يهدف التطبيع العربي إلى تعويد الشعب العربي على مشاهد التقرّب من حكّام إسرائيل والتملّق إليهم، أي أنّ التطبيع هدف ووسيلة لتحقيق المزيد منه. أذكر قبل سنوات أنني سألتُ واحداً من المقرّبين لياسر عرفات، والذي كان من أقرب مستشاريه في التفاوض الدولي: كيف استطعتَ ـــــــ وأنتَ كنتَ في شبابك من مؤيّدي المقاومة الفلسطينيّة ــــــــ أن تقابل مسؤولي دولة العدوّ وتتعامل معهم على صعيد اجتماعي؟ ألم تكن لديك موانع عاطفيّة ضد ذلك؟ قال لي: تتغلّب عليها مع الوقت. وقلتُ: ولماذا أريدُ أن أتغلّب عليها؟ لأيّ هدف؟ لكن التغلّب على الموانع العاطفيّة لم يكن يوماً صعباً على أيّ من الحكّام العرب. هؤلاء منحوا إسرائيل صكّ الصداقة والتطبيع في قمّة بيروت المشينة، والتي حاول إميل لحّود ــــــ مشكوراً ــــــ عرقلتها بعض الشيء، بعدما ثبُتَ أنّ سعود الفيصل كان قد توصّل مع جورج بوش وياسر عرفات، إلى اتفاق سرّي لطمس حق العودة في المشروع. (لكنّ النظام السوري مشى في المشروع، ومشى الحكم اللبناني معه ــــــ على عادته آنذاك).لم يعد ممكناً قياس مزاج الرأي العام العربي. هناك استطلاعات رأي تُنشر لكنّها مشوّشة، إمّا بسبب غياب حريّة الرأي في معظم الدول العربية، أو بسبب سوء ترجمة الأسئلة من شركات الاستطلاع الكبرى، أو بسبب تلوّث الوعي العربي نتيجة هذا الضخّ المستمر من قبل الـ«إن. جي. أوز» الغربية، التي باتت عيون وآذان وألسنة دول الغرب في المجتمعات العربية. وهي شديدة التأثير على جيل الجامعات الخاصّة في العواصم العربية، وعلى مواقع التواصل التي تتقن لعبته والتي تغزوه عبر مواقع إعلاميّة مموّلة من دول الغرب ومنظّماته (لماذا ليس هناك من دراسة واحدة عن دور منظّمات جورج سوروس في العالم العربي، مع أنّها باتت ناشطة في «الإعلام الجديد». والرجل الذي بدأ في عمله السياسي سنداً للحكومة الأميركيّة وأجهزتها الاستخباريّة في محاربة الشيوعية، وجد ضالّته اليوم في الكثير من دول العالم النامي، وفي أوروبا الشرقية (يجب الفصل بين حركة معاداة سوروس من قبل اليمين الغربي العنصري المعادي لليهود كيهود، والذي ينظر إلى سورس من منظور رجعي عنصري معادٍ للسامية، وبين معاداة سياسية واجبة ضد الاختراق الفظيع للمجتمعات العربية، من قبل منظّمات صهيونية حكومية وغير حكومية غربية).
ما هو موقف الشباب العربي ممّا يجري؟ إنّ ظهور مواقع التواصل الاجتماعي كان قاتلاً لنمو حركة احتجاج عربية. أصبحت علامات الاستحسان («اللايكات») على المواقع، تعوّض عند كثيرين وكثيرات عن النزول إلى الشارع لتفجير الغضب السياسي. لكنّ التظاهرات كانت طبعاً أفعل في الضغط على الحكومات وعلى دول الاستعمار الغربي. مواقع التواصل، ليست مواقع حرّة مثل الشوارع: الصور والهتافات والشعارات خاضعة لمعايير أصحاب شركات مواقع التواصل الأميركية، الذين ينسّقون باستمرار (يوميّاً) مع وزارة «الأمن الداخلي» الأميركية، ومع جهاز الـ«موساد» الإسرائيلي. ويتعرّض عربٌ باستمرار للحجب أو الحظر أو التجميد، بسبب مواقف لهم أو صور تتعلّق بإسرائيل. حركات التضامن والاعتراض على المواقع، تخيّل للمرء أنّه فعل فعله و«فش خلقَه» واكتفى. الاستحسان على المواقع وتوقيع العرائض، لا يُقلقان سفارات حلفاء إسرائيل كما كان يقلقها رمي الحجارة والطماطم على موكب جون فوستر دالاس، في بيروت في عام 1953، أو إلغاء زيارة كيسنجر إلى لبنان، في عام 1973، خوفاً من اعتداء على موكبه. غضب المواقع سهّل الاحتواء والتجاهل: ننتقل من تضامن مواقعي مع فلسطين إلى مسلسل على «نتفليكس» يتضمّن دعاية صهيونيّة.
لم تكن أنظمة الخليج معنيّة بالقضية الفلسطينية منذ النكبة، أو قبلها. هذه سلالات الاستعمار البريطاني التي كانت مسؤولة عن الكارثة، في عام 1948. كلّ الحكومات العربية المتواطئة مع الاستعمار البريطاني (بما فيها رياض الصلح الذي طمأن الرأي العام، قبل أشهر قليلة من النكبة، أنّ للجامعة العربيّة خطة «سرّية» للتعامل مع الخطر الصهيوني) مُشاركة في هزيمة فلسطين التاريخية. ونمط تعامل هذه السلالات مع القضية الفلسطينية، لم يتغيّر عبر العقود، وإن تغيّرت اللهجة والخطاب والسياسات المُعلنة. كان خطاب هذه الأنظمة كريهاً عندما دعم فلسطين بكلامٍ معادٍ لليهود واليهوديّة، ومنادٍ بالجهاد الديني، وهو كريهٌ اليوم عندما يجعل من التصالح مع حكومة الاحتلال نوعاً من التسامح وتقبّل الآخر. لم تجنِّد هذه السلالات للقضيّة الفلسطينيّة، كما جنّدت بالسلاح لقضيّة المجاهدين الأفغان الإرهابيّين، فقط لأنّ أعداءهم كانوا شيوعيّين، ولأنّ أميركا أرادتهم معها في الحرب الباردة. كان عرفات، في سنوات عزلته عن تلك الأنظمة، يحصي عدد المليارات التي أنفقتها أنظمة الخليج في دعم بن لادن ورفاقه من الإرهابيّين. والإعلانات التي كان يختصّ بها الأمير سلطان بن عبد العزيز عن مساعدات لمنظمة التحرير، لم تكن إلا جباية ضرائب من الفلسطينيّين المقيمين في المملكة. صحيح أنّ تلك الدول تبرّعت بالمال لحركة «فتح»، لكنّها فعلت ذلك لأسباب ثلاثة: ١) من أجل أن تتمنّع المنظمة عن القيام بتحرّكات عسكرية في أراضيها، وأن تمنع «فتح» التنظيمات الفلسطينيّة الأخرى من القيام بعمليّات، من أو على أراضيها. (مرّة قدّم أبو أياد جوازات سفر لجبهة التحرير الفلسطينية، للقيام بعمليّة في دولة الإمارات، ثم أبلغ الحكومة الإماراتية بوصول المجموعة. سارعت الشرطة إلى إلقاء القبض على المجموعة، ونال أبو أياد تبرّعاً سخيّاً لتنظيمه). ٢) كانت أنظمة الخليج تتبرّع ــــــ وخصوصاً في سنوات الصعود ــــــ لحركة «فتح»، وأبي عمّار شخصيّاً ــــــ كي تضمن سيطرة اليمين الرجعي على الحركة بوجه اليسار، في داخل «فتح» وخارجها. ٣) كانت تلك الأنظمة تدفع المال كي يكون لها تأثير ونفوذ تستخدمهما لمصلحة الحكومة الأميركية. والوثائق الأميركيّة المُفرج عنها تتحدّث عن تطمينات سعوديّة للحكومة الأميركية بإجراء ضغوط على حركة «فتح» لحثّها على تقديم المزيد من التنازلات في السبعينيّات (في زمن الملك فيصل الذي بات يُصوَّر من أنصار القضيّة على أنه كان يوماً جاداً في محاربة إسرائيل). ووكالة الأنباء الإماراتيّة زهت، قبل أيام، بالدعم المالي من النظام لسلطة أوسلو. لكن النظام الإماراتي كان يكافئ، وبالنيابة عن الاحتلال، سلطة أوسلو على تنسيقها مع العدو، وعندما توقّف التنسيق الأمني توقّف التمويل.
أنظمة الخليج تتحدّث عن «دعمها» التاريخي للقضية الفلسطينية، فيما كان دعمها لفظيّاً فقط، وذلك في زمن كانت فيه أنظمة تعاقب على التواصل مع إسرائيل. النظام العراقي في عهد أحمد حسن البكر، كان يعاقب الأفراد العرب بالقتل في عواصم العالم، إذا ما عقدوا لقاءات مع الإسرائيليّين (تغيّرت معايير النظام في عهد صدّام حسين الذي انفتح على اللوبي الصهيوني، من خلال نزار حمدون في واشنطن). وطبعاً، قبل السبعينيّات، كان النظامان الناصري والجزائري والمقاومة الفلسطينية يمنعون ــــــ بالقوّة ــــــ أنظمة الخليج من إقامة سلام مع إسرائيل، واضطُرّ الملك حسين للكذب على شعبه بصورة دوريّة، لنفي الأخبار الواردة في الصحافة الغربية عن لقاءاته مع إسرائيليّين. حرب الخليج، في عام 1991، قضت على الشرخ في النظام العربي الرسمي، والنظام السوري انضم إلى «مبادرة» السعودية للسلام، كما انضمّ حافظ الأسد، في عام 1990، إلى الجبهة الأميركيّة لطرد النظام العراقي من الكويت. والتحالف السعودي ـــــــ السوري ـــــــ المصري في ذلك العام، كان القابلة القانونية العربية لعودة الاستعمار إلى بلادنا، وبرداء عربي ـــــــ إسلامي.
سيكون هذا التطبيع الخليجي أعمق وأسرع بكثير من تطبيع النظاميْن المصري والأردني، منذ توقيع معاهدات السلام


إنّ إعادة تشكّل النظام العربي بقيادة السعودية، ضَمِنَت انقياد كلّ الأنظمة العربية للمسار الصهيوني لدول الخليج (وانقسام دول الخليج بين المحور القطري وبين المحور السعودي، لم يؤثّر على الموقف من إسرائيل لأنّ كليهما طبّع بطريقته مع العدو الإسرائيلي: وفي الأسابيع الماضية، كان إعلام النظام القطري يندّد بالتطبيع الإماراتي، فيما كان جنرال حرب إسرائيلي يزور الدوحة). لم يعد هناك من رادع للتطبيع، والغريب أنّه لم يحدث قبل اليوم. التطبيع الكبير الذي فتح الطريق أمام تطبيع دول الخليج، الذي بدأ بعد مفاوضات مدريد، في عام 1991، تمثَّل في اتفاقات أوسلو. سدّد ياسر عرفات أكبر خدمة لمشروع التطبيع العربي مع إسرائيل، منذ إنشاء الكيان الغاصب. لم يفتح عرفات الطريق أمام الأنظمة العربية كي تطبِّع، بل هو فتحها أمام كل الدول الإسلامية والأفريقية والعالم ثالثيّة. بعد أوسلو، جالت الحكومة الأميركية حول العالم مستخدمةً هذه الحجّة: لقد طبَّع الفلسطينيّون مع إسرائيل، فلماذا تمانعون أنتم أن تطبِّعوا؟ والمهزلة، أن عصابة السرقة والفساد و«التنسيق الأمني» في رام الله، هي التي تقود حملة محاربة التطبيع ضد إسرائيل (طبعاً، هي تقود الحملة على طريقتها الهزليّة، يوماً تنتقد الإمارات، وفي اليوم الثاني يصدر محمود عبّاس فرماناً يمنع فيه انتقاد رأس الدولة في الإمارات، ثم يعود ويتراجع عن مشروع قرار في الجامعة العربية، وهذا نسق المهازل التي اعتدناه من عصابة أوسلو).
أرسى ترامب قواعد العلاقة مع دول الخليج مبكراً. أوضح لهم: ليس هناك من مجال للعواطف معي (حتى في العلاقة مع بنيامين نتنياهو، ليس عند ترامب عواطف، وهو الذي بدر عنه كلام معادٍ لليهود، كيهود، أكثر من مرّة، وكتاب «غضب» الجديد لبوب وودوورد، يذكر أنّ ترامب لم يعد يستسيغ، على الصعيد الشخصي، نتنياهو)، وأنّ العلاقة ستكون مصلحيّة. وكان ضغط ترامب على طغاة الخليج أسهل من أيّ مرحلة سابقة، لأنّه دشّن دخوله إلى البيت الأبيض بكلام مهين لهم، من أنّ أنظمتهم ما كانت استمرّت من دون الدعم الأميركي. لكن التبادليّة كانت محدّدة المعالم منذ البداية: أنّ صداقة ترامب ورضاه سيكلِّفانهم غالياً، ليس فقط بالمليارات، وإنما أيضاً بسياسات الإذعان. وتاريخياً، فإنّ طغاة الخليج يحاولون أقصى جهودهم لدعم أي رئيس أميركي يحاول أن يفوز بولاية ثانية. هناك تاريخ من إسهامٍ سعودي في تخفيض أسعار النفط لخدمة رؤساء أميركيّين يخوضون غمار انتخابات تجديد الولاية. الاتفاق الإماراتي ـــــــ البحريني ـــــــ الإسرائيلي كان مجرّد «صفقة بزنس»، بحسب وصف جيرامي بن آمي، مدير مركز «جي ستريت»، وهو البديل «الليبرالي» للّوبي الإسرائيلي الرسمي في واشنطن. تعود صفقة البزنس هذه على أميركا بالمال الوفير، لأنّ قائمة مشتريات الأسلحة باتت جزءاً من أيّ اتفاق خليجي مع ترامب، ودولة الإمارات تزيد من ترسانتها العسكريّة التي لا تهدّد إسرائيل. وهي هدية من أنظمة الخليج إلى ترامب، الساعي إلى إنجازٍ (حقيقي أم صُوَري) للفوز على جو بايدن. أمّا إسرائيل: فهي المستفيدة الكبرى لأنّها لم تقدِّم أي تنازل، ولم يكلّفها الاتفاق قِرشاً، وقد تكون هناك بنود سريّة تدفع فيها دولة الإمارات ثمن أسلحة تشتريها مباشرة من إسرائيل (كلّ اتفاقيّات السلام التي رعتها أميركا بين الأنظمة العربية وإسرائيل تضمّنت بنوداً سريّة). رئيس تحرير مجلّة «ذي أتلانتك»، الصهيوني جيفري غولدبرغ (الذي تستشهد به الصحافة العربيّة من دون أن تذكر أنه خدم في جيش الاحتلال الإسرائيلي)، قال بصراحة إنّ إسرائيل نالت التطبيع مقابل لا شيء. هي لم تَعِد حتى بتجميد الاستيطان (ولم تطلب البحرين أو الإماراتي منها ذلك). نتنياهو وعد، فقط، بأنه أجّل ضمّ ٣٠٪ من الضفّة.
ما حدث في واشنطن، هذا الأسبوع، ليس اتفاق سلام، وليس إعلان تطبيع. ما حدث هو إخراج تحالف إقليمي إلى العلن. منذ أحداث 11 أيلول / سبتمبر، أدرك النظام السعوي، بشخص عبد الله بن عبد العزيز، بأنّ الطريق إلى نيل الرضى الأميركي، وغفران الدور السعودي في عمليّة 11 أيلول / سبتمبر الإرهابيّة، يمرّ في تل أبيب. وسيرة التطبيع الخليجي (والتي كان النظام القطري المبادِر الأوّل فيها، بالرغم من أنّ إعلامه يزخر بالتنديد بالتطبيع الإماراتي لأنّ النظام في الدوحة يفصل ــــــ أخلاقيّاً؟ ـــــــ بين التطبيع الدبلوماسي والتطبيع غير الدبلوماسي الذي ينشط هو فيه) مرتبطة بردّة فعل النظام السعودي المرتبكة بعد 11 أيلول / سبتمبر. طبعاً، كان مؤتمر مدريد مناسبة لخرق جدار المقاطعة اللفظي (البحرين، مثلاً، أوقفت الالتزام بالمقاطعة قبل نحو عِقدَيْن، والتراخي في الالتزام بالمقاطعة (التي كانت جديّة خارج لبنان) بدأ في مدريد. ويُقال إنّ هذا كان ثمناً تبادلياً غير مُعلن للتدخّل الأميركي في الخليج لمصلحة سلالات النفط والغاز في عام 1991).
دخلت دول الخليج في تحالف أميركي ــــــ إسرائيلي، بعد 11 أيلول / سبتمبر، والموقف السعودي «عبر مصدر مسؤول» في مطلع حرب تمّوز، كان تعبيراً نادراً عن حقيقة التحالفات السعوديّة يومها (لكن هزيمة جيش الاحتلال غيّرت حسابات النظام السعودي، الذي أُجبر بسبب مزاج الرأي العالم العربي على تغيير موقفه ومنح لبنان مساعدات ـــــــ بإيعاز أميركي كي لا يظهر النظامان الإيراني والقطري وحيدَيْن في مساعدة لبنان). ومدير الموساد ضيفٌ في كلّ عواصم الخليج (باستثناء الكويت) وعمّان والقاهرة. التنسيق الأمني بينهم وبين دولة العدو، مستمرّ على مدى سنوات، وهؤلاء مشاركون في معركة إسرائيل ضدّ كل مَن يقاومها (وتشترك عصابة أوسلو في هذا التحالف، وإن كانت تعترض وتتبرّم هذه الأيّام لأنها متروكة وحيدة ــــــ لكنّ عبّاس يعلن «المقاومة الشعبيّة»، كما أعلن محمد مهدي شمس الدين «المقاومة المدنيّة»، وهذه وصفات مخادعة تنطلق من رفض المقاومة العسكريّة للاحتلال).
هناك جانب مفيد من المجاهرة العربية الرسمية بالتحالف والتطبيع مع إسرائيل. لم يعد التآمر العربي الرسمي يختفي وراء حُجُب من الخطب والبيانات والفتاوى الدينيّة الرجعيّة، التي أضرّت بالقضيّة الفلسطينيّة أكثر ممّا أفادت لأنّها كانت تزخر بالكراهية الدينية ضد اليهود، وبدعوات الجهاد الديني الفارغة. وعندما تحوّلت الأنظمة في دعايتها الرسميّة، بعد 11 أيلول / سبتمبر، انطلقت من طرف الكراهية الدينيّة إلى طرف التملُّق والتكاذب وتصنُّع صداقة اليهود، ما يرسّخ معاداة هذه الأنظمة لليهود كيهود. هذه أنظمة تعجز عن رؤية الصراع على حقيقته: كاحتلال خارجي ضد السكّان الأصليّين فتحوّله إلى مسألة تقبّل أو عدم تقبّل لليهود كيهود، ما يحيل الشعب الفلسطيني إلى معتدٍ: أي أنه في هذه السرديّة ومبادرات «الحوار بين الأديان» (وهي لا تعني إلّا حواراً بين الأنظمة ورجال دين صهاينة) يظهر الشعب الفلسطيني على أنّه كما تصوّره الدعاية الصهيونية: العقبة الوحيدة أمام تحقيق السلام في المنطقة، لأنّه لا يحبّ اليهود ولا يقبلهم، بينما التقبُّل والتسامح هما حظوة للمستعمِر وليسا للشعب المُحتلّ والمطرود من أرضه.
لا يمكن التقليل من خطورة ما يجري. الشعب الفلسطيني متروك لحاله، وكلّ من يمدّ يد العون له يُتَّهم بأنّه يساهم فقط في نشر النفوذ الإيراني. لا أحد من معسكر النظام السعودي ـــــــ الإماراتي يشرح لنا لماذا لا يكون هناك دعم منهم للشعب الفلسطيني، لتفويت الفرصة على إيران للظهور بمظهر المساند للشعب الفلسطيني (أو المُستغلّ لها بحسب وصفهم). لماذا لا يقطعون الطريق على إيران ويقدّمون السلاح للشعب الفلسطيني كي لا تكون هناك حاجة إلى إيران ودعمها؟ طبعاً، هولاء يمنعون القوت عن الشعب الفلسطيني، منذ عام 1991، ولا يموِّلون السلطة الفسلطينية، إلا بأمرٍ أميركي ـــــــ إسرائيلي مقابل خدمات السلطة للاحتلال الإسرائيلي. هؤلاء لا يريدون دعماً إيرانيّاً أو عربيّاً للشعب الفلسطيني. يريدون الشعب الفلسطيني أن يُترك وحيداً مهزوماً، كي يسهل تطويعه وكسره على يد إسرائيل. هؤلاء أنفسهم كانوا يعارضون الدعم السوفياتي الاشتراكي للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية، بحجّة أنّ الدعم يهدف إلى نشر الشيوعية والإلحاد بينهم. (في عزّ الحرب الأهليّة، نال صائب سلام والكتائب تمويلاً سعوديّاً لمكافحة الشيوعيّة في لبنان). وكان الدعم الخليجي لـ«فتح» من أجل أنّ دعم النَّزعات الأكثر يمينيّة ورجعيّة في حركة التحرير الوطني الفلسطيني ــــــ أي النزعات نفسها التي قادت الشعب نحو أوسلو.
سيكون هذا التطبيع الخليجي، أعمق وأسرع بكثير من تطبيع النظامين المصري والأردني، منذ توقيع معاهدات السلام. هناك نقابات وتيارات وأحزاب في مصر والأردن، وإن كانت مقموعة، وإن كان النظام السياسي ممسوكاً من قبل الحاكم المُطلق، لكنّ طبقة المثقّفين والحرفيّين والنقابات والكتّاب والصحافيّين في مصر والأردن، معادية بشدّة للتطبيع لأنّ الشعب معادٍ للتطبيع. هم يعلمون أنّ مقاطعة، لا بل معاداة، إسرائيل من الثوابت. لكنّ النظم الخليجيّة (وخصوصاً النظام الإماراتي الذي يحظى، أكثر من أي دولة عربيّة أخرى، بمحاباة وتملُّق ومديح من قبل الكتّاب والمثقّفين والإعلاميين والإعلاميّات العرب ـــــــ ومن قبل مدّعي الثورة في لبنان) ذات نزعات توتاليتارية غير موجودة في مصر مبارك أو الأردن في عهد عبد الله ــــــ على سوء النظامَيْن، طبعاً. النظام الإماراتي يملك، اليوم، أكبر وأخطر وأشرس جهاز تجسُّس ومراقبة على المواطنين والمقيمين: جهاز «وكالة استخبارات الإشارات» الإماراتي تقليدٌ لجهاز «وكالة الأمن القومي» الأميركي، الذي يعتمد على التجسُّس الإكتروني المتطوِّر. وقد أخبرني سجينٌ سابق في الإمارات، أنّه عندما أُطلق سراحه بسبب رأيٍ كتبه، وجد في منزله بعد عودته جهازاً إلكترونيّاً لا يُسمح له بالعبث به. هذه جوانب في مراقبة الدولة ـــــــ ذات وزارة السعادة والتسامح ــــــ غير موجودة في أي دولة في العالم العربي، وكان صدّام يحلم بها.
الشعب في دول الخليج المُطبِّعة، سيشارك في التطبيع، وسنشاهد قريياً جمهوراً من المتسوِّقين في مجمّعات التسوُّق يرحّبون بزوارٍ إسرائيليّين (أي مَشاهد لا يمكن أن نراها في الأردن أو مصر بعد عقود من التطبيع). وسنشاهد، قريباً، أطفال وأولاد المدارس، وهم يلوِّحون بالأعلام الإسرائيلية عندما يزورهم نتنياهو. الدولة في الإمارات تفرض طاعةً كلية كما النظام السعودي، والمثقَّفون والكتّاب يزايدون على بعض في انصياعهم لأوامر ومشيئة الدولة. هم يبتكرون أشكالاً وألواناً جديدة من المديح الذليل والمبتذل للحاكم. تجد أشخاصاً في الإمارات انقلبوا من معارضة التطبيع إلى تأييده، في غضون أسابيع قليلة فقط. سنرى حشداً من الإماراتيّين، وهم يصفِّقون لخطيبٍ إسرائيلي. لكن لا يجب الحكم على الشعب الإماراتي ككلّ، كما لا يجب الحكم على الشعوب التي تصفِّق لطغاتها في الدول العربية.
إنّها لحظة بائسة في تاريخ قضيّة فلسطين، ويزيد من بؤسِها أنّ المؤتمن على القضيّة، أي «منظّمة التحرير»، ارتكب فعل الخيانة قبل أنظمة التطبيع الحالية. لكنّ شراسة وظلم وعدوان واحتلال إسرائيل هي الضمانة، جدليّاً، لديمومة القضية الفلسطينية، وديمومة الرفض العربي.

* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا