تتعرّض دول وأحزاب محور المقاومة في هذه المرحلة لحصار مالي واقتصادي أميركي غير مسبوق، فبرغم وصول محور المقاومة إلى مرحلة شبه الردع الاستراتيجي المتبادل، من الناحية العسكرية، بينه وبين الحلف الأميركي كحصيلة للمواجهات العسكرية التي خاضها محور المقاومة ضد القوات الأميركية وحلفائها على جبهات عدّة، خلال العقدين المنصرمين، وبرغم تراجع السطوة الأميركية ومكانتها على الساحة الدولية عموماً، إلّا أنّ الولايات المتحدة لا تزال قادرة على إلحاق الأذى بخصومها، بواسطة العقوبات الاقتصادية الأحادية الجانب. فنجد، مثلاً، أنّ الاتحاد الأوروبي غير قادر ــــــ أو غير راغب ــــــ في تنفيذ التزاماته بموجب اتفاقية «خمسة زائد واحد» النووية، أو تفعيل آلية التبادل التجاري (Instex) مع الجمهورية الإسلامية في إيران، بشكل ملموس، وكان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ــــــ الذي يُعدّ من أكثر المتفائلين بمصير الاتفاقيات التجارية مع الغرب ــــــ قد أكّد ذلك عبر تعداد أحد عشر بنداً لم يلتزم بها الاتحاد الأوروبي بموجب الاتفاق النووي. أمّا الحصار المالي الأميركي على حزب الله في لبنان، فقد وصل إلى مديات غير مسبوقة، وبات يصيب الدولة اللبنانية بعمومها، بغية تشديد الضغط على الحزب، في محاولة لانتزاع تنازلات جوهرية منه تتعلّق بأمن كيان العدو الصهيوني، وترسيم الحدود مع فلسطين المحتلّة، بما يتيح لإسرائيل سرقة المزيد من الغاز اللبناني والعربي، هذا فضلاً عن تنازلات أخرى في قضية توطين اللاجئين الفلسطينيين، بما ينسجم مع مخططات «صفقة القرن». وبغض النظر عن مبادرة فرنسية أو غيرها، الظاهر أنّ الولايات المتحدة ماضية إلى النهاية في هذا النهج، حتى ولو أفضى إلى انهيار لبنان وتقسيمه، بحسب ما بات يُتداول في بعض مراكز الأبحاث المدعومة أميركياً وسعودياً. وأمّا عن «قانون قيصر» الجائر ضد سوريا، الذي يرمي إلى تعطيل مشروع إعادة إعمار الدولة السورية، فحدِّث ولا حرج. ومن المرجّح أن تستمرّ هذه الحرب الاقتصادية الضروس ضد أركان محور المقاومة، بغضّ النظر عمّا ستُفرزه الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة، على عكس ما تذهب إليه بعض التحليلات التي تربط بين وصول الديموقراطيين إلى سدّة الحكم، وبين استمرار هذه الحرب الاقتصادية. ويمكن لهذه الحرب أن تأخذ أشكالاً وصوراً مغايرة، لكنّ الأهداف الاستراتيجية الأميركية تظلّ ذاتها، ولنا في سياسة إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما مثال حي، حيث إنّ العدول عن أشكال الحرب العسكرية إلى أدوات الحرب الاقتصادية، كان قد بدأ في عهده ولو بصورة منمّقة أكثر من خَلَفِه. فقد اختار أوباما استراتيجية العمل ضمن إطار الاتفاق النووي والحرب الناعمة، على عكس الرئيس دونالد ترامب الذي فضّل العمل خارج الاتفاق النووي وبصورة فجّة، ولكن تبقى الأهداف الأميركية هي ذاتها متمثّلةً في إضعاف أركان محور المقاومة، وانتزاع أكبر قدر ممكن من التنازلات في القضايا المركزية، وربما يجوز لنا أن نعتقد بإمكانية حدوث الانقلاب على الاتفاق النووي، من قبل الحزب الديموقراطي ذاته في يوم ما، إذا ما رأى بعد حين أن هذا الاتفاق لم يؤتِ أُكله، ولم يؤدِّ إلى الحصول على تنازلات جوهرية من قِبل محور المقاومة في القضايا المركزية، وتقييد قدراته العسكرية الدفاعية كمسألة التسليح الصاروخي مثلاً. هذه الأهداف لم يُخْفِها أوباما، يوماً، فكان الاتفاق النووي يمثّل بالنسبة إلى إدارة الديموقراطيين نقطة بداية لمرحلة مختلفة من المواجهة، لا لترصيد نتائج معركة قد انتهت، ولطالما حذّر المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، السيد علي خامنئي، من أن الأميركي لا يوْثَق به، لا قبل التوصل إلى الاتفاق النووي ولا بعده.
لم يَعُد اليوم في جعبة الأميركي سلاح قليل التكلفة عليه، عند استخدامه ضدّ أطراف محور المقاومة


لم يَعُدْ، اليوم، في جعبة الأميركي سلاح قليل التكلفة عليه، عند استخدامه ضدّ أطراف محور المقاومة، سوى سلاح العقوبات الاقتصادية، وعليه، قد يُعَدّ التخلّي عن هذا السلاح طواعيةً، بمثابة إعلان استسلام. ويرى كثيرون أنه ليس من الحكمة بمكان الرُكون إلى هذا الاحتمال، بل يضيفون أنه يلزم الجهاد لنزع هذا السلاح الأخير من يد الأميركي، أو تقليل فعاليته على أقل تقدير، على غرار ما حقّقه محور المقاومة في مواجهة آلة الحرب الأميركية. ويمكن لأطراف محور المقاومة خوض معركة الانعتاق من قيود العقوبات الاقتصادية الأميركية، عبر مسارين باتا معروفَين، أحدهما: تطوير مستوى التعاون الاقتصادي بين أطراف المحور ذاته، حتى يحاكي ما وصل إليه مستوى التعاون والتنسيق العسكري بين هذه الأطراف؛ والآخر: وقف أي رهانات على انفتاح غربي ــــــ لن يأتي من دون تقديم أثمان باهظة ـــــــ والإقدام على خيار التوجه شرقاً، وبشكل حاسم واستراتيجي، لا سيما أنّ كسب الرهان على الغرب مشكوك فيه لأسباب عدة، منها ما يتعلّق بأوضاع الغرب الداخلية المستجدة. وقد طرح السيد حسن نصر الله هذا الخيار في أكثر من مناسَبة، أخيراً، والشرق قادر وحاضر لتلقّف خيارات كهذه. وما تصريح السفير الصيني في لبنان بشأن استعداد بلاده للاستثمار في البنية التحتية اللبنانية، بقُرابة الاثني عشر مليار دولار، وما العرض الصيني المقدَّم لإيران في صيغة اتفاقية شراكة استراتيجية للاستثمار في البنية التحتية وقطاع النفط، إلا دليلان على مدى جدية الصين في هذا المضمار، حيث تصبّ هذه العروض الصينية مباشرة في طاحونة مشروع الحزام والطريق الصيني. لكن الصين، وبشكل مفهوم، لن تمضي في خيارات كهذه ستكون لها تبعات في المواجهة القائمة حالياً بينها وبين الولايات المتحدة، إلّا إذا ضمنت جدية الطرف المقابل، على أن يكون توجهه هذا استراتيجياً لا عودة عنه، وليس توجّهاً تكتيكياً تفاوضياً من أجل تحسين شروط التفاوض مع الغرب، وربما يفسر هذا انخفاض منسوب الحماسة الصينية، بقدرٍ ما، تجاه هذه العروض بعد تقديمها.
لا يُظْهِر تطور الأحداث أنّ الأميركي سينسحب من المعركة الاقتصادية والمالية التي يشنّها على أطراف محور المقاومة من تلقاء ذاته، ومهما بدا خيار التوجّه شرقاً مكلفاً ودونه عقبات ترتبط بتوازنات دولية وأخرى داخلية، فإنّ البدائل المطروحة تبدو أكثر كلفة، ويشير مسار الأحداث إلى أنّ محور المقاومة سيكون مُضطراً إلى الإقدام على خيار التوجه شرقاً عاجلاً أم آجلاً، ناهيك عمّا يأمّنه هذا التوجه من مصالح حيوية لشعوب المنطقة على الصعيد المعيشي والتنموي في المديين المتوسط والبعيد، والأهم ما يشكله هذا التوجّه من دعامة حقيقية لاستكمال مسيرة التحرّر الوطني وبناء الأوطان، لا سيما إذا ما اقترن بمشروع تعاون إقليمي في ما بين دول الإقليم الطامحة للخلاص من السطوة الغربية، وإلى الأبد.

* كاتب وباحث في الشؤون السياسية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا