تتميّز مجاري المياه على السفوح الغربية لجبل لبنان، بأنّها موسمية في معظمها تجري بغزارة فقط خلال فصول الأمطار شتاءً، فتنساب هدراً ﺇلى البحر من دون التمكّن من احتوائها أو تخزينها، لأسباب عدّة، وبالأخص لضعف التكوينات الجيولوجية للتربة اللبنانية. كذلك، تجفّ غالبية هذه المجاري صيفاً، مع انتهاء موسم الأمطار، ولهذا السبب تبقى الاستفادة منها محدودة، ﺇذا لم نعرف كيف نحسّن استثمارها، وحتّى لا نترك أية حجّة مضلّلة للعدو الإسرائيلي، قد يستغلّها دولياً مدّعياً بأنّ لبنان يهدر مياهه في البحر، بينما هو يعاني من شحّ في المياه نظراً إلى التطوّر العمراني وزيادة النمو الاقتصادي لديه. أريد من كل ذلك استنتاج عبرة مفيدة تتمثّل في ضرورة ﺇقامة سدود مائية على المجاري في لبنان، حيث تسمح المواقع والظروف التكوينية للتربة، وفي ضوء الحاجة والأوضاع الاقتصادية المتاحة للدولة.
أولاً: مشروع جرّ مياه الليطاني ـــــ الأولي وإنشاء سدّ بسري لتأمين حاجات مدينة بيروت بالمياه
في عام 1973، وفي ضوء الحاجات المتزايدة للمياه نتيجة التطوّر العمراني وارتفاع عدد سكان العاصمة وضواحيها، وُضعت أول دراسة لجر مياه الليطاني من نفق الأولي ـــــ جون إلى بيروت، يوم كانت مياه القرعون ما زالت نظيفة خالية من أي تلوّث وصالحة للاستعمال المنزلي، وذلك وفقاً لأحكام المرسوم رقم 14522 تاريخ 16/5/1970. واجه هذا المشروع اعتراضاً قوياً، من قبل السياسيين الذين لم يوافقوا يومها على تخصيص كمية 50 مليون متر مكعّب من خزّان القرعون لمصلحة مدينة بيروت، وذلك حتى لا يُصار إلى اقتطاع هذه الكمية من حصّة المياه الملحوظة لري الجنوب على منسوب 800م، وبالأخص في سني الشحايح وعندما يتدنّى مخزون بحيرة القرعون إلى حدوده الدنيا. وقد دفع هذا الأمر بالمصلحة الوطنية لنهر الليطاني، عام 1975، إلى وضع دراسة أولية لإنشاء سدّ على نهر بسري، أعلى المجرى، على منسوب 395م فوق سطح البحر، بغية إيجاد حلّ بديل هدفه تأمين حاجات مدينة بيروت الكبرى، وإقليم الخروب، من المياه بقوة الجاذبية، من دون الحاجة إلى تكبّد أكلاف باهظة للضخّ، التي يفرضها سحب المياه من الآبار الجوفية، وكذلك من دون المسّ بحصّة المياه المخصّصة لمشروع ري الجنوب الذي هو قيد التنفيذ حالياً. وعند اندلاع الأحداث الأمنية، في عام 1975، توقّف العمل على متابعة الدراستين المذكورتين أعلاه، لغاية عام 1980، حين أُعيد العمل بدراسة ﺇنشاء سدّ بسري، هذا من جهة، ومن جهة أخرى جرت إعادة تقييم وتعديل دراسة جرّ مياه الليطاني ﺇلى بيروت، بهدف ﺇنجاز ملفات دراستها كاملة، إلى حين توفّر التمويل اللازم لتنفيذ أشغال هذه المشاريع. بناءً على طلب ملحّ من مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، ونظراً إلى ازدياد النقص الجائر للمياه في مناطق بيروت الكبرى، جرى في عام 2014 تلزيم تنفيذ أشغال منشآت جرّ مياه الليطاني انطلاقاً من نفق الأولي ـــــ جون باتجاه مدينة بيروت، وما زال هذا المشروع قيد التنفيذ حالياً، وفي مراحل متقدّمة، علماً بأنّ قسماً كبيراً من هذا المشروع جرى تمويله من قبل هذه المؤسسة. كذلك، فإنه، وبعد اكتمال ملف الدراسات الفنية وإنجاز الخرائط التنفيذية، تمّ حصول الموافقة على التمويل اللازم من قبل المراجع الدولية المختصّة لإنشاء سد بسري. من بعدها، جرى تلزيم الأشغال وفقاً للأصول، بموجب مناقصة عمومية، وأُعطي أمر المباشرة للمقاول المؤهّل للتنفيذ على الأرض، حيث عمدت الدولة إلى دفع قسم كبير من استملاكات الأراضي التي ستغمرها مياه البحيرة عند تعبئة السد شتاءً. كذلك، لحظت أشغال سد بسري إنشاءات إضافية منفصلة كلياً عن منشأة الليطاني الموجودة حالياً في حوض الأولي، للاستفادة من فرق الارتفاع بين منسوب مأخذ المياه على السد ومنسوب موقع مخرجها في منطقة جون العقارية، قبل دخولها إلى نفق استجرار المياه الرئيس لبيروت، بهدف بناء معمل كهرمائي بقدرة 12 ميغاوات لإنتاج طاقة نظيفة. كما أنّ هذا التدبير يضمن فصل المياه الوافدة من الليطاني كلياً، ويؤمّن عدم اختلاطها بالمياه المخزّنة وراء سد بسري، ما يخفّف من أكلاف وتعقيدات عملية تكريرها لاحقاً.
بتاريخ 4/9/2020، واستجابة لطلبات ملحّة من قبل نشطاء 17 تشرين، ألغت الجهة الدولية المموّلة للمشروع موافقتها على إعطاء القرض المطلوب للدولة اللبنانية، فتوقّفت عندها الأشغال قبل البدء بتنفيذها، ما يعني ضياع آمال أهل بيروت الكبرى بالحصول على مطالبهم المزمنة لسدّ العجز المُجحف لحاجاتهم إلى المياه في الأمد المنظور، ولا سيما أنهم باتوا ضحية الانفعالات غير المتروّية.
مصادر المياه البديلة عن سد بسري هي بالتأكيد متوفّرة، ولكن ليست بالبساطة التي يتصوّرها البعض


ثانياً: مصادر مياه بديلة عن إنشاء سدّ بسري
مصادر المياه البديلة عن سد بسري، هي بالتأكيد متوفّرة، ولكن ليست بالبساطة التي يتصوّرها البعض. لهذا الأمر يقتضي الأخذ في الاعتبار الجدوى الاقتصادية من استثمار هذه المصادر، ومن سرعة تحقيقها، ومن ثم جودة المياه التي سنحصل عليها، وبالتالي توفّر التمويل اللازم للتنفيذ تحقيقاً للغاية المنشودة عملياً. إنّ أهل المعرفة يدرون بالممارسة، أنّ أيّ تمويل خارجي لتنفيذ أي مشروع في لبنان ليس باليسير، ويحتاج عادة إلى ثلاث ـــــ خمس سنوات على الأقل، في حال توفُّر الجدوى الاقتصادية للمشروع. هذا هو الوقت المطلوب، وربما أكثر من ذلك، رهناً بالظروف السياسية أحياناً، وهو ما تحتاج إليه عادة أعمال التدقيق في دراسة الملفات، ومراجعة دفاتر الشروط والخرائط، وكيفية طرح المناقصة والموافقة على أسماء المقاوِلين المشتركين إلخ... ﺇنّها عملية طويلة وصعبة ومعقّدة جداً. لذلك، أخشى أن يكون الحل البديل والأقرب للتحقيق، هو عبر العودة إلى استعمال مياه الليطاني الوافدة من بحيرة القرعون الملوّثة، وجرّها إلى بيروت، اعتباراً من نفق الأولي ــــــ جون، ريثما يكتمل مشروع ري الجنوب على منسوب 800م، وذلك بغية تأمين حاجة العاصمة الملحّة، في المدى القريب، بهدف تزويدها بكمية المياه المطلوبة، نظراً إلى اكتمال منشآت الجر التي هي قيد التنفيذ حالياً، وهي منشآت مشتركة ما بين مياه سد بسري والمياه الوافدة من الليطاني، والتي أصبحت شبه جاهزة، وبالتالي سبق للدولة أن تكبّدت أكلافاً باهظة لإنشائها، ولا رجوع عنها. إزاء هذا الواقع، لا بدّ لكلّ من يدّعي حرصه على المال العام أن يتساءل: تُرى ألا يكفي ما خسرَته الدولة لغاية يومنا هذا، من جراء إلغاء تمويل إنشاء سد بسري وتوقّف الأشغال، وبالتالي إلزام الدولة بدفع التعويضات الطائلة للمقاوِل المتضرِر ولسواه من أكلاف دراسات واستقصاءات على الأرض ذهبت سدى؟ كان من الأجدى تدارك الأخطاء، إن وُجدت، قبل فوات الأوان، حتى لا تقع تلك الخسائر الكبيرة دون طائل. فخلافاً لكلّ الأقوال والتنظيرات التي تُطرح حالياً على وسائل الإعلام، فإن الدراسة المعمّقة لسد بسري، والتي بوشر فيها منذ عام 1975، قد أُنجزت من قبل شركات معروفة عالمياً، ومتخصّصة بالمواقع الجيولوجية المشابهة، كما أنّ موقع سد بسري هو من المواقع النادرة، والأنسب على الأراضي اللبنانية الملائمة، لتخزين المياه السطحية كموقع سد القرعون الناجح جداً. ومَن قال إنّ وجود بحيرة مائية في مرج بسري لا يصلح أن يكون نقطة جذب سياحية مميّزة، وقيمة مُضافة، كما هي الحال في شتّى الدول الأوروبية. أمّا بما يعود إلى مصادر المياه الأخرى البديلة المقترحة لتزويد مدينة بيروت وضواحيها بالمياه، فالمهم هو تأمين مصادر مياه، وخلال فترة زمنية قصيرة، بجودة مقبولة ومستدامة على المدى البعيد، كما يجب مراعاة تنوّع مصادر المياه، حتى لا تبقى العاصمة أسيرة مصدر واحد أحد من المياه، كما حصل عام 1990، حين خطر على بال أحدهم قطع المياه عن قسم كبير من بيروت، وبقي الناس عطاشى لمدة أربعة أشهر، ولا يزال حتّى اليوم جزءٌ منهم يرتوي من مياه آبار الدامور المشبّعة بنسب عالية من الملوحة والكلس. كما أنّ حال الآبار الجوفية، التي عمد تجار الأبنية الجديدة إلى حفرها بهدف تزويد بناياتهم بالمياه، منذ سبعينيات القرن الماضي ليومنا هذا، ليست أفضل منها إطلاقاً.
فبنتيجة تزايد حاجاتهم إلى المياه، قام معظم سكان العاصمة بسحبٍ جائرٍ ومتمادٍ لمياه الخزّان الجوفي، وبشكل عشوائي، ما سبّب انخفاضاً رهيباً في مستوى المياه العذبة في هذا الخزّان، وأدّى إلى تسرّب مياه البحر المالحة إليه، مكانها. إزاء هذا الواقع المرير، لم يعد بالإمكان اعتماد هذا الخزّان الجوفي مصدراً بديلاً للمياه نسبة إلى ما تمّ بيانه. إنّ سكان بيروت يعانون حالياً، وبشكل خاص، من نقص حاد في حاجاتهم إلى مياه الشرب، واستهلاكهم يعتمد بمعظمه على المياه المعبّأة بعبوات بلاستيكية، وعلى الصهاريج المتجوّلة التي تنقل المياه إلى خزّاناتهم لقاء بدلٍ مرهِق، وبجودة غير مكفولة.
أما في ما يتعلّق بإعادة تأهيل منشأة جرّ المياه من نبعَي جعيتا والقشقوش، بهدف زيادة التغذية من هذين النبعين، فهذا أمر جيد جداً ومفترض، كما يتوجّب ﺇعادة تأهيل شبكات التوزيع في كلّ أنحاء العاصمة، فضلاً عن أنّ وقف كلّ أشكال التعدّيات على الشبكة، بات أمراً واجباً وضرورياً. لكن بالرغم من كلّ هذه التحسينات، تبقى مجمل كميات هذه المصادر المائية أقلّ بكثير من نسبة تزايد الحاجة السنوية إلى المياه، في حال استشعرنا الحاجات المريحة للمستهلكين حتى عام 2050، كما تفعل سائر الأمم المتحضّرة. ومن السذاجة بمكان، قياس هذه الأمور على قدر الحاجة كما يقال، إذ يجب أن يُحسب الاحتياط الإلزامي لفائض الحاجات بما لا يقل عن 20% زيادة، كطوارئ. في هذا السياق، لنأخذ مدينة مراكش في المغرب كمثل ناجح جداً، كيف عملت على تأمين حاجاتها من المياه عن طريق ﺇنشاء سدّين مائيين في جبال الأطلس من حولها، وهي لا تزال تنعم بهذه الخيرات منذ أكثر من ثلاثة عقود، حتى يومنا هذا.

* مدير الاستثمار المائي والكهربائي
في «المصلحة الوطنية لنهر الليطاني» سابقاً

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا