«من أحبّ الحق وغار عليه فهو مع حبّه لا مع الحقّ؛ العارف لا يغير على الحق، بل يُعشّقه إلى عباده ويُحبّبه إليهم»
محيي الدين العربي
تمهيد حيثيات الواقعة


على مدى عقدين من الزمان تقريباً، كانت مسألة اختفاء منصور الكيخيا، المثقّف والحقوقي والدبلوماسي الليبي السابق، من القاهرة (عام 1993)، حيث كان نزيلاً في فندق «السفير» في الدقي، حدثاً مهماً انشغلت فيه العديد من المنظّمات الدولية، إضافة إلى جهات ودول مختلفة. وكان الكيخيا قد اختفى، بعد أربعة أيام من مشاركته في مؤتمر للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، التي انتُخب عضواً في مجلس أمنائها. وقد شارك كاتب السطور في المؤتمر، على رأس وفد من المنظمة في لندن.
لم تُفلح جميع الجهود لإجلاء مصير الكيخيا ومعرفة تفاصيل اختفائه القسري، قبل نجاح ثورة 17 شباط / فبراير 2011، التي اندلعت شرارتها الأولى من بنغازي، فلاح خيط أمل، ولا سيّما بعد تصريحات واعترافات مدير المخابرات الأسبق عبدالله السنوسي، بشأن خفايا اختطافه من القاهرة ونقله إلى طرابلس. وتقول الرواية إنّه تمّ تخديره في منزل إبراهيم البشاري ممثّل ليبيا لدى جامعة الدول العربية، الذي توفي لاحقاً في ظروف غامضة، ونُقِل إلى طرابلس بسيارة دبلوماسية، وبقي محبوساً في فيلا لنحو 4 سنوات، حتى توفي في عام 1997، حين كان يعاني من مرضَي السكري وضغط الدم، وجاوز عمره الستين عاماً، وفي ظروف اعتقال قاسية خضع فيها لتحقيقات مستمرة.

البحث عن موسى الصدر
كان وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور قد وصل إلى طرابلس، ليبحث عن أي أثر أو نقطة توصله إلى معرفة مصير السيد موسى الصدر، الذي اختفى قسرياً في طرابلس، عام 1978، وحاول أن يستدل على جثّة تمّ دفنها بُعيد انطلاق الثورة، قيل إنّ صاحبها مجهول، وهناك من قال إنّ ثمة جثة اكتُشفت في ثلاجة، تمّ دفنها في مكان قريب مع جثتين أخرَيَيْن، وحين أجري الفحص المختبري للحمض النووي، فلم يثبت أنّ الجثة تعود إلى السيد الصدر، وبعدما عرف محمود الكيخيا (شقيق منصور الكيخيا) وابنه رشيد بالأمر، بادرا إلى إجراء الفحوصات اللازمة التي أُرسلت إلى «معهد سراييفو للحمض النووي»، فتأكّدا أن الجثة تعود إلى منصور الكيخيا.

تكريم الكيخيا
قرّرت القيادة الليبية الجديدة، إقامة احتفال تكريمي مهيب لمنصور الكيخيا الذي اعتُبر شهيداً؛ ونُظّم هذا الاحتفال في قاعة المؤتمرات في العاصمة طرابلس، تحدّث فيه كلّ من رئيس الدولة حينها (رئيس المؤتمر الوطني الليبي) محمد المقريف، ورئيس الوزراء علي زيدان، ونائب رئيس المؤتمر جمعة عتيقة، وممثل الأمم المتحدة طارق المتري، ومحمد فايق وزير الإعلام المصري في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وعبد الحسين شعبان مؤسّس اللجنة العليا للدفاع عن منصور الكيخيا، التي ترأّسها الشاعر بلند الحيدري، وكان في عضويتها محمد المقريف (رئيس الدولة الليبية للمرحلة الانتقالية لاحقاً) والأديب خلدون الشمعة (سوريا) والباحثة د. غادة الكرمي (فلسطين) والشيوعية البارزة فاطمة أحمد إبراهيم (السودان) والفنانة الطليعية ناهدة الرماح (العراق). وحضر الاجتماع التأسيسي علي زيدان (رئيس الوزراء لاحقاً)، ورجل الأعمال البارز تميم عثمان (الذي تبرّع بنفقات فيلم بعنوان «اسمي بشر» من إخراج محمد مخلوف) والصحافي اللبناني مصطفى كركوتي، والمحامي الفلسطيني أمجد السلفيتي، والكاتب السعودي غالب العلوي، والناشطة العراقية سناء الجبوري، والصحافي والكاتب البحريني منصور الجمري، والناشطة المصرية بهجت الراهب، وآخرين. واستحضرت شهادات رئيس الوزراء اليمني محسن العيني، والدبلوماسي العراقي صلاح عمر العلي وزير الإعلام والثقافة الأسبق، وممثل العراق سابقاً في الأمم المتحدة، وهما زميلا الكيخيا في الأمم المتحدة.
وكانت نخبة من المحامين والحقوقيين والناشطين، بينهم كاتب السطور، قد أقاموا دعوة قضائية على السلطات المصرية حينها، بهدف إجلاء مصير الكيخيا، والكشف عن ملابسات اختفائه، وطلبوا استدعاء بعض من التقاهم الكيخيا للتحقيق معهم. وكانت السيدة بهاء العمري زوجة الكيخيا، قد عبّرت عن هواجسها عند مقابلتها الزعيم القذافي من وجوده، معبّرة عن مسؤولية الدولة في الكشف عنه، وكان جوابه أنه سوف لا يألو جهداً إلّا وسيبذله لإجلاء مصيره وهو ما نقلته شخصياً لكاتب السطور عند عودتها من طرابلس، في حين كان هو محتجزاً في قبوٍ لفيلا قريبة من مكان إقامة الرئيس القذافي، وهو ما ذكرتُه في كتابي الموسوم «الاختفاء القسري في القانون الدولي: الكيخيا نموذجاً»، وينشطر الكتاب إلى قسمين أحدهما باللغة العربية والآخر باللغة الإنكليزية.
ومن غرائب الدنيا، أنّ القذافي كان قد استقدم إحدى العرّافات لقراءة طالعه، وذلك عشية وفاة الكيخيا، فكشفت له أنّ دفن إحدى الشخصيات المهمّة سيصيبه بسوء، ولذلك لم يتم دفن الكيخيا وإنما استبقي في ثلاجة لمدة 14 عاماً، من عام 1997 ولغاية عام 2011.

سلطة الضوء
حين دعيتُ إلى المشاركة في احتفال تكريمي للكيخيا، بعد اكتشاف الحقيقة، ألقيت كلمة بتاريخ 2 كانون الأول / ديسمبر 2012، نشرتها الصحافة الليبية والأجنبية، جاء فيها: «ها نحن نلتقي اليوم في احتفال تكريمي مهيب في حضرة منصور الكيخيا وفي طرابلس، لنعلن أنه رحل شهيداً بعد التأكد من وجوده الفعلي بفضل نجاح ثورة 17 شباط / فبراير 2011، وبعد العثور على جثته وإجراء الفحص المختبري للحمض النووي». لعلّ سؤالاً ملحّاً ظلّ يراود أذهان الكثيرين كلّ سنوات اختفائه القسري التسع عشرة، ألا وهو: لماذا تستبدل الدولة مهمّاتها بمهمّات قاطع طريق، فتخطف تحت جنح الظلام مواطناً أعزلَ أو مثقفاً مسالماً، في حين أنها مدجّجة بالسلاح والمال والمخبرين والسجون. وعلى الرغم من معرفتها أنّ الشبهات تحوم حولها، بل تلاحقها إلّا أنّها كانت تراهن على الصمت وضعف الذاكرة والنسيان. ولعلّ أخشى ما كانت تخشاه هو حكمة الضوء التي تكشف المستور، وتظهر الحقيقة ساطعة، وتفضح أصحاب «الصناديق السوداء» وغلاظ القلوب، ومعهم الزيف المعتّق والخداع المزمن والسريّة المقيتة.
إنّ هدف هذا الاستذكار هو كشف الحقيقة، وإدانة المرتكبين ومساءلتهم وتعويض الضحايا وعوائلهم معنوياً وماديّاً ومجتمعيّاً وإنسانيّاً، وجبر الضرر، ووضع حدّ لهذه الجرائم كي لا تتكرّر، وذلك بإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية. إنّ الغاية من هذه الاستعادة الإنسانية، لا تستهدف الانتقام أو الثأر أو الكيدية أو التحريض، بقدر بحثها عن العدالة الغائبة أو المفقودة، وبلا أدنى شك الحوار حول أفضل السبل للعدالة المنتظرة والموعودة.
كان المشروع الفكري التنويري لمنصور الكيخيا، يقوم على العقلانية والديمقراطية والمدنية كثلاثية لا انفصال بينها، لإنجاز التغيير المنشود ولتفكيك بُنية الاستبداد، وخصوصاً باعتماد وسائل سلمية وحضارية، وبممارسة مختلف الضغوط المشروعة لفتح ثغرة في جدار التسلّط والاستئثار والفردية.
إنّ هدف هذا الاستذكار هو كشف الحقيقة وإدانة المرتكبين ومساءلتهم وتعويض الضحايا وعوائلهم وجبر الضرر ووضع حدّ لهذه الجرائم كي لا تتكرّر


وأعتقد بأنّ القذافي كان يدرك جدية وفاعلية مثل هذا التوجّه اللّاعنفي الإنساني والحقوقي، ولا سيّما التعبير عن الرأي، وكان يخاف من اتساع دائرة الضوء لأنّه حريص على إخفاء الحقيقة، أو تشويهها مثلما هو حريص على الصمت والنسيان. ولهذه الأسباب أيضاً، استهدف شخصياً ورمزياً منصور الكيخيا، لأنّه شعر بخطورة دور المثقّفين والحقوقيين الليبيين، مثلما استهدف المثقفين والحقوقيين العرب، وخصوصاً أن منصور الكيخيا عضو مؤسِّس وفاعل في المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وممثّل اتحاد الحقوقيين العرب في الأمم المتحدة في جنيف (ونيويورك)، وله دور مهم في اتحاد المحامين العرب.
كان منصور الكيخيا المثقّف والحقوقي، أكثر من يعرف قسوة النظام السابق، ولكن لم يعدم وسيلةً إلّا واستخدمها لثنيه عن توجهه بما فيها الحوار معه، مع علمه المسبق بوعورة الطريق والعقبات التي تعترضه، وخصوصاً أنّ النظام يرفض أيّ مساحة للاعتراض، أو أية حواشٍ للاختلاف، أو أيّه مسافة للتمايز، حيث كان شعاره الذي لا يتهاون فيه «من تحزّب خان». ولكن منصور الكيخيا كرجل حوار وسلام، وكمثقّف لا عنفي وصاحب مشروع تنويري للتغيير الديمقراطي، لا بدّ أن يواصل جهوده السلمية المدنية الحضارية باتجاه التحوّل والتغيير، منطلِقاً من ثقته بنفسه وبمشروعه ودوره الريادي.
رحل منصور الكيخيا منتصراً على جلّاده الذي ظلّ يخاف من اسمه، وهو يتردّد في المحافل والأروقة الدولية كرمز لحقوق الإنسان ولجميع المختفين قسرياً في ليبيا والعالم أجمع. وإذا كان اسم الكيخيا يرتفع، اليوم، عالياً في سماء ليبيا مثل نجمة فضية مشعّة وهادية، فإنّ اسم خاطفيه الذين حاولوا إخفاء كلّ أثر له لا يُذكر إلا وهم مجلّلون بالعار والشنار والاشمئزاز والازدراء، وتلكم هي حكمة الضوء وشهادة التاريخ. لعلّ فضل منصور الكيخيا استمرّ حتى بعد رحيله، فقد منحنا اليوم هذا الشرف لنجتمع في رحابه ونودعه إلى مثواه الأخير بكل الحب والاعتزاز والعرفان بالجميل، ولنمجّد مجدداً حكمة الضوء وسلطة الحقيقة المنوّرة.
لا نقول وداعاً لمنصور الكيخيا، بل نقول له اشتياقاً
يوم الشهيد تحيةٌ وسلام
بكَ والنضالُ تؤرّخ الأعوام
مرّة أخرى منصور الكيخيا اشتياقاً...
منصور الكيخيا... سلاماً!
طرابلس(ليبيا) 2/12/2012

طائرة خاصة لنقل الجثمان
وبعد انتهاء الاحتفال، خصّصت القيادة الليبية طائرة خاصّة لنقل جثمان الكيخيا إلى مثواه الأخير في مدينته بنغازي، وكان في الطائرة أرملته بهاء العمري وابنه رشيد وابنته جيهان وشقيقه محمود، وكاتب السطور، وعدد من أفراد العائلة والمسؤول الأمني الصديق صالح جعودة، الذي سبق أن استضاف كاتب السطور في واشنطن لإلقاء محاضرة عن الكيخيا مع نخبة متميزة من الأكاديميين، وعُرض حينها فيلم «اسمي بشر» وهو ما تكرّر في برلين ولندن وغيرهما. وقد سجّي الجثمان في منزله وفي غرفته إلى اليوم الثاني، لحين تشييعه ودفنه في مقبرة العائلة، وأقيم احتفال كبير وضخم له في بنغازي، ألقيت فيه كلمة لرئيس الوزراء علي زيدان ومحمود شمام، الذي أصبح وزيراً للإعلام ومحمود الكيخيا شقيقه وكاتب السطور، وذلك في ساحة التحرير التي انطلقت منها شرارة ثورة 17 شباط / فبراير. وللتوثيق، نورد نصّ الكلمة التي ألقاها الكاتب في حفل تأبين منصور الكيخيا، في بنغازي في 3 كانون الأول / ديسمبر 2012:

الحلم الفضي يعود إلى بنغازي
أمس فقط عاد منصور الكيخيا إلى مدينته بنغازي. رجع كعادته حالماً ببيته وغرفة نومه. عاد منصور الكيخيا مكلّلاً بالورد ومحمولاً على الأكتاف بعد غياب قسري طويل. عاد مصحوباً بدعوات وهتافات صادقة وبريئة بالمجد والخلود، حيث تصرّف الناس بكل عفوية ومحبة إزاء هذا الرجل الشجاع والأمير الحالم الذي عرفوه في كل الأوقات جريئاً ومخلصاً ورصيناً وموضع ثقة باستمرار. ازدحم الشارع البنغازي محيّياً حضوره البهي، وكم كان الناس يتمنّون أن يكون بينهم وفي مقدمتهم يوم اندلعت الثورة في هذه المدينة التاريخية المهمّشة، وهو الذي ظلّ يمنّي النفس بحكمة الضوء وانتصار الحلم على الكراهية وليالي الزمهرير السوداء؟ هكذا، جاءت الشرارة وبعدها اندلع اللهيب، فهوى نظام الاستبداد والتسلّط والاستئثار والفردية. وحده الحلم الجميل كان وراء هذه القدرة العجيبة التي امتلكها منصور الكيخيا، والشبيبة التي تطلّعت للضوء وعلى هديه كانت قادرة على مقارعة الطغاة. كان منصور الكيخيا حاملاً لمشروع تنويري حضاري أساسه العقلانية والديمقراطية والمدنية ويعتمد الحوار والوسائل اللاعنفية سبيلاً للتغيير، ولا سيّما بنشر الثقافة الحقوقية السلمية التي تشجّع على احترام الرأي والرأي الآخر والتنوّع والتعددية.
كان منصور الكيخيا سياسياً من طراز فريد، فقد اختزن خبرة ودراية ومعرفة وعلماً، مثلما عرف العمل المهني والحقوقي العربي والدولي، بخلفيته القانونية والدبلوماسية والإدارية. وكان مثقفاً عضوياً متميّزاً، عاش هموم شعبه وأمته، وتطلعاتهما وآمالهما، وخصوصاً قد جمع في شخصه على نحو منسجم ووثيق، بل في هارموني لا انفصال فيه، بين السياسة والثقافة، وبين الوطنية والإنسانية وبين المبدئية والمرونة وبين الصلابة والنعومة وبين الاستراتيجية والتكتيك، كل ذلك في إطار أخلاقي يسري في عروق حركته وتوجهاته بجميع مفاصلها، سواء في عمله السياسي أم الدبلوماسي أم الحقوقي أم المهني أم الصداقي.
أدرك منصور الكيخيا أن مشروعه الحضاري يحتاج إلى تراكم وتطوّر طويل الأمد، لأن أهدافه هي تفكيك بُنية الاستبداد التي عصفت بالدولة والمجتمع، ولم يكن لديه أدنى شك أو أي وهم من ثقل الواقع الذي كان يهيمن على الحياة ويضفي قتامة وعتمة، أقرب إلى انسداد الآفاق، وبما يدعو لليأس أحياناً. وعلى الرغم من أجواء التشاؤم العامة، فقد كان الحلم حبله السري إلى المستقبل، بل إن جزءاً من عقله وتفكيره كانا يعيشان في المستقبل، ولأجل ذلك الحلم عاش وواصل نضاله دون كلل أو ملل. وكان الإنسان حلمه واستثماره الحقيقي متمثلاً بقول الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس: «الإنسان مقياس كل شيء» ولأجله ينبغي تسخير كل شيء، ولا سيّما لرفاهه وسعادته وبالطبع لحريته وإنسانيته.
ومثل حلمه بنظام جديد وحرّيات ومؤسسات منتخبة، فإن إعلاء شأن الإنسان ورفع قدره كانا هاجسه الأول، إيماناً منه بسمو حق الحياة وقيم الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة، الأساس في المواطنة الفاعلة التي كان يعتبرها حجر الزاوية للتقدّم والعدالة الاجتماعية.
لعلّ الحلم الأخير لمنصور الكيخيا قبل أن يرقد الرقاد الأبدي هو اجتماعنا هذا، الذي أراد أن يشاركنا فيه، فقد دعانا بكل كرمه المعهود إلى مدينته وبيته وغرفة نومه ليقول لنا:
الآن هو الآن
أمس قد كان
ليس هناك من شكّ !
وتلكم لَعمري حكمة الضوء والحلم الفضّي
بنغازي 3/12/2012

وقفة تأمل
ولعلّ مناسبة هذه الاستعادة هو يوم 30 آب / أغسطس، الذي تتأمل خلاله الإنسانية في مصير المختفين قسرياً، وخصوصاً الذين لم يجل مصيرهم ، كيف غُيّبوا أو اختفوا قسرياً؟ ومن قام بذلك؟ وهل ثمة تعويض لأسر الضحايا؟ أو جبر الضرر المادي والمعنوي لإبقاء المسألة في دائرة الضوء بدلاً من رهان الخاطفين على دائرة النسيان. وما هي الإجراءات التي اتخذتها الحكومات؟ وما هي الاتفاقيات والقرارات الدولية بشأن ذلك،
كل ذلك اعتماداً على قرار أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 47/133 بتاريخ 18 كانون الأول / ديسمبر كانون الأول 1992، الذي حدّد طائفة من القواعد الواجبة التطبيق على جميع الدول وتشمل: الاختفاء القسري والقبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغماً عنهم أو حرمانهم من حريتهم عبر وسائل مختلفة، بما فيها ما تقوم به الأجهزة الأمنية، التي ترفض الكشف عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، ما يجردهم من حماية القانون.

مازن لطيف وتوفيق التميمي
وحديثي هذا العام عن منصور الكيخيا، وأنا أتناول مسألة الاختفاء القسري منذ 40 عاماً دون توقف، وذلك بالدعوة للكشف عن مصير مازن لطيف الناشر والصحافي، وتوفيق التميمي الصحافي والكاتب، اللذين اختفيا قسرياً منذ بضعة أشهر وبُعيد انطلاق حركة الاحتجاج الجماهيرية الواسعة في تشرين الأول/ أكتوبر 2019.
ولعلّ أول مرة تناولت فيها موضوع الاختفاء القسري كان عقب اختفاء د. صفاء الحافظ عضو مجلس السلم العالمي ود. صباح الدرّة سكرتير اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي في عام 1980، وهو ما تكرّر التذكير به كل عام تقريباً للمنظمات الدولية برسائل موجهة إليها أو اتصال مباشر معها مثل الأمنستي انترناشونال (العفو الدولية) (لندن) أو الهيومن رايتس واتش (منظمة مراقبة حقوق الإنسان) (واشنطن) أو المنظمة العربية لحقوق الإنسان (القاهرة) أو الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان (باريس).
وقد شهد العراق اختفاء شخصيات بارزة فكرية وثقافية واجتماعية وسياسية مثل عايدة ياسين رئيسة رابطة المرأة والمفكر الإسلامي محمد باقر الصدر وشقيقته الأديبة بنت الهدى، وقد كُشف عن وفاتهما لاحقاً دون إعلان رسمي، ودار توفيق رئيس تحرير صحيفة «التآخي» الكردي وأسعد الشبيبي في الثمانينات، واختفى المفكر والكاتب عزيز السيد الجاسم في أوائل التسعينيات، إضافة إلى اختفاء أعداد كبيرة دون إجلاء مصيرهم، وهو الأمر الذي تكرر واستمر ما بعد الاحتلال أيضاً.

المهدي بن بركة
وكنتُ قد تناولت في حقيقة الاختفاء القسري لأكثر من مرّة، اختفاء المعارض المغربي البارز المهدي بن بركة من مقهى ليب في شارع الشانزليزيه (باريس) حين اقتاده شرطيان ولم يظهر له أي أثر بعد ذلك، واعتبر رمزاً للمختفين قسرياً منذ عام 1965، إضافة إلى اختفاء السيد موسى الصدر في عام 1978 في طرابلس، ومصطفى الديراني في مطلع التسعينيات الذي اختطفته السلطات الإسرائيلية (أُطلق سراحه في ما بعد)، واختفاء القيادي البعثي السابق شبلي العيسمي في عاليه (لبنان)، عام 2011.
الهدف الأول من الاستذكار، هو إجلاء الحقيقة التي لن تغيب إلى ما لا نهاية، وحكاية اختفاء منصور الكيخيا خير دليل على ذلك، الأمر الذي يحتاج إلى توثيق وتدقيق وأمانة وضمير. والهدف الثاني هو مساءلة المرتكبين والمتواطئين معهم ليس بهدف الانتقام والثأر، بل الغرض من ذلك تحقيق العدالة، ولا سيّما في الأوضاع الانتقالية. أما الهدف الثالث فهو جبر الضرر المادي والمعنوي وإبقاء الذاكرة حيّة وإطلاق أسماء الضحايا على مؤسسات أكاديمية وثقافية واجتماعية وساحات عامة ومدارس ومكتبات وغير ذلك.
ويتحدّد الهدف الرابع بالتعويض للضحايا وعوائلهم مادياً ومعنوياً، وتأهيلهم لكي يتعافوا تماماً، (من بقي منهم على قيد الحياة). في حين يكون الهدف الخامس متّصلاً بإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية لكي لا تتكرر مثل هذه الأعمال وكي لا يفلت الجناة من العقاب. وليتذكّر الجميع حكاية منصور الكيخيا ويتأمّلوا .
* باحث ومفكر عربي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا