كان «وعد بلفور»، في أساس كلّ ما حلّ بالشعب الفلسطيني على يد الصهيونية، لأنّه منح الصهاينة الحق باستعمار فلسطين، وساعدهم على استقدام المهاجرين ومكّنهم من اغتصابها. وإذا كانت المسؤولية الأخلاقية لبريطانيا قائمة حتماً عمّا حصل من جرائم ارتكبتها العصابات الصهيونية، ثم الكيان الصهيوني، والتي أدّت إلى وقوع مئات آلاف القتلى من فلسطينيين وعرب وملايين المشرّدين، فهل هي مسؤولة في ضوء القانون الدولي العام أو القانون الدولي الإنساني؟للإجابة على هذا السؤال، لا بدّ من العودة إلى زمن الوعد وأحكام القانون التي كانت سائدة في حينه، وذلك بناءً على مبدأ المفعول الزمني للقانون Tempus Regit Factum (1). لكن هل يحقّ لدولة كانت تحت الانتداب أن تداعي الدولة المنتدبة بعدما تحرّرت؟
هذا ما أجابت عليه محكمة العدل الدولية بالإيجاب في قرارَيها في قضيّتي «فوسفات ناورو» (2)، ونتائج وجود جنوب أفريقيا في ناميبيا (3). من هنا، كان لا بدّ من العودة إلى بداية التدخّل الرسمي البريطاني في المنطقة العربية شرقي المتوسط، عام 1915، تاريخ مراسلات مكماهون - حسين. وهكذا، وبناءً على أحكام القانون المذكور، فقد ارتكب السيد بلفور والحكومة البريطانية عدداً من الخروق للقانون الدولي بطريقة مباشرة، كما تسبّبا بعدد من الجرائم الدولية الكبرى في فلسطين ومحيطها.

الارتكابات المباشرة
تتمثّل الارتكابات المباشرة بما يأتي:
1 - وهب أرض لا تملكها إلى من ليس له أي صلة قانونية بها
2 - عدم احترام مبدأ العقد شريعة المتعاقدين Pacta Sunt Servenda تجاه العرب وفلسطين
3 - عدم احترام قوانين الاحتلال الحربي
4 - خرق ميثاق عصبة الأمم

أولاً: وهب أرض من قبل من لا يملكها لمن لا حقوق له فيها
ليس لليهود من غير السكان الأصليين في فلسطين أي حقوق، إذ لا وجود لهم منذ ألفَي سنة على الأقل. ثمّ إنّ البريطانيين لا يملكون الحق في وهب أيّ قطعة من فلسطين لأيّ كان، بل عليهم فقط، بناءً على «اتفاقية لاهاي» لسنة 1907، أن يحافظوا عليها لمصلحة سكانها. لكن ما قام به البريطانيون هو منح أراضي الدولة للصهاينة بناءً على وعد بلفور (1917)، ثمّ تشجيع الهجرة بواسطة الكتب البيضاء: الأول والثاني، اللذان سمحا بالهجرة بـ«ما تسمح به قدرة البلاد الاقتصادية»، والثالث الذي سمح بهجرة 75 ألف يهودي بحيث يصعد اليهود إلى ثلث السكان.

ثانياً: عدم الالتزام بالعهود والتنفيذ بحسن النية
تبيّن لنا أن بريطانيا حنثت بوعودها للعرب، خصوصاً في قضية فلسطين، فبعدما تعهّدت للشريف حسين باستقلال بعض البلاد العربية، ومن ضمنها فلسطين، عادت واتفقت مع فرنسا على اقتسام المشرق العربي، بحيث كانت فلسطين من حصّتها. ثمّ أعطت «وعد بلفور» الذي ستترجمه بمنح أرض من فلسطين لليهود الصهاينة، ليقيموا دولتهم التي شغلت في الأساس 78% من مساحة فلسطين التاريخية، ثم توسّعت باحتلال كامل فلسطين، علماً أنّ تنفيذ العهود المعطاة مبدأ أخلاقي وقانوني متّفق عليه منذ أقدم العصور، فلا يجوز أن يُعطى كلام من طرف إلى طرف آخر، ثمّ يتنكّر معطي الكلام لكلامه، كما أنّه لا يجوز أن يفسّر أيّ طرف كلامه بما يخرجه عن روح الموضوع ومقاصده، بل الواجب التنفيذ والتفسير بحسن النية. وهذا أمر لا يخالف فيه أحد، وقد كُرّس في عدد كبير من الأحكام والقرارات، ومنها قرار لمحكمة التحكيم الدولي سنة 1910، سبق كلّ الوعود البريطانية (4).

ثالثاً: خرق واجبات القائم بالاحتلال الحربي في البلد المحتلّ الذي نظمته الاتفاقية الخاصة بقوانين وأعراف الحرب البرية والملحق بها. (لاهاي 18 تشرين الأول / أكتوبر 1907)، وتنصّ على أن:
م 55: «لا تعدّ الدولة القائمة بالاحتلال نفسها، إلّا مديراً administrateur ومنتفعاً من الأبنية العامّة والأموال غير المنقولة والغابات والاستثمارات الزراعية التابعة للدولة العدوّة والموجودة في البلد المحتل. وعليها أن تحافظ على أرض هذه الممتلكات وتديرها وفقاً لقواعد الانتفاع». كما على الدولة القائمة بالاحتلال حماية السكان المدنيين أنفسهم وممتلكاتهم، وهذا ما كان يؤكّده الفقه الدولي منذ ما قبل انتداب بريطانيا على فلسطين (5).

رابعاً: خرق ميثاق عصبة الأمم حيث يرد:
المقدمة: «يهم الأطراف السامية المتعاقدة أن تقيم علاقات دولية علنية على أساس العدل والشرف. تنشر العدالة والاحترام الدقيق لجميع موجبات المعاهدات في العلاقات المتبادلة بين شعوب المنظمة».
المادة 22 - 1: تنطبق المبادئ الآتية على المستعمرات والأقاليم التي لم تعد، نتيجة للحرب، تحت سيادة الدول التي كانت تحكمها سابقاً، والتي تسكنها شعوب لا تتمكّن بعد من قيادة نفسها في الظروف الصعبة للغاية في العالم الحديث. إنّ رفاهية هذه الشعوب وتنميتها تشكّلان مهمّة مقدّسة للحضارة، ومن الضروري أن تدرج في هذا الميثاق ضمانات لإنجاز هذه المهمة.
4 - وقد حقّقت بعض المجتمعات التي كانت تنتمي سابقاً إلى الإمبراطورية العثمانية قدراً من النمو... ويجب أن تؤخذ رغبات هذه المجتمعات في الاعتبار أولاً، لاختيار الدولة المنتدبة.
المادة 23. (ب): «تتعهّد (الدولة المنتدبة) بضمان المعاملة المنصفة للشعوب الأصلية في الأراضي الخاضعة لإدارتها»؛ غير أنّ بريطانيا لم تلتزم بكل هذا على الإطلاق.
حنثت بريطانيا بوعودها للعرب خصوصاً في قضية فلسطين، فبعدما تعهّدت باستقلال بعض البلاد العربية ومن ضمنها فلسطين، عادت واتّفقت مع فرنسا على اقتسام المشرق العربي


الارتكابات غير المباشرة
تتمثل هذه الارتكابات بالتسبّب بما يـأتي:
1 - طرد مئات آلاف الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم
2 - حروب متعدّدة بين العرب والفلسطينيين وإسرائيل
3 - منع عودة ملايين الفلسطينيين إلى أرضهم تنفيذاً لقرارات الأمم المتحدة
4 - استمرار تعريض ملايين الفلسطينيين للعيش لاجئين خارج أرضهم وفي ظروف معيشية سيئة
5 - خلق مجتمع من ملايين البشر ممّن لا وطن لهم apatrides
6 - خلق عبء على المجتمع الدولي يكلّفه مليارات الدولارات سنوياً

أولاً: التسبّب بطرد مئات آلاف الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم
هؤلاء يجب أن يعودوا، لأنهم ليسوا مهاجرين بل هم مطرودون من بيوتهم وأراضيهم. وهذا ما قضت به المحكمة الدائمة للعدل الدولية في قضية التبادل السكاني اليوناني - التركي (6).
ثانياً: التسبّب بأربع حروب رئيسية بين الفلسطينيين والعرب وإسرائيل، وحروب وهجمات أخرى
- الحرب الأولى بدأت في 15 أيار / مايو 1948 عندما أعلنت العصابات الصهيونية إقامة دولة إسرائيل، وجرت بين عدد من الجيوش العربية والمتطوّعين العرب والإسرائيليين معارك، بعدما تجاوز الصهاينة بشكل فظيع حدود ما أعطاهم قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة (7). ولكنّ بريطانيا لم تسمح بهزيمة الإسرائيليين، وانتهت الحرب باتفاقيات الهدنة بين إسرائيل والدول المحيطة بها.
- الحرب الثانية حصلت عندما هاجمت بريطانيا وفرنسا مصر، بسبب تأميم قناة السويس. ودخلتها إسرائيل إلى جانب المهاجمين، واحتلّت شبه جزيرة سيناء.
- الحرب الثالثة: حيث حشدت إسرائيل جيشاً على الحدود السورية لاجتياحها. فتحرّكت مصر والأردن، بناءً على اتفاق الدفاع المشترك، فشنّت إسرائيل الهجوم على البلدان الثلاثة بغطاء أميركي، واحتلّت شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية من الأردن ومرتفعات الجولان السورية.
- الحرب الرابعة: جرت بعد رفض إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلّتها عام 1967، حيث شنّت مصر وسوريا في تشرين الأول / أكتوبر 1973، هجوماً لاستعادة أراضيهما، لكنّ أميركا مكّنت فيها إسرائيل من الصمود ثم الاختراق.
- الحرب على لبنان: شنّت إسرائيل على لبنان عدداً من الاعتداءات منذ عام 1948، وكان أكبرها اجتياح عام 1982، حين بقيت إلى أن أخرجتها المقاومة عام 2000، ثمّ شنّت عدواناً جديداً عام 2006، انتهى بفشله، ولكنّها دمّرت البنية التحتية اللبنانية وقتلت آلاف الأشخاص المدنيين.

ثالثاً: منع عودة ملايين الفلسطينيين إلى أرضهم تنفيذاً لقرارات الأمم المتحدة
فقد صدر عن الأمم المتحدة القرار 194 (1948)، بتاريخ 11 كانون الأول / ديسمبر 1948، الذي قضى بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى بيوتهم وتعويض من لا يريد العودة عن أملاكه، وتعويض من يعود عن الأضرار بالأملاك، بحسب القانون الدولي أو قواعد العدالة (8). ولكنّ إسرائيل رفضت، وما زالت ترفض، عودة اللاجئين إلى ديارهم وتعويضهم، فيما تستقدم ملايين اليهود لإسكانهم في أرضٍ، هي بالأساس مغتصبة منتزعة من أصحابها بالقوة، وبدون وجه حق وفي أرض تصادر اليوم فيما تبقّى من فلسطين بعد اغتصاب القسم الأكبر منها، واحتلّ عام 1973، ما يعدّ جريمة حرب (9).

رابعاً: استمرار تعريض ملايين الفلسطينيين للعيش لاجئين خارج أرضهم وفي ظروف معيشية سيئة

خامساً: خلق مجتمع من ملايين البشر ممّن لا وطن لهم apatrides

سادساً: خلق عبء على المجتمع الدولي يكلّفه مليارات الدولارات سنوياً (10).

مسؤولية الدولة عمّا تحدثه من أضرار:
كان القانون الدولي، وما زال، يقرّر مسؤولية الدولة عن الأضرار التي تسبّبها. فقد جاء في المادة الأولى من قرار لمعهد القانون الدولي، في آب / أغسطس - أيلول / سبتمبر 1927: «إنّ الدولة مسؤولة عن الضرر الذي تسبّبه للأجانب بفعل أو تقصير يتعارض مع التزاماتها الدولية».

التعويض
هو واجب على الدولة التي ارتكبت الاعتداءات، وعلى من شاركها وساندها وخصوصاً من مكّنها، كما جاء في قضية مصنع شورزوف، 26 تموز / يوليو 1927، من أنّه: «من مبادئ القانون الدولي أنّ الإخلال بالتعهّد يستتبع الالتزام بجبر الضرر بشكل مناسب. وبالتالي، فإنّ التعويض هو المكمّل الأساسي للفشل في تطبيق اتفاقية ما، من دون أن يكون من الضروري إدراج هذا في الاتفاقية نفسها» (11).
من هنا، يتوجّب على بريطانيا:
أن تعلن اعتذارها عن إطلاقها «وعد بلفور». وأن تعمل على استرجاع الحقوق الفلسطينية كاملة، بما فيها حق العودة. وأن تعوّض الفلسطينيين عن كلّ ما لحق بهم من ضرر مادّي ومعنوي، نتيجة وعدها غير القانوني.

المراجع:
1 - راجع اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات بتاريخ 23 أيار 1969 م28
2 - Nauru v. Australie, I.C.J. Reports 1992, p. 240
3 - Conséquences juridiques pour les Etats de la présence continue de l'Afrique du Sud en Namibie (Sud-Ouest africain) C.I.J. Recueil 1971, p. 16.
4 - وقضى بما يأتي:
ج -هناك «مبدأ في القانون الدولي يقضي بأنه يجب أن تُنفذ الالتزامات التعاقدية بحسن نية كاملة»
ه - «يتحصل من المعاهدة التزام يقيّد بموجبه حق بريطانيا العظمى في ممارسة سيادتها بوضع التنظيمات المقررة وذلك بحسن نية ودون خرق للمعاهدة».
- COUR PERMANENTE D’ARBITRAGE : L’AFFAIRE DES PÊCHERIES DES CÔTES SEPTENTRIONALES DE L’ATLANTIQUE : LES ÉTATS-UNIS C. Lش Grande-Bretagne. La Haye, le 7 septembre 1910. P. 15 et 16
5 - :WESTLAKE, J. Chapters on the Principles of International Law
«وفقاً للإجراءات المشدّدة التي يجري اتخاذها لمنعهم (السكان المسالمين) من مساعدة العدو، يحق لسكان المنطقة المغزوّة الحصول على الحماية من أجل حياتهم وشرفهم وحقوقهم الأسرية والدينية؛ وأيضاً من أجل حريّتهم،... وفي ما يتعلّق بممتلكات الأشخاص المسالمين، يحقّ لهم التمتّع بالحصانة من السلب».
6 - راجع:
• ÉCHANGE DES POPULATIONS GRECQUES ET TURQUES
• (CONVENTION VI DE LAUSANNE, 30 JANVIER I 923, ARTICLE 2)
• PUBLICATIONS DE LA COUR PERMANENTE DE JUSTICE INTERNATIONALE RECUEIL DES AVIS CONSULTATIFS série B-No10 le 21 février 1925.
7 - راجع القرار 181الصادر عن الجمعية العامة، بتاريخ28 /11/1947 الذي أعطى 42،3 من أرض فلسطين للعرب و57،7 لليهود.
8 - فقد ورد في الفقرة 11 أنّ الجمعية العامة - 11 - تقرّر أنّه ينبغي السماح للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش في سلام مع جيرانهم بالقيام بذلك في أقرب وقت ممكن عملياً، ويجب دفع تعويض عن ممتلكات أولئك الذين اختاروا عدم العودة وعن الخسارة أو الأضرار التي لحقت بالممتلكات والتي بموجب مبادئ القانون الدولي أو الإنصاف، يجب إصلاحها من قبل الحكومة أو السلطة المسؤولة.
9 - راجع نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية: م (8/2/أ/7) و(8/2/ب/8) وجريمة ضدّ الإنسانية (م 7/1/د).
10 - فقد أنشأت الأمم المتحدة «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (UNRWA)، وهي تكلّف المجتمع الدولي أكثر من مليار دولار سنوياً (حوالى 1.2 بليون دولار أميركي منذ عام 2009)، وهي مع ذلك تعاني عجزاً يتزايد سنة فسنة، الأمر الذي يؤدّي إلى تقليص مستمر في مستوى الخدمات المتدنّي أصلاً.
11 - منشورات محكمة العدل الدولية الدائمة - رقم I7 13: مجموعة الأحكام رقم 13 المتعلقة بمصنع تشورزو (المطالبة بالتعويض) (الاستحقاقات) (أيلول / سبتمبر 1928):
وتشير المحكمة إلى أنّ أحد مبادئ القانون الدولي، وحتى المفهوم العام للقانون، هو أنّ أي انتهاك لتعهّد ما ينطوي على الالتزام بجبر الضرر. راجع كذلك:
RDIP, Les affaires agraires des ressortissants hongrois devant le tribunal Arbitral Mixte Roumano-Hongrois

* أستاذ في كلية الحقوق، الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا