أطلق البطريرك مار بشارة بطرس الراعي سلسلة من المواقف السياسية الحادّة والمقلقة، جاءت بعد حادثة مرفأ بيروت في 4 آب / أغسطس 2020، وعبّرت عن مكنونات سياسية دفينة تجاه رؤيته إلى بنية الدولة والتوجّه السياسي للكيان. والمؤسف أنّ المواقف كانت نتيجة حادثة المرفأ، وليست تعبيراً إصلاحياً حقيقياً ضمن برنامج ورؤية، كما أظهرت غضباً أعطي لبوساً سياسياً، وعكست عقلية سياسية تملكها الكتل والأحزاب السياسية الحاكمة، وبعض الشخصيات السياسية التقليدية، من ناحية التعبير عن الثقافة السياسية السائدة، والتي تهتم بالمصالح الآنية الضيّقة على حساب المصلحة العامّة الأكثر اتّساعاً. التعامل مع انفجار المرفأ بغضب هو حقّ، بينما تسييس الغضب الإنساني هو فعل سياسيين لبنانيين وأحزاب لبنانية ضيّقي الأفق ومنحدري القيم. كذلك، فإنّ اعتبار أنّ انفجار المرفأ من إفرازات جمهورية «الطائف» لا يكفي، لكون جمهورية «الطائف» هي من نتاج الجمهرة التاجرة التي أسّست الكيان. من هنا، فإنّ المعالجة الصحيحة ترجع إلى هذه النقطة.
لم يكترث البطريرك لعواطف وأفكار فئة من اللبنانيين في طروحاته، بل كان واضحاً في تبنّيه رأياً سياسياً مخالفاً لتوجّه رئيس الجمهورية والمقاومة، معبّراً عن غريزة سياسية كانت أقوى من غريزته الوطنية، فظهرت خفايا الصدر الدفينة بفعل عدم القدرة على التحكّم بالانفعال والسيطرة على الذات، بينما لو تريّث وقدّم بدائل وطنية عامّة، لوفَّر على اللبنانيين مزيداً من الغضب والمهاترات واستنزاف الجهد. لا يبني الغضب وطناً، والاستعلاء الطائفي مرضٌ يسلخ أصحابه عن المحيط، ويرفع من منسوب الكراهية، ويؤثّر على الرعية التابعة ويسهم في عزلها وطنياً، كما يجعل رغبتها بالمغادرة والرحيل عن الوطن أقوى وأكثر سعياً. أوَليس هذا هو حال اللبنانيين، والمسيحيين خصوصاً، هذه الأيام؟ حضل ذلك بفعل قيادات غير ناضجة سياسياً، أو تحمل فكراً سياسياً سطحياً يستسهل الغرائز والعواطف والتضليل في مخاطبة الناس، والأخطر أنّ البطريرك الراعي ينقاد بفعل هؤلاء السياسيين نحو تفتيت بيئته، وإشعال القلق داخلها.
يعمل البطريرك سياسياً، وفق نهج من الغرور والاستعلاء بخلاف الجماعات المسيحية القائمة والمتفاعلة مع مجتماعاتها في المشرق العربي، ويقدّم نفسه بصفات متصوَّرة وليست واقعية. المجتمع الدولي والغرب يعلمان ذلك، فيظهران وكأنهما يقدّمان عرضاً سياسياً. هذه دول تعمل على الاستغلال السياسي، لذا يصبح هو أداة ويصبح المجتمع المسيحي رهينة قابلة للاستغلال والتوظيف، والأخطر أنه يخلق تصادماً مع المحيط بأبعاده الثقافية المحلية والإقليمية. ولو تصرّف البطريرك بشكل معاكس، وقدّم طرحاً جدياً لتقارب سياسي مع المقاومة والانفتاح عليها، ألم يكن ليحقّق مكاسب وطنية عامّة وخاصة للطوائف اللبنانية المسيحية؟ يدفع تجاهل البطريرك للقوى السياسية القائمة، وهي وازنة في الإقليم، إلى تشويه سياسي في الخيارات الممكنة والمتاحة، والتي تحقق المصلحة، وسينتج عنها دبّ الذعر والرعب في الرعية، وعدم تقبل الآخر، وتحكّم فكرة الهجرة بالعقل اللبناني والمسيحي خاصة، بفعل التجارب العديدة منذ عام 1861 حتى الآن.
لم تجرِ فعلياً عملية مراجعة نقدية لتجربة الحرب الأهلية اللبنانية، التي بقيت أطراف السلم الأهلي بعدها تتقارع سياسياً بلغة وشعارات الحرب، مؤكّدة على الانقسام السائد منذ تأسيس الكيان عام 1920. التبدّلات التي حصلت لم تلغ الانقسامات السياسية، بل نقلتها من مكان إلى آخر، ويثبت ذلك أنّ الضمير الجماعي للمجموعات اللبنانية تلوّثه تجارب الدم والتعصّب والخوف. وقد استمرّ هذا التلوّث بفعل القوى التي سيطرت على الحياة السياسية، بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، حيث لم تملك من الكفاءات والقدرات والمؤهّلات ما يجعلها تُقدم على هذه التجربة لنقل لبنان فعلياً من مرحلة التشظّي إلى مرحلة المواطنة وتأسيس مدنية خاصة.
لم يكترث البطريرك لعواطف وأفكار فئة من اللبنانيين في طروحاته، بل كان واضحاً في تبنّيه رأياً سياسياً مخالفاً لتوجّه رئيس الجمهورية والمقاومة


تنطبق هذه الملاحظة على المجتمع المسيحي نفسه، حيث الضمير الجماعي تسيطر عليه تجربة بشير الجميل في الحرب، التي لم يقدم أحد على مراجعتها، بشكل فعلي وواقعي، ليستفيد منها ويؤسّس عليها. بل إنّ تلك التجربة بقيت تقدَّم على أنّها رائدة وسليمة في مغالطة فاضحة وعنيدة ولا تؤسّس لبناء وطن. شكّلت حركة بشير الجميل السياسية، فعل الخيانة لتجربة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، وكانت لها انعكاسات عاطفية على مجمل الشعوب العربية، لذا فإنّ التمسّك بها وتقديمها على أنها تجربة ثورية نضالية، سيخلقان نوعاً من التناقض والتباعد المستمرَّين ضمن البيئة المشرقية الواحدة، وسيدفعان أكثر وأكثر نحو الصدام الأهلي المجتمعي، الذي تحرّكه بالدرجة الأولى الأحزاب السياسية المسيحية، وعلى رأسها «الكتائب» و«القوات اللبنانية». لماذا الإصرار على إدخال تجربة بشير الجميل في الضمير المسيحي الجماعي؟ أليس ذلك ناتجاً من الإفلاس السياسي للأحزاب المسيحية، التي تفتقد إلى رفع شعارات مبدعة وخلّاقة؟ يفترض تحرّر الضمير الجماعي تقديم التجارب الجماعية بكل مكوّناتها، إلى المراجعة التاريخية. وحتى يستقيم الوضع، يُفترض تقديم تجربة بشير الجميل بصفتها تجربة تاريخية قتلت وأضعفت الوجود المسيحي في الشرق.
لقد أقامت الأحزاب المسيحية، تاريخياً، علاقة مع إسرائيل، وتحدّت بذلك العاطفة والضمير لمعظم الشعوب العربية، من دون أيّ رادع أو وازع، وبرّرت ذلك بعد الحرب بمبدأ الضرورة، وليس الخطأ، كما لم تقدّم الحجّة العلمية ولا السياسية لذلك، في عملية من الاستخفاف والعناد معاً. وراحت هذه الأحزاب نفسها، في فترة السلم، تبحث في الإقليم عن القوة المعادية للمقاومة، من أجل التحالف معها، في حين عملت داخل بيئتها على شدّ العصب الطائفي. فكان أن عزَفت على الوتر المذهبي بين السنة والشيعة، في عملية محاكاة للرغبة الأميركية في اندلاع فتنة بين المذاهب الإسلامية. فقد استمرّت هذه الأحزاب اليمينية في الخط السياسي نفسه الذي تأسّست عليه، وواكبت التحرّكات الخارجية التي تهدف إلى ضرب المقاومة ومحاصرتها، من دون أي اكتراث لتجربة الحرب الأهلية ونتائجها، خصوصاً على المسيحيين، ليَثبُتَ فقط أنّ تجربتها أثناء الحرب كانت سليمة.
من جهته، لم ينجح «التيار الوطني الحر» في نقل المجتمع المسيحي إلى الحالة الوطنية العامة، وبدل أن يقارع تجربة الحرب الأهلية لأحزاب اليمين المسيحي عملياً، قرّر أن يرفع شعاراتها السياسية أثناء الحرب، ويتحالف مع المقاومة، في الوقت ذاته، فوَقَع في تناقض فكري وسياسي، بحيث لا يمكن أن تجمع بين تأييدك لبشير الجميل وعدائك لإسرائيل. راح «التيار الوطني الحر» يمدح تجربة الجميّل، بدلاً من انتقاد تجربته السياسية الخاصة، على اعتبار أنّه الطريق الوحيد لإعادة بناء المجتمع المسيحي المتصالح مع تجربة الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. أمّا سليمان فرنجية، فيشكّل حالة عروبية داخل المجتمع المسيحي، تُدرك بوعيٍ سياسيٍ متقدِّم التركيبة التاريخية للمشرق العربي، وهو يبني رؤيته ومشروعه السياسي عليها، إلّا أنّه لم يتمكّن من نقل هذه التجربة إلى خارج نطاق جغرافي معيّن، ومجموعة لها تجربة سياسية خاصة.
تقتضي المصلحة الوطنية للدولة المفاضَلة بين عّدة احتمالات سياسية وقانونية، من أجل حفظ سلامتها وأمنها ووجودها. ويفترض طرح فكرة الحياد بصفته عملاً سيادياً داخلياً، نقاشاً وطنياً، ولا يتمّ إسقاطه على المكوّنات السياسية للدولة اللبنانية. فالحياد هو أيضاً حالة خارجية، الغرض منه حماية الدول الضعيفة من صراع الدول القوية المحيطة بها، وبما أنّ لبنان يتمتّع بمصدر قوّة على صعيد الإقليم يتجسّد بالمقاومة، ظهر الطرح كأنّه موجّه ضدّها ويريد تجريد لبنان من مصدر قوته المكتسبة بفعل جهد وعرق ودم.
ويظهر الخبث السياسي، عندما يتمّ تصوير المقاومة بأنّها دولة داخل الدولة، بينما المطلوب أن ترتقي أجهزة الدولة إلى مستوى أخلاقيات وسلوكيات المقاومة في خدمة لبنان. تمايز المقاومة عن الدولة، مرتبطٌ بطبيعة الكيان الذي أسّس منذ نشأته دويلات ضمن الدولة، فهل يعلم البطريرك أنّ المدارس المجانية في لبنان تشكّل دولة داخل الدولة؟ وكذلك وسائل الإعلام جميعها، وحاكم مصرف لبنان والإدارات التي تتحكّم بحياة المواطنين، كلّها تشكّل دولة داخل الدولة، بفعل النظام القائم، والذي يرفض البطريرك تغييره، لا بل تطويره. نريد أن نبني دولة بحجم قوة المقاومة، لا أن نهبط بالمقاومة إلى مستوى دويلات الجمهورية التاجرة.
مجد لبنان أعطِي له، هذا اللبنان هو أرض وشعب، والمجد هو مجد الأرض والشعب، رأيناه في تجربة المقاومة، ولا نريد التخلّي عنها بل نتطلّع إلى جعلها ضمن بنية الدولة، ورفدها بعناصر قوة إضافية. والمتوقّع أن يقدّم البطريرك طروحات تناسب هذا المجد، فيقترب أكثر من المقاومة ويبحث عن عناصر قوة لبنان الحديث، ليدفع بعد مئة عام، نحو التأسيس الثاني للبنان ضمن معطيات الواقع والمتغيّرات التي حصلت، وليس تلك المتصوَّرة.

*أستاذ جامعي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا