يمكن تصنيف المقاومين في زمن التطبيع والحصار والعقوبات والضغوط القصوى، بمن «يبقون إلى المعركة الأخيرة». يبذلون بغير حدود، توقاً إلى الشهادة في سبيل ما هو مستقبلي، ولأجل ناسٍ لم يروا وجوههم قط، وإمامٍ موعودٍ يتشوّقون لطلعته الرشيدة، وقضيّة طوبى لمن تبرّك بمائها ودمائها المقدّسة، وبحثاً عن عدالة يرتفع بها الإنسان عن دناءات وضلالات مَن تحوّلهم الريح إلى مجرّد «ورقة في مهبّ الريح». وإلى هذا المعنى، كان يرمي الإمام موسى الصدر عندما قال يوماً: «إنّ شرف القدس يأبى أن يتحرّر إلّا على أيدي المؤمنين»! وكأنّه يلمّح إلى أنّ تلك الرحلة ينبغي أن يبادروا إليها بمفردهم. أن يصعدوا الجلجلة لوحدهم، وأن يطأوا الموت بالموت لوحدهم، وأن ينجزوا عملهم الثوري ولو انسدّت شرايين الأرض بوجههم فـ«ليس بعد الليل إلا فجر مجد يتسامى»! تسَارُع مسارِ التطبيع، أخيراً، جعلنا نلحظ ارتفاعاً في أصوات لبنانيين يريدون مباشرةَ المشي في المسار نفسه، لكن بفذلكات كـ«تجرّع الكأس المرّة» بسبب معاناة اللبنانيين وعدم تحمّلهم اليأس الذي أوقعهم على ركبهم. هكذا، كذب السادات على شعبه، عندما أسّس مبدأً للاستسلام سمّاه مبدأ «رفع المعاناة»؛ أو من باب الندّية، فنحن «لسنا كغيرنا من العرب. نحن إنّما نذهب لتسوية الصراع وبيدنا ما يكفي من أوراق القوة لنفرض على العدو صلحاً مشرفاً». لكن حقاً من أين لكم هذه الندية والقوة! ومَن قال إنّ في الصلح مع هذا العدو شرَفاً ولو كنتُم أنداداً عِراض المناكب!
هنا يأتي التعب بنزعته الفردية والجماعية، ليحصد كلّ التضحيات التي قام بها مقاومون أوائل. لكن طلب الراحة لا يرفع العبء ولا يعيد لاجئاً من منفاه ولا يستولد للوطن الأمان والفرح، بل يستولي على ما تبقّى من حنين إلى أشياء ضائعة! ومجموعة ارتأت أن تقول لنا إنّها قد «أدّت قسطها للعلى» مع القضية الفلسطينية، واليوم هي غير قادرة على إنصافها كما كانت تفعل من قبل. إذ المصالح مع العرب ودنيا المال والعلاقات تقيّد كلّ كلمة، تسمِّر كل فعل، تجمِّد كلّ حركة. الأكثر غروراً هم أولئك الذين تعاملوا مع العدو وقرأوا من كتابه ذاته، يحفظون مواقفه المعادية للمقاومة، يتناقلون أخبار التطبيع بزهو ، يردّدون بينهم وبين أنفسهم وفي خلواتهم مع أخلّائهم ما يسمّونه إخفاقات المقاومة، العقوبات القاسية عليها، الصعوبات التي تمر بها، «معضلة حزب الله وضائقته»، كما هي أدبيات مؤتمر هرتسيليا للأمن القومي الإسرائيلي. وفي المقابل قوة أميركا، سلاح أميركا، دولار أميركا، قيادة أميركا، التي ستغيّر وجه المنطقة والعالم. يطربون لمفردة «الحياد» عندما تخرج من فم البطريرك، وكذلك عندما يتحدّث عن مخازن الصواريخ وحصرية السلاح بيد القوى العسكرية اللبنانية. يعتبرون أنّ تطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل هي نهاية طبيعية. سيطبّع الجميع حتى السعودية والبقية ستأتي، إن لم نفعل الآن سنفعلها غداً بضريبة أعلى موتاً واقتصاداً. فلنفعلها الآن! أمّا المقاومة فستواجه مصيرها بمفردها، ستجعل من نفسها وليمة «للعالم المتحضر والشرق الجديد»!
تسَارُع مسارِ التطبيع، أخيراً، جعلنا نلحظ ارتفاعاً في أصوات لبنانيين يريدون مباشرةَ المشي في المسار نفسه


المقاومة التي خبرت التحدّيات في كلّ الظروف، لا تدع الحزن يغتالها بسبب مَن انفضوا عن المقاومة والقضية الفلسطينية مِن «مناضلين سابقين» وأحزاب وتيارات وأنظمة، تعبوا أو يئسوا من إحداث تغيير جذري سريع حيال مسار الصراع. مفتاح كفاحهم هرأه الصدأ، وتمّ استبداله بمفتاح آخر يفتح على مقولات دقة التوازنات والبراغماتية وتدوير الزوايا والانحناء للعاصفة ولقمة العيش وتبدّل موضوعات الصراع وتغيّر التحالفات وضعف الإمكانات وسردية لا تتعب من حياكة تبريرات الفرار من الزحف. ومِن جانب آخر، لن يكون اليوم سهلاً على مَن يؤمن على طريقة أبي عمار، بـ«سلام الشجعان»، إقناعه ولو استعملت معه كل أدوات البرهان والجدل بأنّ إسرائيل شرّ مطلق، ويجب إزالتها من الوجود التزاماً بالقانون الدولي والمصالح الوطنية وعدالة السماء!
والمقاومة أيضاً لا تجعل العصبية تسيطر عليها، بسبب هذه العناصر المتنافرة بنوعيّتها المطالِبة بالاسترخاء أو تلك المطالِبة بالاستسلام. لقد جاهدت ضد هذين الضعفين على المستوى الوطني، منذ أن انطلقت الرصاصة الأولى. تعرف أنّ الانتصار هو عندما تخوض الغمار مقتحمةً لا متربصةً ولا هاربةً. انحطاط القوى وسقوط الهمّة عند البعض، أو انحدار في المسؤولية والاعتقاد، أو الاشتطاط الوقح عند البعض الآخر تعيه المقاومة جيداً، وهو جزء من لوحة التحديات والمخاطر التي لا تغيّر عندها من طبيعية المبادئ والأهداف بوصة واحدة.
الخطأ المنهجي الذي يقع فيه بعض اللبنانيين، أنهم يلتقطون مجموعة من الظواهر، ثمّ يطبّقون عليها بصورة آلية ما يمكن تسميته بنظام المعادلات الرياضية، وهو منهج يُغري ويُبهر بما يؤدي إليه من نتائج التناظر والتقابل والتلاقي والتعارض، وهو أيضاً منهج سهل لا يلتمس سوى المظهر البرّاق لإحدى الظواهر، وحالما يعثر على القالب أو المعادلة الشكلية، فإنّه يسارع إلى التقاطها وتطبيق تلك النظرة الآلية عليها. واعتقادي أنّ المنهج العلمي السليم، هو الذي يستقصي في حدّة وعمق المعالم التفصيلية للتأثر والتأثير المتبادل بين قوى الصراع، أي بين محور المقاومة ومحور أميركا وأتباعها. إنّ الصراع مرتبط بسلسلة معقّدة هي أكبر شأناً وأشد خطورة من أن تُدرَك عبر خيط التطبيع الواهي. ولا يمكن لحدثٍ أو أحداثٍ، مهما تعاظم شأنها، أن تكون سبباً في إيقاف صراع لا ينتهي إلا بفرض وحيد، هو أن يلغي أحدهما الآخر. إنّ الطرفين المقاوم والمستكبر، مدفوعان بمبدأ العداء المستحكِم الذي لا يعرف منطق التسويات. وكلّ منهما ينتظر فرصة أكثر ملاءمة للعمل على إنهاء الآخر. ولا يهمّ عند المقاومة كلّ تلك القوى والكتل الجماهيرية اللامبالية في العالمين العربي والإسلامي وداخل لبنان، ولو ارتفع صوتها وعلا احتجاجها من الإعياء تارة أو محدودية القدرة أو من «خطأ» بقاء الصراع على أفق مفتوح. وإذا كانت لدى البعض أهداف سياسية بديلة، فإنّ إزالة إسرائيل من الوجود هو هدف المقاومة الحاسم، وإن كان كلّ عمل ليكون تامّاً يتطلّب ظروفاً خاصّة ووقتاً معيّناً للإنجاز.
مع الوقت تعلّمت المقاومة أنّ لكلّ حرب منطقها وقوانينها الخاصة، عن المجهولات التي يجب أن تكتشفها، وعن الأوضاع والشروط التي يمكن أن تُوجد فيها، عن التفاف الناس أو انفضاضهم. مَن تقسره الضغوط للوقوف على التل وانتظار زوال غبار المعركة، ومَن يرتد على مبادئه أو ينقضّ على دم المقاومين بسيفه ليفوز برأسه أو بكنز هو أجلب للخوف والعار من راحة الضمير والبال.
قيل: «إنّ من يحاور العواصف لا يهاب بروقها»، وقد حاربت المقاومة كل عواصف عصرها وكانت كالشراع الذي انهزمت العواصف أمامه. قلق المقاومة إذاً ليس من الوحدة، من العزلة، من تخلّي «حلفاء السياسة» عنها في زمن الحقيقة الكلية. ولو حصل هذا بوجهه السافر سيكون ذلك أمراً مشيناً لكلّ مَن ادّعى الثورية والوطنية، وتحوّل عنهما في لحظة تقف إسرائيل نفسها على بوابة مقبرتها، وفي لحظة يستدير قرص نصر «المؤمنين» كالشمس في رابعة النهار.
في زمن التطبيع واللهاث عليه، أو الأكاذيب بأنّ المقاومة مثلها مثل غيرها من الأحزاب الأيديولوجية التي رفعت السلاح أولاً، ثم غصن الزيتون لاحقاً. في هذا الزمن، ستكون كلمات محمود درويش ضرورية لتذكير مَن يتوقون لرؤية المقاومة محاصرة، غريبة لوحدها كالإمام الحسين (ع) في صحراء تناقضات الأمم، وقد احتوشها الأعداء من كل جانب، حين قال: «الصراع هو الإجابة... الحق والحرية والانتماء والجدارة لا تُعلن إلا بالصراع»!
* كاتب لبناني، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدولية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا