بذريعة أنّ الموارنة وحدهم كانوا «يعرفون ماذا يريدون» ويتعاونون مع الدول الغربية من دون حدود (كمال الصليبي)، قرَّر المتدخلون، ولاحقاً المنتدبون، الفرنسيون، إنشاء نوع من وطن لهم عبر توسيع أراضي «المتصرفية» لتشمل الأقضية الأربعة والمنطقة الساحلية من طرابلس إلى صور: فكان «لبنان الكبير» في 1 أيلول عام 1920. ورغم أن الموارنة (المارونية السياسية آنذاك) من رجال الدين والإقطاع، كانوا أقلّ نفوذاً وأضعف عسكرياً (في صراعهم مع الطرف الثاني الأساسي في المتصرفية، فضلاً عن التنافس مع الأرثوذوكس)، إلاَّ أنهم حظوا بكل صلاحيات المندوب السامي الفرنسي في تركيبة ما بعد الاستقلال، عبر الإمساك بكل السلطة وإشغال المراكز المقرَّرة فيها: بدءاً من رئاسة الجمهورية. أما «الأقضية الأربعة» (التي كانت تابعة لولاية دمشق) ومدن الساحل) التي كانت حواضر مهمة ومراكز سلطة وعواصم ولايات، فقد هُمِشت، عموماً، حتى إقرار اتفاق «الطائف» عام 1989. المساهمة المارونية المميزة في إخراج «لبنان الكبير» وسط اعتراض وتهميش، لم يكن ينبغي أن تساوي، إذن، استئثاراً بالسلطة كما حصل حتى عام 1989. في خطاب المئوية، وبعد تجربة أربع سنوات في الحكم، وخصوصاً بعد الانهيار في المرفأ، تنبَّه الرئيس ميشال عون إلى هذا الأمر، وأكد أنّ «ما كان مناسباً في السابق لم يعد كذلك اليوم». تأخّر العماد عون بتبنّي إقامة دولة مدنية. كان سبقه الرئيس نبيه بري، قبل ساعات في خطاب ذكرى إخفاء الإمام الصدر، بالتأكيد على أن الحل ببناء دولة مدنية لأن «الطائفية هي سبب كل الفساد والفشل والأزمات»، كما أكّد. طبعاً، المهم الأعمال قبل الأقوال، وخصوصاً أن الرئيس عون كان يخوض منذ أشهر قليلة معركة تعديل الدستور لإلغاء إصلاحات الطائف ولتكريس مناصفة دائمة، دستورياً. كذلك فإن الرئيس بري روّج، أخيراً، لمشروع انتخابي يقوم على قاعدة مناصفة طائفية رغم انطلاقه من ضرورة تطبيق المواد 22 و24 و95 من الدستور التي تقول بإحالة الشأن والهواجس الطائفية إلى «مجلس شيوخ» محصور الصلاحيات، وبانتخاب مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي، وبالتالي بتكوين السلطة على هذا الأساس (العلماني العروبي السابق «دولة» إيلي الفرزلي، المقرَّب من عون وبري، ما زال يقاتل بشراسة لتكريس المحاصصة الطائفية ولتأجيج الصراع حول توازناتها ومفاعيلها!!!).لعلّها، إذن، الأزمة ومحاولة احتوائها بالوعود والشعارات المجانية! ولعلّه ما أوحى به الرئيس الفرنسي، عرّاب تعويم الطبقة السياسية التي أدّت أنانيتها وسياساتها وفسادها، إلى تحويل لبنان بلداً فاشلاً. أجل لعلّ هذه وذاك، هما ما دفع جزءاً من السلطة إلى تبنّي شعار «الدولة المدنية». إلا أن مجرد الانزياح نحو هذا الشعار الذي كان مرفوضاً بالكامل حتى البارحة، إنما يشير إلى حجم الأزمة وفداحة نتائجها وضخامة الخسائر الناجمة عنها واستحالة المضي بالسياسات والنهج والعلاقات الداخلية والخارجية السابقين، وفي الصعد كافة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإدارية...
فرنسا التي احتضنت أكثر تجارب العلمانية جذرية هي نفسها التي لجأت إلى تفخيخ النظام اللبناني بمرض المحاصصة الطائفية والمذهبية


كلّ التجارب السابقة تدلّ على أنّ المصالح الطبقية التي توجّه الطبقة السياسية بقديمها والجديد، ما زالت هي نفسها. ما يحصل عن إعلان تبنّي شعار الدولة المدنية، إنما هو مناورة لا خيار جديد. مثل هذا الخيار، ينبغي من قبل مدَّعي الأخذ به، الإعلان صراحةً، يبدأ بقول لا لبس فيه بشأن سقوط «الصيغة» السابقة وبمسؤولية الذين أصروا عليها، عن منع قيام دولة موحدة ومستقلة وسيدة تنهض بها مؤسسات سلطة وحكم قادرة على تأمين المساواة والحرية والعدالة والتنمية والتقدم لمصلحة الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني. ثم إنّ إحداث انعطافة بحجم تحرير النظام السياسي من المحاصصة الطائفية والمذهبية، إنما يشترط، أساساً، نشوء وتبلور وتعاظم كتلة شعبية منظمة وفاعلة وقادرة على فرض البديل المنشود وبلورة هياكل نظامه ومؤسساته، وتأمين نجاح هذه المؤسسات في القيام بدورها المنشود.
ما ينبغي قوله، بشيء من المرارة، إنّ هذه الكتلة التغييرية، تركيباً وبرنامجاً، ليست جاهزة. الجيل الجديد من قادة قوى التغيير لم يضع هذه المسألة لا قبل الأزمة، ولا بعد تحوّلها إلى كارثة وانهيار، في سلم أولوياته. قوى التغيير التي خاضت سابقاً معارك مجيدة في الحقول القومية والوطنية والاجتماعية والسياسية، لم تستمر في مسارها السابق: موحَّدة ومبادِرة وفاعلة وشريكة في صنع مستقبل البلاد.
تحدث الرئيس الفرنسي عن عقد جديد، وأشار إلى ضرورة بناء دولة مدنية. لا يبدو أنه مصمّم وقادر بما فيه الكفاية. فرنسا التي احتضنت أكثر تجارب العلمانية جذرية في العالم، هي نفسها التي، حين تعذَّر عليها إنشاء دويلات طائفية في سوريا ولبنان أثناء انتدابها عليهما، لجأت إلى تفخيخ النظام اللبناني بمرض المحاصصة الطائفية والمذهبية بعدما قمعت، بشكل دموي، التيار الوطني السوري.
أساس الإصلاح السياسي موجود في الدستور. من هناك ينبغي أن يبدأ ويتطور الإصلاح والتغيير الحقيقيان. الاحتجاج الشعبي الذي لا يتوحد على هذا الأمر لا يُعوَّل عليه. بل إن بعض هذا الاحتجاج الذي توجهه جهات خارجية لأغراض وأهداف تخدم الصهاينة أولاً، قد يصبح أداة ثورة مضادة تُعرّض، لأسباب وعوامل أخرى، البلاد إلى أسوأ النتائج. زيارة دايفيد شينكر (لاحظ، دائماً، أن المنطقة مطوّبة، أميركياً، للصهاينة!) الراهنة للبنان هي مثال صارخ على ما نقول!!

* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا