عرضنا في مقالة سابقة لمرتكزات الفلسفة المدرحية التي جاء بها سعادة، ونعرض في هذه المقالة القيَم الاجتماعية للمدرحية. تأتي قيمتَا الحق والحرية في أعلى مراتب القيَم الاجتماعية في الفلسفة المدرحية، إذ أنّ «الحق هو انتصار على الباطل في معركة إنسانية تجري في هذا العالم ويشترك فيها الإنسان - المجتمع الإنساني-. والحق انتصارٌ يشهد للنفوس التي انتصرت أنها أصابت، ويشهد على النفوس التي خذلت في الباطل أنها أخطأت. والحرية ليست حرية العدم، بل حرية الوجود، والوجود حركة، هي حرية الصراع، صراع العقائد في سبيل مجتمع أفضل... الحرية قيمة إنسانية مجتمعية وهي حق طبيعي يشعر الإنسان بالحاجة إليه، كما يشعر بحاجته إلى الهواء والغذاء، فلا حياة للإنسان تليق بإنسانيته من دون الحرية». ولكي يتحرّر المواطن سياسياً، لا بدّ من إرساء قواعد الديمقراطية التعبيرية التي لا تحتاج إلى تفويض من الشعب، كونها البداية للوصول إلى الديمقراطية التمثيلية، التي من خلالها يمكن تثبيت قواعد النهضة في البلاد للسير بها في طريق التقدّم والفلاح. والحرية الاجتماعية هي الوجه الآخر للحرية السياسية التي لا تقوم بغير إلغاء الإقطاع الاقتصادي والتحوّل إلى الإنتاج وزيادته لتأمين حاجة جميع المواطنين، إذ أنّ تنظيم الاقتصاد على أساس الإنتاج هو الطريقة الوحيدة التي توجِد التوازن الصحّي بين توزيع العمل وتوزيع الثروة. وتأتي قيمة الواجب متلازمة مع قيمة الخير، إذ أنّها لا تستند إلى العاطفة والوجدان، ولا تقوم على التجربة، بل يقوم الواجب على احترام القانون، لكونه متلازماً مع ضرورة أداء الفعل احتراماً للقانون.
يطلب الواجب لذاته، فهو منزّه عن أيّ غرض، أو تحقيق منفعة أو بلوغ سعادة، إذ أنّ الأخلاق ليست المذهب الذي نتعلّم به كيف نكون سعداء. بل هي المذهب الذي يعلّمنا كيف نكون جديرين بالسعادة، ومعنى هذا أن نؤدّي واجبنا أولاً.
و«تبرز قيمة النظام بمقدار أهميته لما هو ضروري لحاجة الحياة، وبقدر ما يكون النظام مضاداً لحاجة الحياة ومصالح المجتمع يكون غاية حقيرة ومحاولة سقيمة، والسر ليس في النظام بحد ذاته، بل في القوة التي تحرك النظام. فالنظام يحدد المسؤوليات وينظم العلاقات بين المؤسسات». «وتأتي قيمة القوة التي تقرر المصير، القوة النفسية التي هي نتاج القوة المادية، فالقوة المادية دليل قوة نفسية راقية، فالنفس الخاملة لا تنشئ سلاحاً جديداً ولا تقدماً جديداً، بل تقبل بالأمر المفعول، أما النفس الغنية فترفض كل أمر مفعول لا يكون وليد إرادتها».
أما قيم الحق والخير والجمال، أو ما يسمى في الفلسفة «الاكسيولوجي Axiology» أي القيم المطلقة، فقد عرّفها سعادة بقوله: «الحق والخير والجمال، والحقيقة، هي قيَم اجتماعية متحديّة لا قيَم فردية، لا الكثرة أو القلّة تقرّر الحق وتفرضه فرضاً، وإذا لم تكن الكثرة أو القلّة أساس تقرير الحق، وذا سلطان لفرضه. إن مسألة الحق ليست عددية، بل مسألة إنسانية اجتماعية، الحق قد يبتدئ بفرد وقد يبتدئ بعدد قليل ضئيل، وقد يبتدئ بعدد كثير، ولكن شرط الحق في الإنسانية، ليكون حقاً أن لا يعلن نفسه ساعة ويختفي، وأن لا يختزنه العدد الفردي أو المجموعي في نطاقه الخاص فيفنى فيه، أن لا يكون حقاً عددياً، بل حقاً اجتماعياً، لا ينفرد فيه الفرد ولا يستقل به العدد، بل يمتد في المجتمع بلا حدود. في المتحد نفسه بتعاقب أجياله، الحق ليس فردياً ولا عددياً، فهو لا يموت مع الفرد ولا يفنى بفناء العدد، إن الحق اجتماعي يظل قائماً ما ظل المتحد قائماً».
لكي يتحرّر المواطن سياسياً، لا بدّ من إرساء قواعد الديمقراطية التعبيرية التي لا تحتاج إلى تفويض من الشعب كونها البداية للوصول إلى الديمقراطية التمثيلية


تعدّدت تعريفات الخير، فمنهم من عدّ الخير سعادة والسعادة لذّة حسية أو لذّة معنوية، ومنهم من عدّ الخير فضيلة، أو إحساناً، أو حب الوطن وحب البشر، ولكن الفضائل جميعها، والواجبات كلّها، وسائر ضروب السلوك إن هي إلا أفعال وأعمال إنسانية قيمية تغوص في المجال الأخلاقي بين قطبَي الخير والشر، من زاوية تقويم أفعال الإنسان.
والجمال صفة تلحظ في الأشياء وتبعث في النفس سروراً أو رضاً، وهي إحدى القيَم الثلاث التي تؤلّف مبحث القيم العليا، وهي عند المثاليين صفة قائمة في طبيعة الأشياء، وبالتالي هي ثابتة لا تتغيّر، ويصبح الشيء جميلاً في ذاته أو قبيحاً في ذاته، بصرف النظر عن ظروف من يصدر الحكم، وعلى عكس هذا يرى الطبيعيون، أنّ الجمال اصطلاح تعارفت عليه مجموعة من الناس متأثرين بظروفهم، وبالتالي يكون الحكم بجمال الشيء أو قبحه مختلفاً باختلاف من يصدر الحكم.
ويأتي دور الأخلاق في نهاية المطاف ليجسّد القيم الاجتماعية على أرض الواقع، إذ أنّ علم الأخلاق هو علم معياري وليس علماً وصفياً، كونه يبحث في ما ينبغي أن يكون وليس بما هو كائن في الواقع، ومدى اهتمامه بالغايات القصوى والمثل العليا، ويرى سعادة، «بأن أهم مسائل النهوض القومي بعد تأسيس فكرة الأمة وبعد تعيين المقاصد الكبرى، هي مسألة الأخلاق، أو مسألة العقلية الأخلاقية، هي مسألة الروحية الحقة التي يمكن أن تفعل في الجماعة والمجتمع كلّه».
هذه بعض الآراء الفلسفية الواردة في كتاب «المدرحية فلسفة النظام الجديد» لمؤلّفه الدكتور أسامة سمعان، الذي سيكون في المكتبات قريباً.
ملاحظة: الاقتباسات جميعها من مجموعة الآثار الكاملة لأنطون سعادة.

* كاتب لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا