لم يراعِ، معظم هؤلاء، مزاج الناس الذين يدَّعون النطق باسمهم، حين وضعوا، أحياناً خطوطاً حمراء على مواقع القرار الأولى في البلاد: «الرؤساء الثلاثة». قادة المؤسسات الكبار: في الأمن والقضاء والمال والمصرف المركزي (رغم عظيم ارتكابات حاكمه!)... لا يندر أن أُطْلقت في مجرى حملات التضليل الديماغوجية، شعارات من نوع المطالبة بدولة «مدنية»، وأنها هي الحل وأن الطائفية هي سبب كل الأزمات، لكن ذلك لم يمنع، ولو للحظة واحدة، أصحاب الشأن والقرار من أن يواصلوا عاداتهم الراسخة في التحاصص وفي إخضاع كلّ شأن عام لمقتضياته حتى في ذروة الأزمة، كما هو الأمر في تشكيل الحكومة الحالية والتي سبقتها والتي سبقتهما... حتى انقطاع النفس! ولا بأس رغم فظاعة ما يجري في الكواليس خصوصاً، من إعلان مواقف مخادِعة من نوع أننا لا نريد شيئاً سوى معالجة الأزمة والتعهّد بالإصلاح وإقرار برامج إنقاذية...!
قمة التضليل في صدد تناول مسألة المحاصصة بالنقد والهجاء، هي محاولة الفصل فيها، ما بين الكوتا الطائفية والمحاصصة الإدارية والسياسية، ومحاولة اعتبارهما مسألتين منفصلتين! كيف يمكن الفصل ما بين الحصص الطائفية والمحاصصة بالمعنى التطبيقي السائد والذي تشتق له كل يوم أعراف جديدة وذرائع متنوعة وصيغ متناسلة بما يوفر تعميمه على الحقول والمؤسسات كافة بما في ذلك نقابات مهنية وإعلامية ونوادٍ وتجمعات وروابط...
قمة التضليل في صدد تناول مسألة المحاصصة بالنقد والهجاء، هي محاولة الفصل فيها ما بين الكوتا الطائفية والمحاصصة الإدارية والسياسية
ثمة في هذا الصدد أيضاً ما ينبغي التوقف عنده بشكل مركَّز. ذلك أن فريقاً، هو في الواقع من مستغلّي الاحتجاجات والانتفاضة الشعبية، قد كرر دائماً موقفاً عدائياً من الطائفية. بدا الأمر، مع الوقت، ومع عدم بلورة برنامج موحَّد للانتفاضة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ضمن إطار تنسيقيّ قياديّ موحَّد أيضاً، بدا وكأنه تعبير عن موقف فردي شعوري ومزاجي، وليس أمراً يتّصل بمنظومة المحاصصة المترسخة في البلاد، والتي لعبت الدور الحاسم في فشل النظام وفي انهيار الاقتصاد وفي أزمة لبنان وشعبه التي تكاد تصبح أزمة جوع ووجود شاملة. المسألة الأساسية هنا: هل يمكن إخراج البلاد من أزمتها القاتلة من دون تحرير النظام السياسي من المحاصصة الطائفية التي هي أداة كبار المتموّلين وتجار السياسة والطوائف للسيطرة على مقدرات البلاد وتوظيفها في تعزيز وإدامة سيطرة الطبقة الحاكمة...
يتصل بذلك أيضاً أمران مهمّان. أولهما حضور دور خارجي يستثمر دائماً في الانقسام والعصبيات الطائفية والمذهبية لإضعاف الوحدة الوطنية وتعزيز التبعية لهذا الخارج أو ذاك. وثانيهما، عجز قوى التغيير الوطني عن بلورة تيار شعبي واسع وفعَّال يكافح من أجل قيام دولة قانون ومؤسسات، دولة مواطَنَة مدنية تحرر الإدارة والمؤسسات من القيد الطائفي. القاسم المشترك بين مكوّنات هذا التيار الشعبي الواسع ينبغي أن يكون النضال من أجل تطبيق الدستور، كمرحلة أولى: بإنشاء مجلس نيابي خارج القيد الطائفي وباستحداث «مجلس شيوخ» يتعامل مع الهواجس الطائفية والمذهبية من ضمن حرية الاختيار خصوصاً في مجال الأحوال الشخصية، وتأمين حرية المعتقد الديني وحماية تلك الحرية وفق ضمانات فعلية. ذلك يستدعي أن يكون قانون الانتخاب المنطلق من النص الدستوري هو بند أساسي في أي برنامج شعبي سياسي للتغيير التدريجي إذا لم يكن منطلقه الأول.
طبعاً، تتسلل في مجرى بعض الاحتجاجات المدفوعة من قِبَلْ قوى خارجية وداخلية، مسائل خطرة من نوع كشف لبنان أمام العدو الصهيوني عبر المطالبة بأولوية نزع سلاح المقاومة. هذا أمر مشبوه تغذّيه وتدفع لتبنّيه وجعله أولوية، قوى «صفقة القرن» الأميركية الصهيونية الناشطة لتعزيز مشروع الهيمنة الأميركية وأداته الدولة الصهيونية على المنطقة.
* كاتب وسياسي لبناني
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا