تطرح قضيّة جاد غصن العديدَ من الأسئلة عن وضع الإعلام العربي، وهي أثارت الكثير من الجدل والسجال والردود على مواقع التواصل. ما فجَّر القضيّة كان مجرّد إعلان جاد عزمه الانتقال إلى محطة «الشرق»، التابعة للنظام السعودي (والمحطة لها عقد شراكة مع «بلومبرغ»، لكن هذا تفصيل هامشي كما سيرد أدناه). وجاد صحافي رصين ومهني ومتواضع ويظهر لنا منه أنه يحترم نفسه وجمهوره ومهنته، وهذه نادرة في الإعلام اللبناني. كما أنه تجنّبَ الاستعراض في مهنة تعجّ بالاستعراضيّين والاستعراضيّات. وتستطيع في لبنان أن تحكم على نزاهة الصحافي من خلال تغطيته لأن المشاهد يُدرك، عندما يُسايِر الإعلامي ضيفاً ما أو نظاماً ما أو حزباً ما أو فساداً ما. وكان جاد مستقلاً سياسيّاً عبر السنوات مع التزامه بثوابت معيّنة منها الدفاع عن سلاح المقاومة ضد إسرائيل. والانتفاضة التي اندلعت في آخر العام الماضي عرّفت الناس على جاد أكثر لأنه تولّى بمهارة ودراية شرح القضايا الاقتصاديّة بأسلوب مبسّط يصل إلى الجمهور العادي. وفي الوقت الذي كان فيه بعض الإعلاميّين البارزين يذرفون الدموع مدرارة على زجاج المصارف (وبعضهم تنطّح حتى لحثّ الناس على وضع أموالهم من جديد في المصارف)، كان جاد ناقداً للطبقة الحاكمة بما فيها المصارف والمصرف المركزي. أي أن فساد الإعلام بادٍ للعيان: عندما يحثّ إعلامي لبناني ما الجمهور على تويتر لوضع أموالهم (ما تبقّى منها أو ما ورد منها) في المصارف الناهبة لأموالهم، فهو يُعلن بصراحة متناهية انحيازه الفاسد للمصارف ضد الناس. وهو مسؤول بالتالي عن النهب الثاني لمال الناس لو حصل. هذا السقوط الأخلاقي والمهني غير نادر في لبنان، كما ذكر جاد في إطلالته الأحد الماضي على «الجديد». هو تحدّث عن إعلاميّين تابعين لسليم صفير، والناس يعرفونهم حتى من نبرة تغطيتهم.
عمل لفنان الـ «ستريت آرت» الايطالي Nemo’s

وقد تريث جاد لأسابيع كي ينتظر معرفة مصير عقده مع محطة النظام السعودي، قبل أن يردَّ على الحملات الهوجاء والشنيعة التي تعرَّضَ لها مِن قبل أجهزة النظام السعودي. هل يعني هذا أن جاد كان قد سكتَ على ما تعرّضت له كرامته من إهانات، لو أن العقد مع المحطة استمرَّ؟ هذه مسألة تخصّه طبعاً، لكن القضيّة تحوّلت إلى قضيّة عامّة بمجرّد أن انطلقت على مواقع التواصل، وبعد أن تحدّث جاد عنها على التلفزيون. (ماذا كانت ستكون ردود الفعل لو أن النظام الإيراني شنَّ حملة علنيّة ضد صحافي لبناني، ولو أن الحملة تضمّنت إهانات وشتائم ضد الشعب اللبناني؟ هل كان مجلس الأمن قد انعقد؟).
إن العمل في محطات الأنظمة الخليجيّة مشروطٌ بجملة من الالتزامات، ومستوى من الطاعة، يتناقض مع الحدّ الأدنى من المهنيّة في الصحافة. هذا إعلام يتطلّب طاعة من الضيوف، فما بالك بالعاملين فيه. أنا في عام 2004، كنتُ مدعوّاً من قِبل ضياء العزّاوي (في برنامجه «بانوراما») للظهور على «تلفزيون أبوظبي» من دبي (أو أبوظبي، لا أذكر). وأرسلَت لي المحطة تذكرة سفر من سان فرنسيسكو (درجة رجال/ نساء أعمال) وطلبت صورة عن جواز سفري. لكن في اليوم الذي كنتُ سأستقلّ فيه الطائرة وصلني «إيميل» وجيز يرِد فيه أن دعوتي أُلغيت (أي أن حكومة الإمارات ارتأت بناء على تقصّيات أنه غير مرغوب فيّ لا كزائر إلى الدولة، ولا كضيف حتى عبر الأقمار الاصطناعية). هذه التجربة البسيطة تعطي فكرة عن دور هذا الإعلام.
وفي لبنان هناك ثقافة التستّر والتغطية على فساد الإعلام العربي. يستطيع إعلامي لبناني مثلاً أن يتلقّى رشاوى من ضيوفه الأثرياء، ثم ينتقل للعمل في محطة خليجيّة، وأن يتلقى التهاني عند إعلان انتقاله تدليلاً على فوز المهنة بمواهبه. أو أن يكتب صحافي لبناني في موقع «الحرّة» (وهي محطة البروباغندا الأميركيّة الرسميّة وهي ممنوعة من البثّ في أميركا إلى درجة أن روابط لتقارير «الحرّة» على «يوتيوب» باتت ممهورة من إدارة «يوتيوب» بتحذير للجمهور الأميركيّ، من أن المحطة هذه هي محطة دعاية حكوميّة رسميّة ومموّلة من الحكومة)، بعد سنوات طويلة من عمله في إعلام النظام السعودي، أن الإعلام السعودي غير مهنيّ ومنحاز (لم نكن نعلم ذلك، شكراً لإبلاغنا)، وأنه اكتشف بعد التجربة أن الإعلام العربي المُموَّل أوروبيّاً هو وحده المستقلّ (إضافة إلى محطة «الحرّة»، طبعاً).
والإعلاميّون الفنيّون في محطات الخليج لا يقلّون حماسة في التغريد بمشيئة الأمير، عن إعلاميّي السياسة، وهو ما يعزّز فكرة أن العمل في محطات الإعلام الخليجي يتطلّب من اللبناني احتقاراً ليس للذات فقط، بل لكلّ المعايير المهنيّة. طبعاً، هناك إعلاميّون عرب عملوا في الإعلام الخليجي، وبذلوا قصارى جهودهم للحفاظ على حدّ معيّن من الاستقلاليّة، لكن هذا لم يعد مقبولاً بعد 11 أيلول. كما أن عهد محمد بن سلمان خفّض من المعايير المتدنيّة لأنه لا يريد إعلاماً بل يريد أجهزة بروباغندا محض. واللبناني (خصوصاً الشيعي) الذي يعمل في إعلام الخليج، مُطالب بطاعة وذلّ وخنوع أكثر من أي شخص آخر، لأنه مشكوك في ولاءاته. ولهذا هو يتطرّف في الطاعة والولاء وإذلال الذات، ويعتنق هويّة الأسرة الحاكمة بتطرّف لا تجاريه فيه حتّى الأبواق المتمرّسة في خدمة النظام.
يقول جاد غصن إنه اختار العمل في القسم الاقتصادي لمحطة «الشرق» لأنها على شراكة مع «بلومبرغ»، ولأنه أراد الابتعاد عن مواضيع البروباغندا السياسيّة. لكن هل يمكن الفصل بين قسم البروباغندا السياسيّة وقسمها الاقتصادي؟ خصوصاً أن جاد حدّدَ المواضيع التي قال إنه سيتخصّص فيها، وهي: أسعار النفط وتأثيرها على «أرامكو»، والحرب التجاريّة بين الصين وأميركا، واقتصاد ما بعد كورونا. ألم يلاحظ جاد أن في تعداده لهذه المواضيع الكثير من السياسة؟ هو تعاطى مع الوضع اللبناني في «الجديد» من منظور الاقتصاد السياسي، لكنه يوحي كأن الاقتصاد في المحطة ـــ التابعة للنظام ـــ منفصل، أو يمكن أن ينفصل، عن السياسة. لكن هذه المواضيع من منظور مهني محض ناقصة للغاية. هل يمكن تغطية الاقتصاد، مهنيّاً، من دون الحديث عن سوء توزيع الثروة في هذه الدول؟ وعن الإنفاق الهائل على شراء السلاح الأميركي وأسبابه السياسيّة؟ وعن النفوذ الأميركي على القرارات السعوديّة السياديّة (نظريّاً) في الإنتاج النفطي وفي أسعاره؟ إن تحديد المواضيع أو حصرها بالعناوين التي ظنّ أنه بها ينجو من بروباغندا المحطة، هو سياسة أيضاً، ويخدم بروباغندا النظام الذي يريد أن يتعامل مع مواضيع الاقتصاد الأهم على أنها غير موجودة. وإعلام النفط والغاز (من «الجزيرة» إلى كل محطات النظام السعودي والإماراتي) يريد من مواضيع الاقتصاد أن تكون آمنة سياسيّاً، ولا تشكّل خطراً على مصالح النظام.
لا أريد أن أعلّق على قرارات شخصيّة لجاد أو لغيره، لكن محاولته إقناع نفسه (أو إقناعنا) بأن التغطية الاقتصادية أو الفنيّة في هذه المحطات لا تخضع لمعايير السياسة، أو البروباغندا الصفيقة، كانت فاشلة، لعلم أيّ مشاهد عربي بطبيعة إعلام آل سعود. هل راقب مواقع التواصل ليرى كيف أن الصحافيّين الفنيّين والرياضيّين في محطات هذه الأنظمة، لا يقلّون صفاقة وفجاجةً في الدعاية السياسيّة عن البث السياسي الصريح؟ ثم كيف يمكن لصحافي عليم مثلك، يا جاد، أن يفترض أن هناك، في وسائل إعلام النظام السعودي، إمكانيّة للفصل بين قطاعات في الإعلام؟ أنتَ قلتَ مثلاً إنك عرضتَ أن تدرس موضوع أثر كورونا على الاقتصاد، لأنك أردتَ أن تبتعد عن الصراعات الخليجيّة. وهل يمكن أن يسمحوا لك أن تبتعد، يا جاد؟ ألا تتابع صحافة النظام؟ خُذ جريدة «الشرق الأوسط» في تغطية كورونا: كل يوم فيها أخبار وعناوين إيجابيّة (مضحكة، أو حزينة) عن الوضع في السعوديّة (حتى عندما كانت الأرقام في ارتفاع مخيف)، في مقابل أخبار رهيبة (وشماتة) عن فتك كورونا بالشعب الإيراني، وبكل دولة لا تسير في محور آل سعود. والراتب المرتفع ـــ مع الامتيازات في هذه المحطات ـــ هو من أجل ضمان الطاعة الكليّة والإذعان المطلق. وهل هذه الإهانات التي ترِد دوريّاً في وسائل التواصل الاجتماعي السعودي ضدّ علي جابر أو غيره من اللبنانيين يمكن أن يتحمّلها شخص لم يخضع للتدجين على مدى عقود؟
اعترف جاد بتسع تغريدات ضد «أخطاء» النظام السعودي. الخطأ أن أكتب الهمزة في غير مكانها الصحيح، أما قطع الرؤوس في الساحات العامّة...


إن دور اللبناني في جهاز الدعاية السعودي بات معروفاً، مهما بلغ هذا اللبناني من مرتبة وظيفيّة. كيف ننسى ذلك اليوم من أيّار 2017، عندما أشعل النظام السعوي والإماراتي الأزمة مع قطر، بعد منتصف الليل: أيقظت يومها محطة «العربيّة» رضوان السيّد وغسان شربل من نومهما، للتعليق على أخبار منشورة على موقع وكالة الأنباء القطريّة (وأظهر تحقيق لـ«مكتب التحقيق الفدرالي» الأميركي أن الخبر على موقع الوكالة كان نتيجة عملَي قرصنة واختراق قامت بهما أجهزة النظام الإماراتي... مع العلم أن الإعلام الصهيوني المتحالف مع السعودية، حاول إلصاق الـ«هاكنغ» بإيران وروسيا في البداية)، (مع الملاحظة أن الصراع القطري ـــ الخليجي لا يعنيني في شيء، والطرفان يتسابقان لإسعاد أميركا وإسرائيل). ظهر السيّد وشربل منكوشَي الشعر بعد منتصف الليل لأن واجبهما اقتضى منهما أن يجترّا على الهواء مباشرةً ما تمَ تلقينهما به (وكان واضحاً أن الاثنَين لم يكونا يعلمان تفاصيل الموضوع). وضيفا «العربية» تلك الليلة، يُعدَّان من نخبة اللبنانيّين العاملين في الإعلام الخليجي وأجهزة دعايته. ماذا كنتَ تتوقّع، يا جاد؟
وذكرَ جاد غصن في معرض حديثه التلفزيوني، أن الراتب المُرتفع الذي كان قد عُرض عليه، أي 10000 دولار أميركي، وهو أعلى من راتب أستاذ جامعة هنا في كاليفورنيا (حيث مستوى المعيشة أغلى من معظم الولايات)، وهو أكثر من ثلاثة أضعاف رواتب المراسلين التلفزيونيّين غير المبتدئين في لبنان. وهناك امتيازات أخرى في دبي، من سكن وسيارة وإجازة مدفوعة، إلخ. إن الأنظمة تفرض طاعة تامّة مقابل هذا الراتب، وهذا المردود المالي آسر. هو يعوّد على نمط حياة يصعب الخروج منه، فيصبح المرء أسير عقد عمل (بالمعنى المجازي والحرفي) وإن أيقن أنه يعارض قناعاته، وواجبات المهنة.
وأقنعَ جاد غصن نفسه أن الأمر سيكون مختلفاً في حالته لأن شركة «بلومبرغ» مرتبطة بعقد مع محطة «الشرق». وكشفَ أنه ـــ مثل الكثيرين والكثيرات في لبنان ـــ يجهل طبيعة عمل الإعلام الغربي خصوصاً في شراكته مع أنظمة الخليج. خذوا جريدة «إندبندنت» البريطانيّة التي كانت عريقة ويساريّة في تغطيتها لمنطقتنا قبل سنوات طويلة. بعد العقد مع النظام السعودي، تغيّرت الجريدة الأم في بريطانيا (وأصبحت لا تشذّ عن إعلام أميركا الصهيوني)، كما أن النسخة العربيّة للجريدة لا تختلف البتّة عن صحف أمراء آل سعود وشيوخ آل نهيان الصفراء والفجّة في الدعاية. والجامعات الغربيّة التي تعمل في الخليج لا تعمل وفق المعايير التي تعمل بها هنا (وهي معايير ليست مثاليّة بالمناسبة)، بل وفق معايير مُدجّنة ومُخفّفة وخاضعة للسلطات الأمنيّة المحليّة. أعرف أستاذاً أميركيّاً طُرد من جامعة معروفة في الخليج، لأنه استضاف محاضرة لأكاديمي تحدّث عن الحريّات.
إن «سكاي نيوز» العربيّة (الإماراتيّة) لا تختلف عن إعلام عوني الكعكي، يا جاد. ولـ«بلومبرغ» نفسها وضع خاص. هل يجهل جاد أن هذه الشركة مملوكة من المليادير مايكل بلومبرغ، وأن إعلام أصحاب المليارات لا يختلف إلا بالدرجة؟ هذه شركة لا علاقة لها بالمهنة، وهي تخدم المصالح المالية لصاحبها، وتخدم تحالفاته وعلاقاته الماليّة. هذا ميقاتي وحريري أميركا: أنفق أكثر من مئة مليون دولار في آخر حملة لمنصب عمدة نيويورك، وأنفق نحو ٩٠٠ مليون دولار في حملته الرئاسيّة القصيرة.
اتّضح أن جاد كان جاهلاً بالشركة التي شعرَ أنها ستحميه مهنيّاً من ضغط البروباغندا السعوديّة، عندما قال إن «بلومبرغ» نشرت مقالات كثيرة في ذمّ النظام السعودي. لا، يا جاد، على العكس. «بلومبرغ» حمَت محمد بن سلمان في محنته، بعد تقطيع خاشقجي، وهي منبر مُحبّذ من وليّ العهد السعودي، لإعلان مواقفه للجمهور الغربي. الإعلام الغربي، يا جاد، ليس كما تكتب عنه جريدة «النهار»، وليس كما يُعلّم عنه أمثال يزبك وهبة وراجح خوري ومارسيل غانم في كليّات إعلام لبنان (يكفي أن تعلم أن هؤلاء يدرّسون في كليّات إعلام لبنان، كي تُصاب بالإحباط حول وضع الإعلام). هادلي غامبل، مثلاً، لا تعمل في وسيلة إعلاميّة عربيّة لكنها، فقط لأنها تقيم في دبيّ وتعمل في محطة «تساير» طغاة الخليج، فإن تقاريرها ومقابلاتها مع طغاة الخليج لا تختلف عن مقابلات مارسيل غانم أو عمرو أديب مع الطغاة والفاسدين. لكن غامبل، كانت جدّ شجاعة في مقابلتها مع جبران باسيل: لأن المقابلة تخدم سياق البروباغندا السعوديّة، وليس من ثمن تدفعه لو «شرشحتَ» جبران باسيل في الغرب.
بلومبرغ ليست حياديّة، يا جاد. هي عنصر عضوي في جهاز دعاية النظام السعودي، وهي التي روّجت أكثر من أي وسيلة إعلام غربيّة لـ«رؤية محمد بن سلمان». الإعلام الغربي خانع ومطيع لأنظمة الطغاة. لوكالة «رويترز» سمعة عطرة في أنحاء العالم، لكن اعلمْ هذه: قبل سنوات اختارت «رويترز» أندرو هامند مراسلاً لها في الرياض. لكن هامند ليس مثل طراز المراسلين الغربيّين الحاليّين في لبنان (يندر بينهم من يعرف العربيّة، والذي يعرفها مثل بن هبرد، لا يستعملها في كتابه عن محمد بن سلمان): هامند فصيح بالعربيّة والتركيّة (وهو اليوم أستاذ تاريخ عثماني في جامعة أكسفورد). اعترضت حكومة آل سعود على مقالات هامند العليمة، فما كان من وكالة «رويترز» إلا أن نقلته من الرياض إلى مصر، كي لا تُغضب الحكومة السعوديّة (أعرف القصة من هامند نفسه). إن إعلام الغرب ليس منزّهاً عن الفساد، وهو ضعيف مثل معظم إعلاميّي وإعلاميّات لبنان أمام طغاة النفط.
وكان جاد في حالة غضب مكتوم، وهذا حقّه. الحملة التي تعرّض لها (مثل كل الحملات التي تقودها أجهزة النظام السعودي ضد أي لبناني)، كانت حافلة بالبذاءات والسوقيّة والعنصريّة والإهانات ضد الشعب اللبناني (الجميل أن هناك في لبنان من يعترض على إهانات في القليل جداً من إعلام لبنان ضد آل سعود (أي في هذه الصحيفة فقط)، لكنه لا يعترض على الإهانات العنصريّة ضد الشعب اللبناني ورئيس لبنان من قِبل الإعلام الرسمي السعودي، وأجهزة المخابرات على مواقع التواصل. لكن جاد لم يردّ على أي من الحملات من أبواق النظام السعودي، بما فيها أمراء في آل سعود، واكتفى بالردّ على إعلاميّتَين لبنانيّتَين وأمين سرّ «تيار المستقبل». وردّ جاد على ماريا المعلوف (التي انتقلت من خط ممانع مبتذل إلى خط مضاد له، ومبتذل أيضاً) لم يكن لائقاً أبداً، ويتعارض مع الشخصيّة التي نعهدها فيك، يا جاد، على الطريقة الذكوريّة التقليديّة. ردّ جاد على المعلوف بالتلميح والإشارة إلى حياتها الشخصيّة. كان هذا موقفاً غريباً منه، خصوصاً أن وسائل التواصل تشهد تقيّؤاً يوميّاً من ذكور ضد إعلاميّات، والأسلوب المعتمد هو نفسه: التعيير السوقي بالحياة الشخصيّة أو الجنسيّة للمرأة. كان أفضل لو أن جاد ردَّ على النافذين السعوديّين لأنهم هم (وليس ماريا المعلوف) الذين سيّروا وأداروا الحملة ضدّك. وعن علي جابر (الذي كرّس كل عمله في «الإعلام» (أو البروباغندا لو توخيّنا الدقّة)، لخدمة الفاسد الأكبر، رفيق الحريري، ثم الطغاة في الخليج، قال جاد: «معتّر». ما هو المعتّر فيه، يا جاد؟ هذا تجسيد للفساد في الإعلام العربي. هذا رجل عملَ لسنوات في خدمة رفيق الحريري، وهو الآن يجول في أمسيات الرياض (بعد تقطيع خاشقجي الذي كان يقول عنه إنه صديقه) محاضراً عن «رؤية محمد بن سلمان الإعلاميّة»: أي أنه يحاضر عن رؤية الرجل الذي أمر باحتجاز وصفع وضرب وركل ابن الرجل الذي عمل في خدمة دعايته، والذي أطلقه في الإعلام العربي. هذه أمثلة تحتاج إلى درس وتمحيص. ماذا كنتَ تتوقّع، يا جاد؟
لديناً أزمة لم يسبق لها مثيل في الإعلام العربي. بسقوط العراق، سقط آخر بديل إعلامي لسطوة إعلام الخليج (لا أفرّق هنا بين إعلام النظام القطري والسعودي والإماراتي لأنهم يلتقون حول الإيمان بالهيمنة الأميركيّة والتطبيع (الدبلوماسي أو السرّي) مع إسرائيل، وعلى نبذ التمثيل الديموقراطي، في بلادهم وفي كل البلاد العربيّة التي ينجحون في إفساد انتخاباتها بأموالهم. ماذا يفعل الصحافي الناشئ اليوم؟ أين يذهب؟ كيف يعيش؟ أين يدرس أصول الإعلام، فيما أفسدُ الإعلاميّين يحاضرون في الكليّات؟ يكفي أن عميد «كليّة محمد بن راشد للإعلام» (الاسم وحده يحتاج إلى أطروحة)، يكتب مقالة عن إصابته بـ«عدوى محمد بن راشد»، ثم يقول إنه يؤيّد التطبيع الإماراتي لأن مستوى معيشته يحسده عليه أبناء وطنه. الخيارات مرّة، وإعلام الممانعة يعاني من مشاكل جمّة ومن حمّى بروباغنديّة أيضاً.
أما محاولة جورج صليبي وجاد المقارنة بين إعلام إيران وإعلام النظام السعودي، فلم تكن دقيقة. ليس هناك من يذهب من لبنان إلى إعلام إيران. ولو ذهب أي إعلامي سيُقابل بالتنديد والتشنيع والسخرية. تتعامل ثقافة الإعلام في لبنان مع إعلام إيران على أنه مبتذل وفجّ، فيما تتعامل باحترام وتهاني مع إعلامَي آل سعود أو آل نهيان. السبب؟ السبب وحده في الراتب، فقط. لو كانت رواتب «سكاي نيوز» ومحطة «الشرق» و«العربيّة» مثل رواتب «المنار» أو «العالم»، لكان الناس على وسائل التواصل قد سخروا منها بالتساوي. لكن لا يسخرون بالتساوي لأن الراتب المرتفع يحظى بالاحترام، بصرف النظر إذا كانت الوظيفة الإعلاميّة تمتّ بصلة للإعلام (وهي لا تمتّ بصلة للإعلام). ونرى انتقالاً من معسكر الممانعة نحو معكسر الإعلام الخليجي أكثر بكثير مما نرى من انتقال بالاتجاه المعاكس: هل يمكن إعطاء تفسير غير مادّي للانتقال السهل؟
اعترف جاد بتسع تغريدات (فقط) ناقدة للنظام السعودي في عشر سنوات من العمل. تسع تغريدات ضد ما أسماه «أخطاء» للنظام. لعلّ جاد قصد بـ «الأخطاء» الجرائم ضد الإنسانيّة في اليمن وفي كل بلد يعبث آل سعود بأمنه وسلامته. قطع الرؤوس في الساحات العامّة ليس خطأً، الخطأ أن أكتب الهمزة في غير مكانها الصحيح. هناك مراقبة ذاتيّة صارمة من الشباب اللبناني ضد أي نقد لآل سعود أو آل نهيان. وما حدث لجاد سيزيد من صرامة هذه الرقابة الذاتية. أليس نافراً أن الشباب اللبناني الـ«كول» الذي يسخر من كل شيء، يقف متهيّباً إزاء النظام السعودي والإماراتي والقطري؟
أتمنّى لجاد غصن التوفيق في العمل الإعلامي. ولا أتمنّى له التوفيق براتب عشرة آلاف دولار، لعلمه وعلمي أن هذا الراتب يأتي مشروطاً بما يخلّ بالمهنة، وما يسيء إلى شخص الإنسان. أتمنى له أن يحافظ على معاييره المهنيّة والشخصية وإن براتب أقل، وإن ليس في دبي.
* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا