جاء إيمانويل ماكرون، ليجد في لبنان تعويضاً عن محاسبة الشعب الفرنسي له على فشل سياساته الاقتصادية المنحازة لصالح الرأسمال الفرنسي والمعزِّزة للتبعيّة للرأسمالية الأميركية. وكما في الاقتصاد، كذلك في السياسة، تحوّلت معه فرنسا إلى مجرّد حامل رسائل لجاريد كوشنر وليس لدونالد ترامب فقط.تجلّت محاسبة الشعب الفرنسي له في الانتخابات البلدية، فقد كان أول رئيس يخسر أكثر من نصف مواقعه وبتلك السرعة. أمّا محاسبة الشارع، فكانت عبر التحرّكات الشعبية (التي لم تخلُ من العنف) احتجاجاً على سياساته الاجتماعية المستهدِفة لحقوق الفقراء، وخصوصاً المتقاعدين. لم يكن الرئيس الفرنسي ليستطيع التجوّل في شوارع باريس، كما تجوّل في بيروت، كما أنه لا يستطيع تقديم نفسه هناك كمحاور مقبول للقوى السياسية الفرنسية، لا اليسارية منها ولا اليمينية. يأتي هذا المنبوذ في مجتمعه، علّه يجد التعويض في مجتمعٍ تحكمه دولة كان أسلافه قد ركبوها، دولة صنعوا لها كياناً وحدّدوا لها قوانينها، وبشكل رئيسي، رسموا لها حدود وظيفتها المناسبة. فكان إعلان دولة لبنان الكبير، جزءاً من التقاسم «الإمبريالي» للمنطقة العربية، لمصادرة ثرواتها من جهة، ومنعها من التكوّن كإطار «جيو ـــــ سياسي» غني وقوي ينافس المكوّنات الأخرى، وبشكل أساسي، استجابةً لمتطلبات خلق الكيان الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني ووجوده. إنّ خلق هذه الدولة، كان مع خلق غيرها من الكيانات ــــــ الوظيفية، شرطاً لتحقيق مثلّث الاستهداف الإمبريالي: التجزئة، النفط والثروة، وتبرير خلق الكيان الصهيوني على حساب شعب فلسطين وعلى أرضها.

خلقوا الكيان ووضعوا له الوظيفة، وانبرى منظّروهم من حاملي الجنسية اللبنانية، بالتنظير لهذه الوظيفة، فكان أوّل ما طرحوه دمج وجود الكيان بالدولة الرأسمالية، وشرط استمرارها بالنظام الطائفي، بحيث أضحت أيّ دعوة للتغيير وكأنها مسّ بالدولة وضرب للكيان نفسه... وللحفاظ على هذا المفهوم للدولة والكيان، أخضع النظام البلد لسلسلة من الحروب الأهلية، دفع شعبنا خلالها عشرات الآلاف من الضحايا والدمار الدوري. واقترنت عملية الدفاع عن النظام السياسي بالدفاع المستمرّ عن مصالح البرجوازية التابعة، بحيث ضمّوا «الاقتصاد الحر» والتبعية للغرب (باسم الحياد) إلى أيقوناتهم.
لم يعرف وكلاء الاستعمار الخارجي، أنّ سياسة الدمج بين هذه المفاهيم ستهدّد الكيان نفسه، من خلال الإصرار على دمجه بمفهوم النظام الطائفي والاقتصاد الحر، وبشكل خاص الدعوة إلى الحياد بين الحق والعدوان، والذي كان يُترجم بالشبق لإظهار التبعية للإمبريالية الأوروبية أولاً، والأميركية لاحقاً، ليس فقط في لبنان بل على المستوى العربي. من عبد الناصر ومعاداته، إلى الانضمام إلى «حلف بغداد» ومشروع أيزنهاور، إلى التآمر على المقاومة الفلسطينية واللبنانية، إلى بدعة «قوة لبنان في ضعفه»، وما يضمره هذا الشعار من انضواء في المشروع المحتضن للكيان الصهيوني. وعلى المستوى الداخلي، ضرب أيّ محاولة لبناء اقتصاد منتِج يقطع التبعية البنيوية للإمبريالية وانعكاس ذلك على قمع كل محاولات التغيير الديموقراطي للنظام، وكذلك على الأمان الاجتماعي للبنانيين... وفي العلاقات الخارجية، مصلحة أميركا والغرب هي المحدّدة لسياسة «الحياد خاصّتهم». وتنفيذاً للإرادة الغربية، امتنعوا عن بناء علاقات متوازنة مع الشرق، كما امتنعوا عن الاعتراف بالصين، حتى أذِن لهم الأميركي بذلك. العلاقة مع سوريا، تحدّدها علاقات هذه الأخيرة بالولايات المتحدة. إيران بقيَت «صديقة طالما الشاه يحكمها»، ولم تكن «شيعيّة» حينها... لم يحسب هؤلاء أنّ التبعية للخارج ستضع أيقوناتهم جميعها في مهبّ التحوّلات الإقليمية والدولية، وبشكل خاص انعكاس هذه التطوّرات دورياً على الوضع الداخلي وتوازناتها.
بدأت الحروب الأهلية التي أنتجها هذا النظام، تأكل من رصيد النظام نفسه، وأضحى جسمه يعجز تدريجياً عن احتواء تغييرات التوازن الداخلي. ولأنّهم ربطوا الكيان بالنظام، طال هذا التآكل وجود الكيان نفسه، فما كان أمامهم إلّا لحس المبرَد والسعي المستمر للاستجداء الخارجي، للحفاظ عليه عبر محاولات تجميلية تزيد كل مرّة من قبحه وعوامل تأزّمه. ولن ننسى ذلك الدور المشبوه لرجال الدين المسيحيين والمسلمين في حماية النظام وتبرير التبعيّات ومنع الإصلاح، انطلاقاً من تأسيس الكيان إلى دور قمة عرمون في ضرب مشروع الحركة الوطنية، إلى دعوات الحياد المشبوه اليوم.
لن أسترسل في رواية التاريخ، ولنسجّل حقيقة أنّ النظام السياسي قد انهار. لم نعد وحدنا نقول ذلك، بل إنّ رأس النظام هو الذي يسجّل هذه الحقيقة. موقع رئيس الجمهورية كُلِّف، خلال القرن الماضي، بأن يكون ضمانة وجود النظام، وبغض النظر عن الصلاحيات، ها هو يدعو لتغييره وبناء دولة مدنية. وبغض النظر عن المصداقية، فإن رئيس الجمهورية بدعوته هذه، يكون قد غلّف النظام بالكفن. والدعوات لعقدٍ سياسي جديد في الداخل (السيد حسن نصر الله والرئيس نبيه بري)، وكذلك دعوات عرّاب النظام والكيان، الرئيس ماكرون، تؤشر إلى أنّ عمر هذا النظام وربما الكيان، قد انتهى. والآن، يأتي ماكرون باستعراض فولكلوري محمي ببوارج وطائرات عسكرية، في محاولة لتجديد خطوات أسلافه ويلقى ترحيب اليتامى من قوى الطوائف، التي تمهّد له طريق المحاولة، كلّ واحدة من موقعها ولأهدافها.
لا أريد التنغيص على «الرئيس»، ولكن لا بدّ من مصارحته ومصارحة الذين نفّذوا قراره الحكومي، بأنّ رستم وغازي كانا يديران الأمر بحرفيّة أكبر. السبب الرئيسي، أنهما كانا يديرانه لصالح دولتهما، بينما يديره ماكرون لصالح مشروعٍ يلعب هو ودولته دور الكومبارس فيه.
ولفهم ذلك، لا بدّ من مصارحته، أيضاً، بأنّ محاولته تجديد مشروع أسلافه تنطبق عليه صفة «مهزلة تكرار التاريخ». والأسوأ، أنه ما زال يعتقد أنّنا في اللحظة التي أعلن فيها جدّه غورو لبنان الكبير، لذا، لا بدّ من تذكيره ببعض المعطيات التي يختلف فيها الوضع جذرياً عن القرن الماضي. أولاً، في بدايات القرن الماضي، كانت فرنسا الشريكة الثانية لبريطانيا على رأس الاستعمار، وخارجة من انتصار الحرب العالمية الأولى، وتمدّ سيطرتها على جزء كبير من العالم القديم، من أفريقيا إلى شرق آسيا، وبالتالي كانت لاعباً أساسياً. اليوم، هي دولة تأخذ نفوذها من كونها جزءاً من أوروبا التي تترنّح باتحادها، وبشكل خاص من كونها دولة تابعة اقتصادياً وسياسياً للاقتصاد والقرار الأميركيَّين. ثانياً، إنّ استقلالية فرنسا وسيادتها، هما في أضعف مراحلهما، حتّى أنّها وصلت منذ بدء هذا الانحدار (بعد شارل ديغول)، إلى أن تلعب (منذ عهد نيكولا ساركوزي) دور الكومبارس في مشروعٍ أميركي المنشأ والتخطيط. من جهة أخرى، كان النظام الرأسمالي في أوج صعوده وفي قمّة تحوّله إلى الإمبريالية، وكانت فرنسا وبريطانيا قادرتين على نهب مستعمراتهما على حساب رفاهية وحقوق شعوب الدول الخاضعة لهما. أما اليوم، فإن النظام الرأسمالي العالمي يعيش، منذ عام ٢٠٠٨، أزمة تتفاقم وتصل بتأثيرها إلى مركزها في الولايات المتحدة، التي تعيش فترة ازدياد الهوة بين معظم شعبها والقلّة المالكة للرأسمال. بنية انكشف عجزها وانهيار نظامها الاجتماعي والصحّي بعد «كورونا»، ممّا جعل أميركا أكثر وقاحة وإجراماً في مصادرة ثروات العالم ومحاولة التحكّم بمصير شعوب الأرض، وكذلك عاجزة عن ترك حتى الفتات لحلفائها، بما في ذلك الأوروبيّون. وقد وصل الأمر إلى جعلها تسعى إلى إنقاذ اقتصادها ووحدة كيانها، بافتعال حروب ونزاعات إقليمية في كلّ العالم، بما في ذلك الشرق الأوسط، وهي تستخدم في ذلك الدول التابعة لها على مستويات مختلفة، ولا تخرج فرنسا عن هذه الخطة.
لم يعد هذا البلد قادراً على الخضوع للشعار الذي وضعتموه له «قوة لبنان في ضعفه» وشعار الحياد المشبوه


ثالثاً، لم يعد لبنان نفسه ذلك البلد الذي أعلنه غورو، وقال عنه الأميركي إنه «حماقة فرنسية». لم يعد مؤهّلاً للعب الدور الاقتصادي الذي حدّده له الاستعمار. فدول الخليج المستحدثة تمتلك اليوم القدرة على إدارة فتات ثروتها التي يتركها لها الأميركي، وكذلك لم تعد بحاجة للوساطة في العلاقة مع الغرب، وفي مؤامرة التطبيع. أصبحت هذه الأخيرة على أبواب فتح نظامها الاقتصادي، كما السياسي، للكفاءات «الإسرائيلية»، ولاحقاً لتصدير نفطها والاستيراد عبر موانئ فلسطين المحتلّة.
من جهة أخرى، لم يعد هذا البلد قادراً على الخضوع للشعار الذي وضعتموه له «قوة لبنان في ضعفه»، وشعار الحياد المشبوه، فهذا الشعب أنتج معادلة جديدة، منذ أن حرّر عاصمته بالمقاومة واستمرّ بها حتى تحرير معظم أرضه.
رابعاً، في إعلان دولة لبنان الكبير، لم يكن الكيان الصهيوني قد تأسّس وكنتم في مرحلة التحضير لاغتصاب فلسطين مع شريككم البريطاني، ولم تكونوا تحت قيادة الأميركي، وشراكة الخليج وتركيا، قد بدأتم معركتكم ضد موقع سوريا ووحدتها، أمّا اليوم، وبفعل تآمركم على حقوق شعبنا، فقد أصبح في لبنان مليونا مقيم سوري وفلسطيني. كيف ستتعاملون مع هذا الواقع في مشروعكم الجديد؟
حكماً، مشروعكم قائم على فكرة التوطين وإنهاء القضية الفلسطينية، محاولين إغراء الرأسمال اللبناني وزعامات الطوائف بالتعويض، لتجاوز الأزمة التي تراكمت بفعل نظام الفساد الذي ألبستموه للبنانكم، وهذه هي الحصة اللبنانية من المشروع الأميركي، الذي تحاول فرنسا ــــــ ماكرون أخذ موقع على إحدى عجلاته. وهنا تدخل تطوّرات المنطقة. مشروعكم كان ممكناً لو أنّ خطتكم في سوريا قد نجحت أو أن خطة «صفقة إجرام ترامب» قد تمّت. لكن ذلك لم يحدث، وحتماً لا يميل ميزان القوى بهذا الاتجاه. ومن أجل ذلك أيضاً، يطرح ممثلوكم في لبنان فكرة الحياد واستعادة شعار القوة في الضعف، ولكن يا سيّد ماكرون، هذا الشعب قد ذاق طعم الانتصار بالمقاومة، ولن يعود إلى ضعف الحياد. نعم لديكم إحدى نقاط القوة المتمثلة في كون الطرف الحاسم في المقاومة يعيش حالة انفصام، ناتجة عن بعده الأيديولوجي ما بين بياض فعله المقاوم وسواد كونه جزءاً من التكوين الطائفي، حتى يصبح أحياناً الأكثر شراسة في الدفاع عنه.
باختصار، «لبنانكم» انتهى، لبنان النظام الطائفي مات وفساده سيلحقه، لبنان الذي يشكل احتياطياً للمشروع الإمبريالي وأَدَته المقاومة منذ ما قبل عام 1982، ولبنانكم الرأسمالي ودوره الوسيط، أصبح مستحيلاً، وهو يجوّع الشعب ويفقره ويعرّضه بشكل مستمر للحروب الأهلية.
لبنانكم انتهى ولكن أين هو لبناننا؟ أين هو مشروعنا المستقل لبناء وطن آخر، يدفن نهائياً وطن غورو ومحاولات ترامب وماكرون لإعادة صياغته؟ قبل الحديث عن هذا الجانب، لا بدّ من تسجيل ثلاث ملاحظات: الأولى، أنك سجّلت لنفسك إيجابية تكريمك باستقبالك من قبل سيّدة الأمل لدينا فيروز. الثانية، تسيء مجدداً لقيم فرنسا ــــــ الثورة، باستمرار خرق العدالة، باعتقال المناضل جورج عبد الله. أمّا الثالثة، فهي سقوط خطابك الديموقراطي والعلماني بالممارسة، سواء عبر دوركم المكشوف بضرب قشرة الديموقراطية ومسرحية المشاورات، وعبر انكشاف سعيكم إلى تجديد النظام الطائفي بواسطة أركانه في لبنان.
وفي العودة إلى صلب الموضوع، سأحاول تناول المسألة من جانبين، الأول لبناني والثاني عربي، مع تأكيد أنّ الفصل ميكانيكي بهاجس تنظيم العرض. في الجانب الأول، بدون أدنى شك من قِبلي، شكّلت انتفاضة تشرين مرحلة جديدة في عملية تراكم الجانب الشعبي من حركة شعبنا، والذي بدأناه تحت شعار التغيير السياسي والدفاع عن حقوق الفقراء في الجانب الاجتماعي والاقتصادي، وفي مواجهة الانعكاسات الاجتماعية للنظام الرأسمالي ولغطائه المتمثل في النظام الطائفي الذي وضع خطوطه الأولى جدّكم غورو. ولكن وجب علينا، الآن، التكلّم بصراحة، رغم أنّ الاختصار سيفقد المضمون بعض موضوعيته.
الثغرة الأولى، كانت في أننا خضعنا للعفوية وأهملنا جانب التنظيم وبلورة وتوجيه الشعارات، ما وضع القيادة الفعلية في الغرف السوداء (أقلّه في المرحلة الأولى)، وقدّمت هذه الغرف شعارات يمين المجتمع المدني وحصر المسؤولية بأشخاص النظام، وليس النظام بذاته، وكذلك حصر الجانب الاقتصادي بالنتيجة، وليس بالسبب، أيّ بظاهرة الفساد التي ما هي إلّا نتاج طبيعي لنظام التبعية الاقتصادية. ولا أقول إنّنا أهملنا مسؤولية النظام، ولكن استطاعت الغُرف إيّاها توجيه عفوية المنتفضين باتجاه شعاراتها وأساليب عملها.
الجانب الثاني، أنّ إصرارنا على «توسيع التحالف» بين قوى الانتفاضة خفّض السقف السياسي والاقتصادي، وجعله مجرّد عرض في صفحات عديدة لاقتراحات مجملها على مستوى معالجة الأزمة المالية. وللمناسبة، حتى قوى السلطة ومشروع الحكومة السابق وما سبقها، لا تختلف كثيراً عن اقتراحات الجسم الفضفاض لقوى الانتفاضة.
النتيجة الطبيعية لهاتين الثغرتين، كانت تهميش (حتى لا أقول محو) الجانب الوطني لمشروع التغيير الذي حملناه في كل تاريخنا، أيّ اقتران الوطني بالاجتماعي. وإذا كنّا نعيب على القوى الأخرى في المقاومة، أنّها تفصل التحرير عن التغيير، فإنّ خطتنا وقعت في العيب نفسه من الجانب الآخر، أيّ تهميش الوطني بحجة أولوية الاجتماعي. ما أوقعنا في التباس أن نكون موجودين في أطر تحالفيّة مع قوى ربطت هي بين الجانبين من موقع المشروع الآخر، أي المطالب الاجتماعية التفصيلية بالمطلب الأميركي أيّ تطبيق القرار 1559، وتنظيم رحلات التضامن مع طروحات البطريرك، فلعبوا هم دور معاوية وأوقعونا في خانة الأشعري.
لا شك في أنّ قوى المقاومة الأخرى، وخصوصاً حزب الله، وضع نفسه في موقع المتّهم عبر حماية النظام نفسه المتآمر على المقاومة، وكان جمهوره في موقع اليد الضاربة لهذا النظام في مواجهة الجمهور المنتفض. ولكن هذا لا يمنع من التفتيش عن الثغرات، ولو الشكليّة، التي جعلت تواصلنا مع «بيئة» هذه القوى وحلفائها في السلطة عملية صعبة. ربما تشكّل دعوة رئيس الجمهورية، والسيّد حسن، لبناء الدولة المدنية، وبغض النظر عن أهدافها ومصداقيتها، خرقاً في إعادة التواصل، كما في ضرورة التفتيش عن آليات اختراق البيئات الأخرى.
في العودة إلى المشروع، لم تعد مجدية الصفحات التفصيلية من الاقتراحات التي تقلّد البيانات الوزارية (البديلة). لسنا في هذا الموقع، كما أنّ احتمالات تشكيل حكومتنا، حكومة الانتفاضة، ليست موجودة. يجب أن نعمل على فرض شعاراتنا الأساسية، والتي يمكن اختصارها بأسطر قليلة: قانون نسبي لاطائفي وعلى أساس الدائرة الواحدة ــــــ تغيير بنيوي للاقتصاد يقطع مع بنية التبعية للخارج ويحقق الاستقلالية والتنوّع في علاقاتنا الخارجية، ويرتكز إلى الاقتصاد المنتج ــــــ فرض قانون استقلالية القضاء وأمامه مهمّتان أساسيتان: استعادة المال المنهوب والمحاسبة للمتورّطين والمقصّرين والمهملين في الجريمة الكبرى المتمثّلة في تفجير المرفأ. إلى جانب ذلك، التأكيد شعاراً وممارسة على موقع لبنان إلى جانب قضيّتنا الأساسية، قضيّة فلسطين وحق شعبنا الدائم في المقاومة، وتأكيد انتمائنا لمشروع عربي تقدّمي يحتضن ويتكامل مع معركة بناء وطننا الديموقراطي العربي والعلماني.
نقطة إلى جانب هذا المشروع، وللدلالة على ضرورة عدم الارتكاز إلى نمط عمل المجتمع المدني، والذي يجب أن لا يدفعنا التعاون مع بعض مؤسّساته في جوانب معيّنة، إلى أن نتحوّل إلى «مجتمع مدني» بالمفهوم السائد. لقد برهنت الأيام الماضية وشهادات الأهالي المفجوعين والمتضرّرين، أن بعض، حتى لا نقول معظم، الجمعيات الموجودة على الأرض، ينخرها الفساد كما مؤسّسات الدولة، وكنت اقترحت العودة إلى تقليد أساسي مارسناه خلال الحرب الأهلية، وفي مواجهة الحصار الصهيوني، أي العودة إلى نمط العمل الشعبي المرتكز إلى لجان يختارها المتضرّرون أنفسهم، تتولّى مهمّة إعانة نفسها وملاحقة قضاياها الملحّة، مع تشكيل لجانٍ من المهن الحرّة لمساعدتها ومواكبة عملها. ولكن للأسف يبدو أننا استسهلنا النمط الآخر، ولم يجرِ حتى البحث في هذا الاقتراح.
هذا المشروع، لا يمكن أن يكتمل من دون حضنه العربي التقدّمي، لبنانهم صاغوه على قاعدة «الحياد»، وضمناً على قاعدة وظيفته في إطار المشروع الغربي، الذي كانوا يتباهون بأنهم جسره نحو الشرق. انهار الجسر وأوقعوا شعبنا في غياهب الطائفية والمذهبية والحروب الأهلية، وكذلك في الفقر والجوع. لماذا هذا الربط؟ حكماً ليس ربطاً ذاتياً، بل هو نتاج الموقف والتجربة والتاريخ، الذي أثبت أن لا تغيير في لبنان (أو أي بلد عربي آخر) من دون احتضان عربي متكامل في الطبيعة والمشروع. بالتأسيس على ما سبق، لا معنى لمشروعنا الوطني من دون مداه العربي، فحتى لو انتصر سيتم إجهاضه. «العروبة التقدمية»، هنا، لا علاقة لها بالمفهوم المبتذل للعروبة التي يضعونها في مواجهة مفتعلة تشكل جزءاً من المشروع الأميركي ذاته، ليست عروبة التطبيع مع العدو، وليست عروبة تبديد ثروات العرب في دعم الاقتصاد الأميركي المأزوم والأوروبي المنهار. إنها عروبة تقدمية ببعدها السياسي المحتضن لقضية شعب فلسطين، ترفض «صفقة القرن» وتواجهها وتتبنّى قضية العودة كحق للشعب الفلسطيني إلى فلسطين وكلّ فلسطين. ولا يمكن لأيّ طرف يساوم على هذا الحق، أن يكون منها أو ينطق باسمها، هي عروبة تحدّد أعداءها وأصدقاءها انطلاقاً من موقف هؤلاء من هذه القضية.
أما الجانب الثاني، فهو المتعلق بالثروة العربية، وأبادر إلى القول إنّ هذا لا يعني أنّنا نريد مصادرة هذه «الثروة»، بل نريد توجيهها باتجاهها الصحيح. بدل أن توهَب للأميركي لإنقاذ اقتصاده، نناضل باتجاه تصحيح بوصلتها باتجاه شعوبنا التي تعاني من الجوع وغياب التنمية، وهذا لا يمكن أن يكون بإحسان أصحاب الجلالة والسمو، بل يكون في إطار من التكامل الاقتصادي العربي، الذي لا يتحقّق إلا بتكامل التغيير في كلّ هذه البلدان. وعلى مستوانا أيضاً، لا يمكن للاشتراكية استكمال قاعدتها المادية، كما السياسية، إلا في هذا المدى الأوسع. إنها إذاً عروبة أخرى تشكّل امتداداً وتفاعلاً لكلّ التجارب التقدّمية العربية غير المكتملة والمتناقضة، والتي تمّ التآمر عليها من الإمبريالية و«عروبة الخيانة والتطبيع».
مشروعهم قائم على التفتيت وسرقة الثروات وإنهاء قضية شعب فلسطين، فليكن مشروعنا مواجِهاً طبيعياً لهذه الأهداف. لنعترف أنّ مشروعنا، وإن لم يكن غائباً، هو الأضعف. لا نلوم الآخرين الذين أتوا بمشاريعهم الأخرى الملبّية لمصالحهم الإقليمية والدولية (وضمناً إيران وروسيا والصين وسواها)، فهم يحاولون ملء فراغنا العروبي والتقدّمي، كما لعبواً دوراً قياسه مصالحهم القومية التي حقّقت توازناً في الصراع القائم في منطقتنا. إنّ بلورة المشروع التقدّمي اليساري المقاوِم، وحده الطريق إلى تمحور المشاريع الأخرى حوله، ومع تبلور ميزان قوى مناسب نستطيع الحكم على العلاقة مع أي طرف.
وقبل أن يساء الفهم، لا نقصد إلغاء القائم من مئة عام، لقد خلق «سايكس ــــــ بيكو» هذا الواقع، ولكنّ هذا المشروع انهار باعتراف أصحابه وبديله اليوم هو «صفقة القرن»، أي المزيد من التفتيت والتبعية والنهب وإنهاء الحق الفلسطيني. الصحيح ليس التمسك بـ«سايكس ـــــ بيكو» «نكاية» بـ«صفقة القرن»، بل بتجاوز مشاريعهم مع احترام الواقع الذي خلقه «سايكس ــــــ بيكو» باتجاه تجاوزه وليس الدفاع عنه. تجاوزه إلى إطار عربي متكامل ومتدرّج، يبدأ بالاقتصاد وقد لا ينتهي بالسياسة، وقد يعتمد صيغة الاتحادات المناطقية أولاً (المشرقية، المغاربية والخليجية) متعاونة باتجاه تجاوزها في مرحلة لاحقة. هذا ما يشكّل الحضن العربي لمشروعنا للتغيير في لبنان.
قد يقول البعض إنّ ذلك سيستفزّ بعض شركائنا في الانتفاضة. مرة جديدة، أؤكد أنّهم منحازون ويثبتون ذلك كلّ يوم، الإصرار على لبنان «الوسيط» و«المنعزل» هو بحد ذاته انحياز للمشروع الآخر. على قوى اليسار في الانتفاضة وخارجها، أن تضع همّ توحيد صياغتها وفعلها لممارسة التغيير، وبعدها تبحث عن التقاطعات مع المنابر الأخرى داخل الانتفاضة وخارجها أيضاً، تقاطعات غير انتقائية تنطلق من تكامل مشروعنا.
وعلى اليسار العربي، اليوم، أن يعمّق نقاشه باتجاه صياغة مشروعه، الموجود نظرياً، ولكن يلزمه الفعل. إنّ تعطيل اللقاء اليساري العربي، وعدم تطويره، نقطة سلبية علينا تجاوزها بشكل سريع. المشروع الآخر يمشي بوتائر سريعة، وفعلنا في مواجهته ضعيف وبطيء، ولا يكفي البكاء على مجيء مشاريع إقليمية ودولية تملأ فراغنا.
بعد مئة عام، «لبنانكم» انتهى و«لبناننا» يعاني ألم المخاض، المخاض عاملٌ موضوعي وليس بالضرورة أن ينتج عنه مولود سليم، فقد يحدث الإجهاض. المعركة طويلة وصعبة ومليئة بالتضحيات، قد لا تنتظر قرناً كما مضى، ولكنّها أيضاً لن تنتهي في أيام.

* الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا