حين اختار مؤسّسو «دار الندوة» عيد الاستقلال، قبل 32 عاماً، يوماً لافتتاح هذا الصرح الثقافي المميّز في حياة بيروت ولبنان والعرب، كانوا يدركون أنّ الاستقلال ليس مجرّد ذكرى يحتفل بها اللبنانيون، ومعهم أشقاؤهم العرب الذين ناصروهم في معركتهم ضد الانتداب، بل إنّ الاستقلال هو حركة صراع دائم بين شعب يريد بناء دولة العدالة والنزاهة والحرية والشفافية والعروبة الحضارية، وبين كلّ من يعيق قيام هذه الدولة من خارج لبنان ومن داخله على حدّ سواء.بل كان مؤسّسو هذه الدار، وعلى رأسهم المفكّر الكبير الراحل منح الصلح، يدركون أنّ استقلال لبنان لا يمكن صونه وتحصينه إلّا بصون وحدة أبنائه وحرية شعبه، وعروبة انتمائه، فلم يتعاملوا مع «دار الندوة» كقاعة تحتضن الأنشطة الفكرية والثقافية والعلميّة والفنيّة فحسب، ولا كمنبر لمحاضرات فكريّة وسياسيّة واقتصاديّة وندوات أدبيّة وأمسيات شعريّة ومعارض فنيّة، بل كمنصّة انطلاق لمبادرات تسعى لصون الاستقلال بكلّ مقوماته.
لذلك، لم تكن صدفة أن تبرز من مؤسّسي«دار الندوة» شخصيات تولّت مناصب نيابيّة ووزاريّة تميّزت في أدائها وسلوكها وشفافيّتها عن سائر أركان الطبقة الحاكمة، كما رفضت عضوية ناديها، «نادي الفساد» الذي أوصل البلاد إلى ما وصلت إليه. ومثال رئيس مجلس إدارة «دار الندوة» الحالي، الوزير والنائب السابق بشارة مرهج هو أسطع مثال.
بل لم تكن صدفة أن ينطلق من «دار الندوة» وشقيقتها «الحركة الثقافية في أنطلياس»، وعلى يد قامات فكرية وثقافية وطنية من كلّ لبنان، «اللقاء اللبناني الوحدوي» الذي حملت بياناته الشهرية في التسعينيات من القرن الماضي، مخاوف اللبنانيين من سرقة أحلامهم وأمانيهم من قِبل تحالف السلاح الميليشياوي والرأسمال المتوحّش الذي أمسك بناصية السلطة في مرحلة ما بعد الحرب، واستنزف موارد البلاد والعباد وطاقاتهم، من دون حسيب أو رقيب.
ولم تكن صدفة أيضاً أن ينطلق من «دار الندوة» برنامج «شباب لبنان الواحد» الذي كان يطمح لأن يوفّر لشباب لبنان ما بعد الحرب، ومن كلّ لبنان، منصّة يتعارفون من خلالها إلى بعضهم البعض ويتفاعلون، بل يتعرّفون إلى معالم وطنهم الذي حرمت الحرب أغلبيتهم الساحقة من التعرّف إليه، فكانت المخيّمات السنوية، والندوات الشبابية، والمعارض الفنية، وكانت بشكل خاصّ رحلة الاستقلال إلى قلعة راشيا في عيد الاستقلال، كل عام على مدى 15 عاماً، حيث يحتشد الآلاف من شباب لبنان من كلّ محافظاته، فيعيدون ربط حاضرهم بتلك الأيام المجيدة من نضال آبائهم وأجدادهم ضد الانتداب، ويقسمون كلّ عام من القلعة قسمهم الشهير «قسم الاستقلال» في الدفاع عن وحدة لبنان واستقلاله، لا سيما بوجه المشروع الصهيو - استعماري الجاثم بجيوشه على بعد كيلومترات من قلعة راشيا.
ولم يكن من الصدفة، أيضاً، أن تكون أولى المبادرات العمليّة التي احتضنتها «دار الندوة» بالتعاون مع جمعيات «كشبيبة الهدى» في تنظيم حملة تبرّع بالدم من أبناء الشطر الغربي من العاصمة، إلى أبناء الشطر الشرقي الذين كانوا يعانون من «حرب الإلغاء» التي قامت يومها (1990) في الأشرفية والمتن وكسروان، وكان شعار الحملة، آنذاك، «لنجعل من الدم الذي يريدونه حاجزاً بين اللبنانيين، جسراً للوحدة بينهم» وهو الشعار الذي ما زال يحرّك أهل «دار الندوة» حتى الساعة.
ولم يغِب يوماً الهمّ الاجتماعي عن أنشطة «دار الندوة» وفعالياتها، فاحتضنت في أول التسعينيات لجان دعم التعليم الرسمي، ودعم الجامعة اللبنانية، وشارك أهلها بالتعاون مع الاتحاد العمالي العام وهيئات مدنية بإطلاق مسيرة المئة ألف لبناني في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، حيث تلاقى أبناء بيروت ولبنان من الشطرين في معبر المتحف، ليزيلوا بأظافرهم متاريس الرمل التي أُقيمت كحواجز بين اللبنانيين.
وفي هذا الإطار، كانت «دار الندوة» تكرّم في «عيد العمّال» (الأول من أيار/ مايو) عمّالاً ونقابيين من كلّ التيارات، كما في «عيد المعلم» مدرّسين ومدرّسات من كلّ المدارس، ناهيك عن الغداء الشهري الذي استضافت فيه العديد من رجالات لبنان وسيّداته البارزين في تقليد جميل جرى تعميمه بعد ذلك من قِبل العديد من المؤسسات.
تتويجاً لهذا الاهتمام، انطلقت من «دار الندوة» هيئة تأسيسية للمنتدى الاقتصادي الاجتماعي تضمّ اقتصاديين حقوقيين ونقابيين بارزين تقترح للحركة الشعبية أفكاراً لخريطة طريق للخروج من المحنة الراهنة. وكان للأنشطة المتّصلة بالطفولة وهمومها، حيّز مهمّ من الفعاليات التي احتضنتها الدار ونظّمتها جمعيات معنيّة بالطفولة (مسرحيات ومعارض وحفلات موسيقية)، وفي مقدّمها «جمعية الهدى للرعاية الاجتماعية»، بالإضافة إلى نشاطات ذات طابع صحّي كانت تُشرف عليها الجمعية الصحية اللبنانية.
ولأنّ الحرية كانت بالنسبة إلى مؤسّسي الدار وأهلها، قيمة لا يمكن التفريط بها، وهي إحدى خصائص الحياة اللبنانية، ولأنّ الحوار هو الوسيلة الأرقى لكي يتفاعل من خلاله أصحاب الرؤى المختلفة، كانت «دار الندوة» منصّة حوار لآراء متعدّدة وأفكار متباينة، فلم تغلق بابها في وجه مفكّر أو أديب أو كاتب، بل كانت تفتح بابها للجميع شريطة احترام الرأي الآخر والالتزام بتقاليد الحوار وأصول التعامل الأخلاقي.
ولأنّ أهل «دار الندوة» كانوا يدركون أنّ استقلال لبنان، كما استقلال كلّ قطر عربي، لا يتمّ إلّا بتضامن عربي شعبي أوّلاً، ورسمي إذا توفّرت النية للحكام، فقد كانت «دار الندوة» دار العروبة الحضارية تحمل همومها وقضاياها وانشغالاتها الفكرية عبر استضافة مفكرين كبار من مغرب الوطن العربي ومشرقه، بالإضافة إلى تعاونها مع مؤسّسات فكرية مهمّة كمركز دراسات الوحدة العربية وهيئات قومية مماثلة.
وفي السياق ذاته، كان لقضايا الأمة موقعها البارز في فعاليات «دار الندوة»، فمن رحمها انطلق المنتدى القومي العربي في (أيار/ مايو 1992)، والذي ترأسه لسنوات الراحل العلّامة الدكتور محمد المجذوب، وعبر برامجه سعى المنتدى إلى ترجمة شعاره الواضح: «لبنان ضرورة عربية، والعروبة ضرورة لبنانية»، واستطاع المنتدى عبر برنامج «رواد العروبة في لبنان»، ومنسّقه المؤرّخ الراحل صقر يوسف صقر، أن يتنقّل في الربوع اللبنانية كافّة، معرّفاً بنهضويين كبار من أبنائها لمعوا في زمانهم وجرت محاولات لطمس إنجازاتهم لأسباب غير خافية على أحد.
والأمر نفسه كان لفلسطين التي اعتبرتها الدار منذ تأسيسها قضية مركزية للبنان، كما لكلّ العرب، فشهدت نشاطات وندوات وفعاليات متعدّدة لهيئات ومؤسسات متّصلة بالهمّ الفلسطيني، كما احتضنت «الحملة الأهلية لنصرة فلسطين وقضايا الأمة»، منذ تأسيسها عام 2002، لمواجهة الحصار على فلسطين عامّة، وعلى غزّة خاصّة، كما على العراق في مواجهة الحصار والحرب عليه، ومنها انطلقت رحلات كسر الحصار الجوي على العراق، عبر طائرتين عام 1999 وعام 2003، كما انطلقت التحضيرات لرحلات كسر الحصار على غزّة البحرية والبرية، وكان بعض أهل «دار الندوة» في طليعة المنظّمين والمشاركين فيها. بل كان العضو المؤسِّس في الدار الدكتور هاني سليمان جريحاً في مواجهة مع الجيش الصهيوني على متن سفينة «مرمرة» التركية، في «أسطول الحرية» لكسر الحصار على غزّة، في حزيران/ يونيو عام 2010.
وفي معظم التحضيرات للمؤتمرات القومية والملتقيات الدولية من أجل فلسطين، كان لأهل «دار الندوة» نصيب وافر منها، حتى ذاع صيتها على مستوى الوطن العربي الكبير وبين العديد من أحرار العالم.
أمّا الشباب العربي، فكان لهم في برنامح «دار الندوة» حظّ وافر، فبالتعاون مع شخصيات وهيئات عروبية أبرزها «مركز عمر المختار التربوي» في البقاع، وبرعاية المؤتمر القومي العربي، انطلقت عام 1990 فكرة مخيّمات الشباب القومي العربي، وقد بلغ عددها حتى الآن ثلاثين مخيّماً انعقدت في أكثر من عشر دول عربية، حيث وصل بعض خرّيجيها إلى مراتب متقدّمة في بلادهم.
كما احتضنت الدار ندوة «التواصل الفكري الشبابي العربي»، منذ عام 2010، والتي نظّمها المركز العربي الدولي للتواصل والتضامن والمنتدى القومي العربي، وشارك فيها بداية حوالى 50 شابة وشاباً، ليصبح العدد في آخر ندوة 250 مشاركاً ومشاركة، وقد أُطلق عليها اسم الراحل الدكتور صلاح الدين الدباغ، رئيس المنتدى القومي العربي، وانعقدت في ذكرى الوحدة المصرية - السورية، في 21 و 22 شباط/ فبراير 2019، أي عشية انتشار جائحة «كورونا».
ولأنّ الاستقلال في نظر مؤسّسي «دار الندوة» وأهلها، ليس فقط ذكرى نحتفل بها، بل هو نهج في الممارسة والعلاقات يحرصون عليه، فقد تعرّضت «دار الندوة» لحصار ماليّ وإعلامي شديد، لم يكن ممكناً أن تصمد في مواجهته لولا مقتدرون شرفاء مدّوا يد الدعم المحدود والدائم لها، ولولا إعلاميون أحرار فتحوا لبعض أنشطتها منابرهم غير آبهين بالحملات المغرضة التي تتعرّض لها «الدار»، من هذه الجهة أو تلك، بعضها مشبوه يستهدف خيارها الوطني والقومي والأممي، وبعضها تحرّكه دوافع الحسد والانزعاج من نجاحها.
وكما وصف المؤرّخ القدير الراحل الدكتور كمال صليبي لبنان، بأنه «بيت بمنازل كثيرة»، حرصت «دار الندوة» على أن تكون هي الأخرى صورة مصغّرة عن لبنان، أي «بيت بمنازل كثيرة»، شرط أن يكون سقف هذه البيوت جميعاً الوطن واستقلاله وحريّته وعروبته والعدالة في ربوعه.
* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا