أيها الصديق العـزيز،رسالتك إلى رئيسك الفرنسي انطوت على نقاطٍ مضيئة أعـرفُ مثلها منك جيداً: «أذيّة دولة إسرائيل(!)، ظلمها الفاضح، توسّعها المستمر، إفلاتها الدائم من الإدانة، والاعتداءات المتوالية التي ارتكبتها ضد لبنان». وهذه الأخيرة أحصيتها بنحوٍ ممتاز. ثم شعورك بـ«الخزي» من وجهَي الدولة الفرنسية ورئيسها «المدافع عن العلمانية والقيم الجمهورية». وفي المقابل «بلادة موقفهما تجاه الظلم الصارخ الذي ترتكبه الدولة الإسرائيلية الفائقة العسكرة والمبنية على أُصول دينية». كلّ ذلك حسنٌ وشجاعٌ. مع ضرورة الإشارة إلى أنّ ذكرك «دولة إسرائيل» قـد يوحي بأنّ لومك موجّهٌ إلى آثامها فقط . أما إسرائيل نفسها فهي «دولةٌ» كغيرها، أي أنّها مسكوتٌ عن أنّها تركّبت من اغتصاب أرضٍ وتشريد شعبها. لكنني على يقين من أنك لم تقصد ذلك. ولعلّه من أدب الخطاب مع رئيس دولة ما انفكّـت تقدّم أنواع الدعم لها.
المفارقة الهائلة للحقيقة في رسالتك، هي في تعليقك على تركيز الرئيس ماكرون تشخيصه لأزمة بلدنا الحاليّة على حزب الله، بأن قلت: «نحن في لبنان شهودٌ وضحايا ومستنكرون لانتهاكات هذا الحزب. فهو مثل كلّ أعضاء الأوليغارشيّة الشائنة التي تحتكر الدولة اللبنانية. مرتكبٌ لكل أنواع الفساد. ومسؤولٌ عن انحطاط المؤسسات».
هذه اتهاماتٌ خطيرةٌ جداً. لستُ أذكر أنني سمعت مثلها من غير الملتزمين جانب العدو بنحوٍ ما. على أنني في هذه الرسالة إليك لستُ معنيّاً بالدفاع عن حزب الله، فهو يعرف جيداً كيف يدافع عن نفسه. وعلى كلّ حال، فإنّ كلامك لم يأتِ بجديد من صنوف البهتان التي نسمعها كل يوم. كلّ ما أتيتَ به أنك جمعتها من حيث تفرّقت في جملةٍ واحدة. وإنني أظنُّ أنك في هذه الصياغة المُحرّكة للنفوس قد استفـدتَ من خبرتك في مسرح الحكواتي.
أنا يا صديقي معنيٌّ بالدفاع عن نفسي.
رأيتك تقـول: «نحن في لبنان شهودٌ وضحايا... إلخ». فمَن هم هؤلاء الـ«نحن»؟ وهـل أنا ومعي مئات الآلاف من المواطنين الذين وجدوا في المقاومة عزّهم ومِنعتهم وأمنهم، من جملة أُولئك الشهود والضحايا والمستنكرين؟
إن تكُن تقصدنا جميعاً كما يبدو، فأنت من الكاذبين. مع أنك ابن جبل عامل تعرف بما يكفي مُعاناة أهله الطويلة من الغطرسة الصهيونية. فضلاً عن أنك تسرق مني حقي في التعبير عن دخيلة نفسي. لتبيعه لمَن لن يشتريه.
إنّ تيار المقاومة في لبنان هو من ثمرات المعاناة الطويلة جرّاء عجز ــ تقاعس ما سمّيته «الدولة» عن حماية مواطني جبل عامل


إنّ تيار المقاومة في لبنان، هو من ثمرات المعاناة الطويلة جرّاء عجز ــــــــ تقاعس ما سمّيته «الدولة» عن حماية مواطني جبل عامل. أبطالها المجهولون الأوائل، هم المئات من الذين ساهموا في بناء مجتمعاتهم في حزام البؤس الذي تشكّل حول بيروت من المهاجرين من جبل عامل وسهل البقاع، بعدما ألجأهم الفقر والتهميش المنهجي والغطرسة اليهودية وغياب الحماية والحامي، إلى ترك أرضهم للعمل في المهن التي يأنف غيرهم من العمل فيها. وأنت تعرف أنّ أبرز قادة المقاومة هم من أبناء أولئك المهاجرين، وأنّ جزءاً كبيراً من الفضل في الرفاه الذي نعِم به لبنان، أواسط القرن الماضي، هو في الأموال التي كانت تتدفّق عليه من عشرات آلاف المهاجرين العامليين في بلدان أفريقيا. ومع ذلك، فلم يذكرهم أحدٌ بكلمة أو بعمل، ولطالما فسّر أساطين اللبنانويّة ما ينعمون به بفضلهم بأنه معجزة لبنانية(!).
أمّا أبطالها المعروفون، فهم أولئك الذين سدّوا مَسَـدّ الدولة في توفير المدارس لأبناء جبل عامل وشرق سهل البقاع: السيّد عبد الحسين شرف الدين في جبل عامل، الشيخ حبيب آل إبراهيم في بعلبك وجوارها، رشيد بيضون والسيد محمد حسين فضل الله في بيروت. ثم جاء السيّد موسى الصدر بما يملك من رؤيةٍ ساطعة لأزمة شعبه فبنى وأعلى. واليوم، العمل الأساسي والعميق لحزب الله في عُمق المقاومة، هو في مؤسّساته العاملة على تربية الأجيال وإعدادهم.
من المُعيب أن تنبز تيار المقاومة بأنّه جزءُ من الأقليّة التي «تحتكر الدولة اللبنانيّة» (الأوليغارشية). المقاومة ليست تُخفي أنّ ضلوعها في الشأن السياسي هو لحماية ظهرها من السياسيين، الذين هم في الغالب يُنفّذون مشروعاتٍ برّانية، لا علاقة لها إطلاقاً بمصالح بلدهم، بل تصبُّ في مصلحة العدو والخصوم المعروفين. ومن ذلك، مُطالبتهم المستمرّة بنزع سلاح المقاومة، والحقيقة، أنّ الذي يهمّهم هو خدمة العدو بنزع سلاحها، أما البديل فالعدو هو الكفيل به.
يُريبني منك أشدّ الريب بكاؤك على احتكار الدولة اللبنانية «الأوليغارشية الشائنة التي تحتكر الدولة اللبنانية». قل لي متى كانت هذه الدولة غير مُحتكَرة ومحتكِـرة؟ وها نحن اليوم نكتشف يوماً بعد يوم وجوه هذا الاحتكار، في ظلّ الأزمة المعيشيّة الخانقة جراء الذين يمسكون بموارد بلدنا وثروته بحماية السياسيين الفاسدين والقوانين الاحتكارية الجائرة. هؤلاء ضبطناك تغضّ الطرف عنهم مع أنك تعرفهم جيداً، وتحصر أسباب الأزمة بمَن لم يدخلوا إلى السُّلطة إلا أخيراً وعبر الطريق الشرعي. وها هم يكافحون في سبيل تصحيح ما أفسده المفسدون أثناء قرن من الزمان.
أخيراً أقول، يلوح لي أنّك مأخوذٌ بالتاريخ اللبناني الرسمي. وهو الذي لم يُكتب إلا ليكون الخلفيّة الفكريّة لكلّ ما يُعاني منه اليوم حتى الذين توهّموا زمناً أنه لخدمتهم وبخدمتهم. وفي هذا السبيل، اصطنع مُركّباً رأسماله أحداثٌ ورموزٌ باطلة. من جملة آثام ذلك التاريخ، أنه يتقبّل ويتبنّى إلا الذين قـدّمهم بوصفهم صانعيه ومالكيه. أما غيرهم فمحلّه التهميش والحرمان، فإذا هو رأى غير ذلك تصنّع الغضب، وحشد كلّ ما في جعبته من صنوف الترذيل والبهتان. وما الذي أخذناه على بعض ما حشدته في رسالتك إلا غيضٌ من فيضٍ نعرفه، ونعرف أنّه سائرٌ إلى زوال، حيث قيامة لبنان الحقيقية لمصلحة جميع مواطنيه.
* مؤرّخ لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا