثانية، أي الإسلامية ومعها بعض القوى القومية واليسارية، ظلّت تمثّل عقبة أمام مسار المشروع الذي أخذ اليوم يحصل على مشروعيّته الكبرى من التحوّلات الجارية على الضفة العربية.
ما يهدف إليه، الآن، إحياء «مسار إبراهيم»، هو الانتقال إلى الضفة المقابلة لإحداث تحوّلات فيها، ضامنة لنجاح التمدّد، وهي تقوم على منهجية العودة إلى التلاقيات قبيل حدوث الافتراقات. وذاك فعل يرمي في عمقه إلى تجريد الصراع من أبعاده السياسية والحقوقية والحضارية، بعد أن يستطيع الفعل الأول، أي العودة إلى التلاقيات، طيّ صفحة هذا الثالوث الأخير تحت وسادة إرث دين إبراهيم الحنيف.
* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا