أعلنت فرنسا حربها الشاملة على التطرّف، بكلّ أشكاله، بما في ذلك تيارات الإسلام السياسي الإخواني التي تحرّكها دولٌ داعمة للإرهاب. وعمدت إلى تفكيك وحلّ جمعيات وجماعات عدّة مشكوك في ضلوعها بعمليات القتل، والتي تمثّل، وفق الحكومة الفرنسية، واجهة مزيّفة لأيديولوجيا معادية للجمهورية، تنشر الكراهية وتدعم تفكيكها. كذلك، سارعت إلى ترحيل مجموعة كبيرة منها خارج فرنسا. لكن، مهلاً، ألا يعود فقدان فرنسا السيطرة على إدارة جزء من سكّانها المسلمين، وغالبيتهم من حمَلة الجنسية الفرنسية، بشكل مباشر إلى حرية ممارسة العقائد الدينية، من دون تدخّل؟!
ماكرون و«شعرة معاوية»
حينما خرجت فرنسا لتُعلن أنّها تواجه حرباً ضدّ «الإرهاب الإسلامي»، لم تتيقّن حجم توصيف كهذا، فدأبت وسائل الإعلام الفرنسية على تنقيح ما أمكن ليطلق عليه «الإرهاب الإسلاموي»، ما فجّر غضباً عارماً في صفوف قادة الدول الإسلامية، وعلى رأسهم الأزهر الشريف في مصر والرئيس التركي رجب طيب إردوغان. وقد أثار ذلك حفيظة قرابة مليارَي مسلم في العالم، فكان أن دعوا إلى مقاطعة المنتجات الفرنسية، وطالبوا فرنسا ورئيسها بالاعتذار عن الإساءة التي طاولت الإسلام، ديانةً ونبوّةً.
ماكرون، الذي ترنَّح في التوصيفات، سارع إلى إجراء مقابلة تلفزيونية، لاستدراك الموقف، فأعلن أنّه جرى تحريف كلامه، موضحاً أنّه كان يقصد التصدي لما عكف على تسميته بـ«الانعزالية الإسلامية»، أو «الانفصالية الإسلامية»، مستعيناً ربما بحكمة معاوية بن أبي سفيان، الذي حينما سُئل كيف «حكمتَ الشام 40 سنة، رغم القلاقل والأحداث السياسية المضطربة»، قال: «لو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدّوها خلّيتها وإن خلوا مددتها». ثمّ عاد ماكرون، ليجدّد في مقال نشرته صحيفة «ذا فايننشال تايمز»، تأكيده أنّ فرنسا «ليست في حرب ضدّ الإسلام، بل ضدّ الانفصالية الإسلامية»، لافتاً إلى سلسلة اعتداءات تعرّضت لها بلاده منذ الهجوم على «شارلي إيبدو» عام 2015، وخلّفت 300 قتيل، معتبراً أنّ فرنسا تتعرّض للهجوم بسبب قيَمها وعلمانيّتها وحرّية التعبير فيها، ومشدّداً على أنّها «لن تستسلم». وربما زيارة وزير خارجية فرنسا جان إيف لو دريان القاهرة، كانت خير دليل على محاولة بلاده تحقيق هدفين اثنين: الأول، رأب الصدع وإصلاح ذات البين ولعب الدور الدبلوماسي، لتذليل العقبات الناتجة عن تصريحات وُضعت في خانة الإساءة للديانة الإسلامية. أمّا الهدف الثاني، فقد تجلّى من خلال حشد جهود مصر والدول العربية، التي لا تستسيغ الدور الذي يلعبه التركي في المنطقة، وسعيه الجدي لإعادة إحياء السلطنة العثمانية من جديد.
منذ عام 2013، تخوض فرنسا في الساحل الأفريقي حرباً عبثية لم ترتقِ إلى الغاية المنشودة


فرنسا تحشد وتلوّح بعقوبات
بعد ارتفاع منسوب التوتر بين تركيا وفرنسا، ودخوله مرحلة جديدة من التصعيد على خلفية أزمة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد، سارعت فرنسا إلى فرض عقوبات على المستوى الأوروبي ضدّ تركيا، لكبح جماح ما تعتبره استفزازات من قبل إردوغان وتماديه في إهانة نظيره الفرنسي، ومضيّه قدماً في انتهاكات أخرى كانت آخرها أنشطة التنقيب في مياه متنازع عليها مع اليونان وقبرص، بُعيد اكتشاف حقول غاز في شرق المتوسط. وهو ما يثبت وجود استراتيجية شاملة لدى تركيا تقضي بمضاعفة الاستفزازات من النواحي كافّة، تزامناً مع ارتفاع حدة التوتر بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة على خلفية ملفات أخرى عدّة، من بينها المآخذ التي سُجّلت ضدّ أنقرة، بسبب مشاركتها عسكرياً في المعارك في ليبيا، وفي سوريا، بالإضافة إلى دعم الحكومة التركية لقوات أذربيجان ضد الانفصاليين الأرمن في إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه.
من هنا، تبدّت بشائر الحرب الاستباقية، التي تخوضها فرنسا ضدّ ما عكفت على تسميته بـ«الانعزالية الإسلامية»، والتي تجلّت بعدما استهدفت طلائعها أذرع الرئيس التركي المتطرّفة، على أمل أن تدفع الحماسة الفرنسية في مواجهة التطرّف وشبكاته، بقية الشركاء الأوروبيين للخروج من مربع التردّد والخوف. ولعلّ حظر منظمة «الذئاب الرمادية» التركية المتطرّفة، خير دليل على ذلك، ولا سيما أنّ هذه الخطوة أفقدت إردوغان إحدى أبرز أذرعه في تعقّب معارضيه على الأراضي الفرنسية، الأمر الذي يرى مراقبون أنّه سيتوسّع ليشمل النمسا وألمانيا، اللتين تعانيان ربما أكثر من فرنسا من حالات كهذه، تعصف بمجتمعاتها وتخشى المواجهة نتيجة تعدّد الـ«غيتوات» فيها.
منذ عام 2013، تخوض فرنسا في الساحل الأفريقي (موريتانيا، مالي، السنغال، النيجر وتشاد) حرباً عبثية لم ترتقِ إلى الغاية المنشودة. فانتشرت التنظيمات الإرهابية في بلدان الساحل حتى وصلت إلى حدود ساحل العاج، المطلّة على المحيط الأطلسي. وقد رفع ذلك من منسوب القلق لدى شعوب المنطقة، واستحضر ماضياً مشحوناً بجرائم الاحتلال الفرنسي واستغلال ثروات بلادهم، ومحاولة القضاء على الهوية الثقافية والدينية لشعوبها، وتحويلها إلى أسواق للرقيق (إلى غاية 1848 تاريخ إلغاء العبودية). كذلك، جنّدت فرنسا شباب مستعمراتها للقتال في الحروب التي خاضتها خلال الحربين العالميتين، وأيضاً للقضاء على الثورة الجزائرية. ممارسات كهذه تؤجّج الحقد لدى شعوب المنطقة، وتعطي فرصة للمتطرّفين لنشر أفكارهم بين الساخطين من الناس، ما جدّد الشعور العدائي لسكان المنطقة ذات الغالبية المسلمة، تجاه فرنسا.
في الختام لا بد من التنويه إلى أنّ فرنسا، اليوم، وبعدَها أوروبا، تعيشان حالة ردود أفعال لا حالة أفعال، وغالباً ما تأتي هذه الردود عنيفة وعشوائية، تفتقد إلى المنطق، فتستعر نتيجة ضغط المجتمعات المتضرّرة والأحزاب اليمينية المتشدّدة...
الأسئلة التي تُطرح، أخيراً: ما هي السيناريوات المحتملة التي سيعيشها العالم؟ وما هو بنك الأهداف الذي سيُحَدَّد في حال تيسّر ذلك، ولا سيما أنّ الصورة لا تزال ضبابية، والرؤية السليمة منعدمة، لأنّ العدو وهمي وغير منظّم؟

* صحافي وكاتب لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا