حتى انعقاد القمّة العربيّة في الكويت كان البحر الميّت يشتهر بكونه (أوطئ ـ «أسفل») نقطة على سطح الكرة الأرضية، ولكن بعد انتهاء القمّة تبينّ أنّ النظام الرسميّ العربيّ والزعماء، الذين هرولوا إلى الاجتماع الـ25 لجامعة الدول العربيّة، يستحّقون وبجدارةٍ كبيرةٍ التفوّق على البحر الميّت. فقمّة الكويت للحكّام العرب عبّرت عن حالة الانحطاط السياسيّ الرسميّ العربيّ، وشرّعت استمرار العدوان على سوريّة وفلسطين.
علاوة على ذلك، من الأهميّة بمكان، التشديد على أنّ لاءات الخرطوم، التي اتخذتها القمّة العربيّة، بعد نكسة عام 1967: لا صلح، لا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل، لم يتبقّ منها أيّ شيء، اللهم سوى الخرطوم، ولا نسوق هذا الكلام لأنّ سقف توقعاتنا من هذه القمّة كان عالياً، بلْ بالعكس، كلّ ما جرى في هذا الاجتماع هو مسرحيّة هزليّة أوْ على النقيض تراجيديّة، جسّدها الممثل الأوّل، أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، الذي جلس في مقعده، رافعاً رجله، متجاهلاً أنّ هذا التصرّف ليس لائقاً بحقّ نفسه وبحقّ الزعماء، وبحقّ أمّة الناطقين بالضاد. ومتناسياً أنّ هذه الجلسة تتناقض جوهرياً مع البروتوكول، ولكن بما أنّ المسخرة كانت وما زالت وستبقى سيّدة الموقف في اجتماعات الأعراب، فإنّ الأمر يبدو طبيعياً جداً. ولعلّ دلالة هذا السلوك رباعية، بمعنى أنّ الفتى لا يزال مراهقاً سياسياً من جهة، وأنّه يُدرك من جهةٍ ثانيةٍ بأنّه ليس أمام زعماء حقيقيين بعد غياب الأسد والقذافي، ومن جهة ثالثة، لا شك أنّه من خلال علاقته بالكيان الصهيونيّ تلقّى نصائح بأنّ الحكّام العرب لا يستحقون الاحترام، ومن جهةٍ رابعةٍ، عبّر سلوكه عن انفعال فتىً نتيجة أزمة العلاقة مع أنظمة بقية الخليج... ففعل ما فعل. علاوة على ذلك، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ قطر «تستضيف» أكبر قاعدة عسكريّة أميركيّة في الشرق الأوسط، قاعدة «العديد»، نسأل بسذاجةٍ: هل كان هذا الأمير يجرؤ على الجلوس بهذه الطريقة المُخزية في اجتماع مع أيّ مسؤول غربيّ من الدرجة العاشرة؟ الجواب بطبيعة الحال لا، لأنّ التبعيّة المُطلقة للغرب، تُحتّم على هذه الأصناف التأقلم مع الكميّات الهائلة من الشعور بالنقص تجاه الأجنبيّ، أوْ لنَقُلها بصراحة: السيّد، أوْ بكلماتٍ أكثر شفافيّةً: أسياد وعبيد. ولعله من سخرية الحالة الرسميّة العربيّة الموغلة في الخراب أنْ تدعو مشيخة قطر الفلسطينيين ليستظلوا بخيمتها تحت عنوان المصالحة الفلسطينية وبرعاية قواعد الحماية الأميركيّة، ونحن نرى أنّ هذه الدعوة ليست أكثر ولا أقّل من دعوة جلب لبيت الطاعة الأميركيّة الصهيونيّة.

■ ■ ■


منذ أنْ كشفت غالبية الأنظمة العربيّة عن حقيقة وجهها ومرجعياتها السياسيّة المأمورة بالقرار الأميركيّ، ومع اصطفاف عدد من تلك الأنظمة إلى جانب العدوان الصهيونيّ الأميركي ضدّ سورية، لم يعد ثمة ما يُدهش في قرارات القمم العربية التي قامت بتقزيم كلّ ما يمتّ للقضايا والحقوق العربية.
وهذا ما جسدّته قمة الكويت حيث برز هذا الانحطاط السياسيّ في استمرار إعلان الحرب ضد سورية وتبرير استمرار العدوان عليها عبر طرق مختلفة، وبالتالي فإنّنا نرى أنّ استهداف سورية والتآمر عليها كان المدخل الكبير للنيل من القضيّة الفلسطينيّة ومحاولات تصفيتها وتفكيكها. وشكّل البيان الصادر عن القمّة، والذي جاء فيه تعهد الزعماء العرب العمل من أجل إنهاء الخلافات بينهم، ليؤكّد المؤكّد، وليُرسي مرّة أخرى المقولة إنّ العرب اتفقوا على ألا يتفقوا. وغنيُ عن القول إنّ فضية العرب المركزيّة، طبعاً بالكلام فقط، لم تتمكّن منذ 65 عاماً من توحيد العرب، فيما استطاعت سوريّة، التي تخوض حرباً كونيّة ضدّها، توحيدهم ضدّها، فالعار بات ماركةً مسجلّة لدى الزعماء العرب، الذين قرروا طرد سوريّة من الجامعة العربيّة، على رغم كونها عضواً مؤسساً للجامعة، ومنحوا مقعدها الشاغر لمجموعة من المتسلقين، تُطلق على نفسها اسم معارضة، وهي مرتبطة بأجندات الرجعيّة العربيّة والإمبرياليّة والصهيونيّة. وفي هذه العُجالة لا بدّ من التذكير بأنّ عضو ما يُسّمى بالائتلاف الوطنيّ المُعارض، كمال اللبواني، اقترح قبل أيام عدة منح هضبة الجولان العربيّة السوريّة المحتلّة للدولة العبريّة، مقابل الحصول على مساعدات من الدولة التي اغتصبت فلسطين، لإسقاط النظام الحاكم في دمشق. ولا نُبالغ إذا قلنا إنّ هذا «المُعارض»، الذي يُفرّط بتراب وطنه وبلاده، هو أقّل ما يُمكن وصفه بالعميل الخائن وتذكيره بمقولة النازيّ هتلر، الذي قال عندما سُئل عن أكثر الناس احتقاراً: أولئك الذين ساعدوني على احتلال بلادهم. وأكاد أجزم أنّ هؤلاء ربمّا لا يفهمون ما يكتبه موظفوهم. فكيف ينادون بحق سوريّة في تحرير الجولان وممثل الائتلاف يُصرّح بأنّه على استعدادٍ لمنح الجولان لإسرائيل!

■ ■ ■


قراءة البيان الختاميّ للقمّة يُظهر حالة الانحطاط التي وصل إليها النظام الرسميّ العربيّ، كذلك يُبرز حجم التناقضات التي يحويها، فقد جاء في البيان: نُعلن عزمنا على إرساء أفضل العلاقات بين دولنا الشقيقة عبر تقريب وجهات النظر وجسر الهوة بين الآراء المتباينة، والتأكيد أنّ العلاقات العربيّة ـ العربيّة قائمة في جوهرها وأساسها على قاعدة التضامن العربيّ بوصفه السبيل الأمثل والطريق الأقوم لتحقيق مصالح الشعوب والدول العربيّة.
لاءات الخرطوم
لم يتبقَّ منها أيّ شيء... سوى الخرطوم
وتابع: نتعهد العمل بعزم لوضع حد نهائيّ للانقسام عبر الحوار المثمر والبنّاء وإنهاء مظاهر الخلاف كافة، عبر المصالحة والشفافيّة في القول والفعل. علاوة على ذلك، دان البيان ما نعتها بمجازر النظام السوريّ بحق المدنيين، وأكدّ دعم الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة ممثلة شرعيّة للشعب السوريّ، وأكدّ الإعلان الدعوة مجددًا إلى حل سياسيّ للنزاع السوري على أساس بيان مؤتمر «جنيف 1». وأشار الإعلان إلى أنّ القادة العرب يُطالبون النظام السوريّ بالوقف الفوريّ لجميع الأعمال العسكريّة ضد المواطنين السوريين ووضع حدٍ نهائيّ لسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ودان القادة العرب بأقسى العبارات المجازر والقتل الجماعيّ الذي ترتكبه قوات النظام السوريّ ضدّ الشعب الأعزل. المُلاحظ أنّ البيان الختاميّ لم يُشِر لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ إلى عشرات آلاف «الأشقّاء» العرب، الذين تمّ إرسالهم من قبل عددٍ من الدول العربيّة لتدمير بلاد الشام، والقيام بأعمال إرهابيّة، بما في ذلك أكل قلوب وأكباد عناصر من الجيش العربيّ السوريّ، بعد قتلهم بأبشع الطرق وأحقرها وأسفلها. وبما أنّ القادة العرب دانوا النظام السوريّ بهذه العبارات القاسيّة، لماذا لا تتوجّهون إلى محكمة الجنايات الدوليّة في لاهاي لمقاضاة الحكومة السوريّة، هل نسيتم المثل القائل: إذا لم تستح، فافعل ما شئت!وإنّنا نتساءل: لماذا لم يتم التطرّق في القمّة إلى ما يجري في البحرين؟ هل لأنّ كبح الحريّات وسجن المعارضين وقتل المتظاهرين بات مسموحًا، لأنّ الملك البحرينيّ دخل التاريخ من أوسع أبوابه، عندما نام أميراً واستيقظ ملكاً؟

■ ■ ■


من حقّنا الأخلاقيّ ومن واجبنا الوطنيّ أنْ نسأل: كيف يُمكن حلّ النزاعات العربيّة، في ظلّ هذا الهجوم الشرس على سوريّة. علاوة على ذلك، بماذا يختلف الموقف العربيّ، كما جاء في البيان الختاميّ عن موقف أميركا وربيبتها - حبيبتها، إسرائيل، من الأزمة السوريّة. وهذا أكبر دليل وإثبات على أنّ القيادات العربيّة، تأتمر بأمر كلٍّ من واشنطن وتل أبيب، اللتين تسعيان عبر أدواتهما في المنطقة إلى تفتيت وتمزيق بلاد الشام، وتحويلها إلى دويلات، إثنيّة وعرقيّة وطائفيّة وحتى مذهبيّة، للاستفراد بقيادة سلطة أوسلو-ستان، وإجبارها على تقديم التنازلات لدولة الاحتلال، وكأنّ التنازلات التي قدّمتها حتى اليوم غيرُ كافيةٍ للإخطبوط الصهيونيّ، الذي يسعى للإجهاز على ما تبقّى من فلسطين، وعلى رغم أنّ البيان الختاميّ للقمّة أعلن الرفض القاطع والمطلق للاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، إلا أنّه في المقابل دعا مجلس الأمن إلى تحمل مسؤولياته لحل الصراع الإسرائيليّ ـ الفلسطينيّ على أساس حل الدولتين بحدود 1967. بكلماتٍ أخرى: العرب أسقطوا مرّة أخرى حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وقد نصّ قرار مجلس الأمن الدوليّ، الذي يحمل الرقم 191، هذا الحق الذي لا يسقط بالتقادم، ولا يحّق لكائنٍ مَنْ كان على وجه هذه البسيطة أنْ يتنازل عنه، لأنّه باعتقادنا المتواضع جداً، العودة أهّم من الدولة، أوْ بالأحرى أهّم بكثير من دويلة الباستونات، مقطّعة الأوصال، منزوعة السلاح ومزروعة بالمستوطنات، التي تعمل واشنطن وتل أبيب على ترسيمها.

■ ■ ■



وبعد الاطلاع على البيان نصل إلى نتيجة بأنّ القادة العرب تناسوا مع سبق الإصرار والترّصد الخطة التي طرحها رئيس الدبلوماسيّة الإسرائيليّة، الفاشيّ أفيغدور ليبرمان، مع بدء أعمال القمّة، والقاضية بترحيل الفلسطينيين من المثلث ووادي عارة إلى الدولة الفلسطينيّة «العتيدة». السؤال: لماذا لم يتطرّق البيان الختاميّ لهذه الخطّة التي تُعيد إلى الأذهان النكبة الفلسطينيّة عام 1948؟ هل وافق الأعراب على هذا المخطط الخبيث؟ ونُنهي بالقول: ليس من الضروريّ أنْ تُصاحب أكبر عدد من الأصدقاء لتثبت شخصيتك، فالأسد يمشي وحيداً، أمّا الخروف فيمشي مع القطيع، وهذا ينسحب على سوريّة، ومع مثل هذه الأنظمة العربيّة المتواطئة والمتخاذلة، صدّقوني، ازدادت شهوة إسرائيل للقضاء على بلاد الشام. ولعلّ ما لا يمكن تناسيه أنّ جامعة الدول العربيّة بقيت على التفويض الذي أقامتها بريطانيا من اجله، وهو تقويض الواقع العربيّ وخيانة الوحدة العربيّة واستبدال الوطن بالمناصب، وهو أمرٌ كان من حظ سوريّة الخروج عليه، فما تريده الولايات المتحدّة وإسرائيل هو إسقاط الدولة السورية، ولذا حافظت هذه الأنظمة على الوتيرة نفسها.
* كاتب فلسطيني