في مقالته اللافتة «لماذا فشل مشروع أنطون سعاده؟» التي نشرتها صفحة «الرأي» في جريدة «الأخبار» (22 تشرين الأول 2020)، تناول الكاتب عبد المنعم علي عيسى أسباب «فشل مشروع سعاده» عازياً ذلك إلى عوامل عدّة مؤثّرة، أبرزها وفقاً للكاتب أن «التحرّر من السطوة العثمانية في أعقاب الهجمة الغربية الشرسة التي تستهدفها والتي ترتكز في أهم قوائمها على قيام كيان استيطاني متفوق في قلبها، يستطيع كبح جماح نهوضها». هذا الواقع لم يمكّن، بحسب الكاتب، الأمة السورية من تحقيق وحدتها، بل أدّى إلى نشوء «استقلالات» لكيانات ودول ترجمةً لمعاهدة سايكس بيكو عام 1916. كان الكاتب موضوعياً في الاستشهاد بموقف أنطون سعاده الذي وصف بدقّة ووضوح حالة الأمة بعد نشوء الكيانات المستحدثة في خطاب يوم العودة في 2 آذار 1947 حين قال: «في حالة الاستقلال الحاضرة، خرجت الأمة من القواويش التي كانت فيها، خرجت من الحبوس داخل البناية التي أعدّ لها الاستعمار، ولكنها لا تزال ضمن السور الذي يحيط ببنايات السجن، نحن الآن خارج القواويش لكننا لا نزال ضمن السور».

هذا التوصيف الدقيق لواقع الاستقلالات والكيانات الناشئة أكد أن كيانات سايكس بيكو عجزت عن صدّ ومنع نشوء كيان الاغتصاب الصهيوني على أرض فلسطين، وعن حماية الكيانات نفسها خارج فلسطين، ولم تحُل دون تمدّد الكيان الصهيوني الغاصب واحتلاله الجولان السوري وسيناء وأجزاء من لبنان، وانكشفت بفعل مؤامرة التجزئة والتهويد سوريا الطبيعية جغرافيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً، أمام معاهدات الصلح والتطبيع والاستسلام التي فرضها العدو وما زال على أكثر من نظام، وتزحف في هذا الزمن العربي الرديء لتلغي الروابط القومية والعربية كافة، ما يهدّد وجود الأمة السورية كهوية قومية ومجتمع موحّد مستهدف في وشائج روابطه الحياتية والنفسية والثقافية، استكمالاً لمؤامرة التقسيم الأصلية التي بدأت مفاعيلها عام 1916 وتتوالى فصولاً وملاحقَ حتى يومنا هذا لترسيخ التمزيق الجغرافي والسياسي وإرساء تقسيم على أسس إثنية وطائفية ومذهبية.
لقد أضاء الكاتب على هذه المعادلة المركزية التي استند إليها مشروع سعاده لمواجهة الهجمة الاستعمارية ومخطّطات التهويد والتطبيع متبنّياً الربط المحكم الذي أرساه سعاده بين سايكس بيكو ووعد بلفور، وبين الاستعمار والحركة الصهيونية ومشاريع الهيمنة والتقسيم والصهينة تحت مسميات متعدّدة، تحمل شكل معاهدات أو اتّفاقات ومخطّطات تطبيع بهدف تصفية حقنا القومي والسيطرة على ثرواتنا ومواردنا واقتصادنا وأسواقنا، وإلغاء كيان الأمة وافتعال عداوات لها مع محيطها الجغرافي والإقليمي، لتوهم العالم أنها كيان طبيعيّ في المنطقة يعقد التحالفات مع دولها ويبني جسور صداقة وتعاون ووحدة مصالح في مواجهة خطر مشترك مزعوم، وكأنّ المشكلة والأزمة ليستا في أصل كيان الاغتصاب وأطماعه، والقوى الاستعمارية الداعمة له إلى حدّ أن يبقى القوّة المتفوّقة على دول المنطقة وشعوبها.
ما يستوقف ويثير الغرابة فعلاً في مقالة الكاتب عيسى اعتباره أن من أسباب فشل مشروع سعاده «استبعاده لأيّ دور للدين في حركة الصراع المستمر من أجل نهوض الأمة السورية، على الرغم من أنه قد دعا إلى فصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع، إلّا أنه لم يستطِع أن يلحظ أن النهوض في المنطقة قد ارتبط عضوياً بالإسلام».
هنا بيت القصيد، وإنّي أؤكد في سياق تفكيك هذا النص ابتداءً أن سعاده كان داعية لنهوض قوميّ وجهاد قوميّ ووحدة قوميّة اجتماعيّة ترتكز إلى منظور علميّ تاريخيّ جغرافيّ استراتيجيّ، يرى في الأمة والمجتمع أمة واحدة وشعباً واحداً.
هذا المنظور الجامع الرؤيويّ يبني النسيج الاجتماعي على أرضيّة صلبة تكرّس وحدة الانتماء والمواطنة لتأسيس وعي قوميّ صميمي، وهذا الوعي القوميّ بالنسبة إلى سعاده هو صمّام الأمان لتقف الأمّة بكلّ قواها الحيّة في معركة الحياة والموت للنهوض بمصالحها القوميّة ومواجهة الأخطار التى تهدّدها.
كيف استنتج عبد المنعم عيسى أن أنطون سعادة أغفل مكانة الدين في نهجه الفكري ؟


«إن غياب الوعي القومي كما يقول سعاده كان في أساس خسارتنا أرضنا ومواردنا وثرواتنا ووحدتنا الاجتماعية»، لذلك إن عناصر النهوض القومي والصمود والانتصار لا تستند إلى عناصر جزئية قد تسهم في تفكيك الأمة وذهاب ريحها، فالدين بالنسبة إلى سعاده من بين عناصر أخرى ليس في أسباب نشوء الأمم وإن كان له تأثير في حياتها، إلا أن سعاده أقام وزناً كبيراً للدين، فلم يستبعِد دوره في المطلق في حركة الصراع المستمر من أجل نهوض الأمة السورية كما اعتقد الكاتب. إنّ الكاتب قد نوّه بفكر سعاده المتقدم في الموضوع الديني «ذي الفكر التركيبي الذي بلغ ذروته في مؤلفه المهم الإسلام في رسالتية المسيحية والمحمدية»، فكيف استنتج إذاً أن سعاده قد أغفل مكانة الدين في نهجه الفكري وإسهاماته المبدعة في هذا الشأن؟
إن منزلة الدين عالية في مؤلفات سعاده، لكن بين الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع، واعتبار الدين رابطة فردية خاصّة بين الفرد وخالقه، وبين اعتبار الكاتب وقناعته أن النهوض في المنطقة قد ارتبط عضوياً بالإسلام بون شاسع من المفارقات.
أنطون سعاده رائد الدعوة الاجتماعيّة العلمانيّة الداعية إلى فصل الدين عن الدولة واحترام الدين وتنزيهه عن المخالطات السياسية، وريادته في هذه الدعوة تتخطى حدود الأمة السورية إلى العالم العربي والشرق عموماً، ويجب أن لا نتغافل عن أن الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسّسه سعاده عام 1932 قد وضع مبدأ فصل الدين عن الدولة مبدأ أوّل في المبادئ الإصلاحية لقيام الدولة على أسس المواطنة والانتماء والعدالة والديمقراطية، فالدولة القومية المدنية هي دولة المواطن والحقوق والواجبات الواحدة، دولة الإنسان من دون أيّ تمييز على أية أسس أخرى.
إن دعوة سعاده لم تنفِ الدين، بل كانت نظرته إلى الدين باعتباره إرثاً وإثراء وروحاً ورسالة حضارية وميزة من مزايا عطاءات أمته والعالم العربي إلى معظم شعوب المعمورة، وفي معرض تصدّيه للتعصب المذهبي والطائفي ومنع أشكال التصادم بين فئات المجتمع الواحد، وتنبيها للأمة من خطر المشروع اليهودي الصهيوني وضرورة تحشيد قواها إلى أي دين أو مذهب آمنت به، خاطب الأمة قائلاً: «كلنا مسلمون لرب العالمين، منا من أسلم لله بالإنجيل، ومنا من أسلم لله بالقرآن، ومن أسلم لله بالحكمة، فلا عدو لنا يقاتلنا في ديننا وحقنا وأرضنا إلا اليهود»، فهل في هذا النهج والتوجه ما يوحي أو يثبت أن منزلة الدين في معركة المصير القومي عند سعاده هي منزلة هامشية، أم أنه صوّب اتجاه أن يكون الدين في خدمة الإنسان والحياة، وفي خدمة الأمة في معاركها القومية المصيرية؟
في حرب الوجود لا حرب الحدود نرى أن سعاده يجنّد كلّ قوى الأمة وطاقاتها ومخزونها الثقافي والروحي باتجاه الحفاظ على وحدتها ومصالحها العليا، لذلك لم يعتبر سعاده «أن النهوض في المنطقة يرتبط ارتباطاً عضوياً بالإسلام»، إنّما أسس بعقيدته ومشروع حزبه حركة مقاومة ونهضة جامعة لا تختزل أو تنفي أو تهمّش أيّ مجهود قد يمكّن الأمة من زيادة اقتدارها.
ألا يتّفق معي الكاتب في مقالته المهمّة، وفي مناخ التفجّر الطائفي والتشظي المذهبي، ومؤامرات صفقة القرن ومشاريع التهويد والتطبيع، على أن الحاجة هي إلى مشروع نهضويّ قوميّ يوحّد بين أبناء الأمة على أسس صلبة تجعل من الأمة، كل الأمة، بيئة حاضنة لخيار المقاومة ومواجهة هذا الانحراف والارتهان والخيانة التي تنزلق إليها أنظمة التطبيع والمعاهدات والاستسلام، فيهرولون إلى ملاقاة العدو وإرضاء الإدارة الاستعمارية الأميركية في التخلي عن الأرض والحقوق والمقدسات في فلسطين، كما تلاقي العدو دعوات للحياد والسلام وكأن هذا العدو ملاك سلام لا شيطان إجرام وحرب، وقاعدة للسيطرة والتوسع على حساب مصالح الأمة والعالم العربي أجمع.
إن الفكر «التركيبي» الذي نوّه به الكاتب كان وما زال حاجة مصيريّة تحفظ وحدتنا الداخلية وتمنع الانقسامات وهو يشكل حجر الرحى في عملية الاستنهاض والصمود والمقاومة، وراهنية هذا الفكر التجديدي النهضوي المتنور هي معراج الأمة إلى الأرض والسماء معاً، وسعاده القائل: إن اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض، فما أحوجنا أن نأخذ بهذه المفاهيم الأصيلة ونؤمن بالمبادئ التي هي حرزنا لنحفظ الأرض ونحجز مكاناً في السماء.
يبقى أن أشير إلى تصويب لا بدّ منه حول ما ذكره الكاتب عن الشاعر سعيد عقل الذي انتمى إلى الحزب في ثلاثينيات القرن الماضي، فالحقيقة أن سعاده حرص على أن يوجّه الشاعر لينهل من تراث أمتنا العظيم شعراً وفنّاً وفلسفة وإبداعاً، احتوتها الأساطير والفلسفات وعمّت أرجاء الأرض، وذلك في معرض انتقاده لقصيدة «بنت يفتاح» التي نظمها الشاعر عقل عام 1935 من وحي «التراث اليهودي»، ما دفع سعاده إلى توجيهه إلى آداب سوريا العظيمة وتراثها وحضارتها المتجذرة والرائدة في التاريخ الإنساني.
سعيد عقل لم يخرج بل أُخرج لشطط في إيمانه والتزامه، وهو لم يكن من التلامذة المفكّرين والمبدعين الذين أغنوا النهضة بكتاباتهم وأفكارهم، وإذا كنا لا ننكر شاعرية سعيد عقل إلا أن شاعريته لم تضعه في مصاف رجال الفكر والفلسفة والقيادة والريادة، ولم تسعفه في إزالة شوائب السقوط الفكري والثقافي والسياسي إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان وبعده، وإن نظريته في «التراصف الحضاري» مع اليهود أي تراصف الأقليات هي مجرّد لغو وثرثرة واستلاب تكفلت بطولات المقاومين في دحضها ودحرها.
* عضو المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا