حملت مذكرة الحياد التي أطلقها بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للموارنة، بشارة الراعي، الكثير من القفزات التاريخية وغير العلمية، ما يستوجب تفنيدها وربطها بواقع الصراع الاجتماعي الحاصل في لبنان اليوم. تنطلق المصادرة التاريخية للنتائج، من اعتبار الراعي أنّ طرحه للحياد في الخامس من تموز الماضي «حظِيَ تأييداً واسعاً متعدِّدَ الطوائف والأحزاب، وكان كمٌّ كبيرٌ من المقالات المؤيِّدة، وإن صَدَرَ بعضُ التحفُّظات والتساؤلات»، غير أنّ الراعي لا يعطي أرقاماً علمية أو دراسات أجرى بناء خلاصته عليها. هو يكتفي بـ«كمّ كبير من المقالات المؤيدة»، من دون أن يذكر أيضاً أين وكيف وعددها وانتماءها وتنوّعها. كان من الأجدى أن يضع طرحه في الاستفتاء على اللبنانيين، أو أقلّه للتداول بين القوى السياسية المشكّلة للنسيج الوطني. وبرغم هذه المصادرة اللاعلمية، يمضي الراعي معتبراً أنّ هذا التأييد دفعه إلى إصدار المذكّرة.
طرح الحياد الذي يواكَب بأوركسترا ترويجية إعلامية وسياسية محدّدة (تصريح سمير جعجع في ميلاد القديس شربل في بقاعكفرا حمل العبارة نفسها عن تأييد واسعٍ للحياد)، وضع الراعي له مساراً دبلوماسياً ينتهي بمجلس الأمن، من دون أن يأخذ في الاعتبار المكوّنات اللبنانية الأخرى، أو المسارات الرسمية للتواصل مع الأمم المتحدة عبر وزارة الخارجية اللبنانية. هو تحدّث عن «العمل مع سفراء الدول لنصل إلى مجلس الأمن». وفي هذا تعدٍّ على صلاحيات الإدارات الرسمية، وفرض لموضوع خلافي وسجالي كبير على بقية الأفرقاء اللبنانيين، الذين يجدون أنّ الطرح غير واقعي، إذ إنّ لبنان لم يهاجم في تاريخه أي دولة، بل كان دوماً في موقع المعتدَى عليه.
وعوداً إلى تفنيد المذكّرة وقفزاتها التاريخية، يُسقط الراعي فيها جملة بدون خلاصة، وهي «أثناءَ وضع الدستور اللبنانيّ سنة 1926 طلب المفوّض السامي الفرنسي هنري دو جوفنال (Henri de Jouvenel) من حكومتِه، أن تُرسِل له نسخةً من دستور سويسرا إذ وجده مناسباً للتركيبة اللبنانية». ومن مبدأ الشيء بالشيء يذكر، نسأل هل طلب نسخة من الدستور السويسري يعني أنّه مناسب، ولكنّه لم يُعتمد؟ وهل سؤال إنسانٍ عن علم الجريمة يجعله مجرماً أو عالماً جنائياً؟ بالطبع لا، والجواب يقع أيضاً في كلام الراعي نفسه «ربّما حيادُ لبنان، كنظامٍ دستوريٍّ، لم يكن حاضراً في ذِهنِ مؤسِّسي دولة لبنان الكبير».
وإذ ينطلق البطريرك الراعي إلى إعطاء المسوّغ التاريخي للحياد من وجهة نظره، يخلص إلى أنّه بفضل سياسة الحياد «تمكَّن لبنان من المحافظة على وِحدةِ أراضيه رغمَ مشاريعِ الوحدةِ العربيّة، ورغمَ جميع الحروب العربية/ الإسرائيلية. فجميعُ البلدان المتاخِمةِ لإسرائيل (سوريا، الأردن ومصر) خَسِرت أجزاءً من أراضيها باستثناءِ لبنان». في هذه العبارة، كمّ مهول من القفزات العشوائية، فهو يضع الوحدة العربية التي راجت في مرحلة القومية القريبة من احتلال فلسطين، بموازاة الحروب العربية ــــــ الإسرائيلية، كما أنّه لا يوضح للقارئ أنّ لبنان عانى من الاحتلال، وأنّه استرجع أراضيه بفضل العمل العسكري للبنانيين والذي تُوّج بالانتصار العربي الوحيد عام 2000.
ولا داعي إلى تفنيد الربط الضعيف الذي ساقه الراعي في مذكّرته، بين ما يراه حياداً والبحبوحة الاقتصادية، إذ تصدّى لذلك مقالٌ مفصل للصحافي محمد وهبة في «الأخبار» في حينه، وجلّ ما أضيفه أنّه تحدّث عن عناوين عمومية تنفع لمرحلة الستينات من عمر الوطن، حين كان الخليج في بداية التقدّم.
طرح الحياد الذي يواكَب بأوركسترا ترويجية إعلامية وسياسية محدّدة وضع الراعي له مساراً دبلوماسياً ينتهي بمجلس الأمن


يصف الراعي اتفاق القاهرة بالتنازل عن السيادة، فهو الذي شرّع العمل العسكري الفلسطيني من لبنان عام 1969، ويتجاوز سياسة الدولة اللبنانية التي تنازلت وأذعنت أمام المجازر الإسرائيلية التي بدأت في حولا عام 1948، وراح ضحيّتها نحو 90 مدنياً، وبعدها الاعتداءات اليومية على الأهالي وقضم الأراضي الذي عانى منه الجنوبيون، بدون أن تحرّك الدولة اللبنانية ساكناً. والراعي في قفزته هذه، يتجاهل أنّ القرار السياسي اللبناني، وقبل «البندقية الفلسطينية»، كان مستهتراً بالأطراف، وما رسالة العلّامة السيد عبد الحسين شرف الدين إلى رئيس الجمهورية بشارة الخوري، إلا دليل على ذلك. حينها، طالب شرف الدين الدولة بالدفاع عن أبنائها، أو إعطائهم السلاح للدفاع عن أنفسهم، وقد أتت هذه الرسالة بفعل الافتئات بحماية السيادة اللبنانية.
يضع الراعي احتلال إسرائيل لجنوب لبنان، عام 1978، وانتشار المنظّمات الفلسطينية ودخول القوّات السورية عام 1976، ونشوء حزب الله في عام 1981 (بحسب الوثيقة) في سلّة واحدة، ويعزو ذلك إلى نتائج عدم حياد لبنان. ويضيف أنّ حزب الله «نشأ حاملًا مشروع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة بأوجهه الدينية والعسكرية والثقافية». نستنتج من خلال التواريخ التي وضعت للمراحل في هذه في المذكرة، أنّ الاحتلال بدأ عام 1978 وانتهى عام 2000، أي أنّ الراعي حسم عدم لبنانية القرى السبع، ولا مزارع شبعا، ولا تلال كفرشوبا، فهو يفتي بالحدود والتاريخ والسياسة والمجتمع والطوبوغرافيا. وليته يخبرنا أين تكلّم أبناء الجنوب الفارسية، أو متى بدأ تشيّعهم، أم أنّهم من نقل التشيّع إلى إيران في عهد الدولة الصفوية؟ هذه الأحداث التاريخية، لا يُفترض أن يمرّ عليها رجل كالراعي ببساطة، إلّا إذا كان عامداً تقليب الحقائق طمعاً بخلاصات تاريخية لاحقة.
وفي شرحه لمفهوم «الحياد الناشط»، يطالب الراعي بعدم دخول لبنان في أيّ محاور إقليمية، ويتجاهل أنّ الاعتداءات التي طالت لبنان بدأت من إسرائيل وليست منه. كما يغضّ النظر عن الأطماع بمياه وثروات لبنان المحتملة، وما الخلاف على حدود واحد من مربّعات الغاز في المياه اللبنانية، إلّا مصداق على الأطماع الإسرائيلية. فهل يريد أن يُحلّ هذا الموضوع على غرار حلّ القرار 425 لخروج القوات الإسرائيلية من الأراضي التي تحتلّها في لبنان (لم يطبق)، أو ملف عودة اللاجئين المعلّق منذ 72 عاماً.
وفي موضوع اللاجئين، تعطي «مذكّرة الحياد» حلّاً ضبابياً يقوم على «إيجاد حلٍّ للّاجئين الفِلسطينيّين لا سيّما أولئك الموجودين على أراضيه». كيف؟ ومتى؟ وهل هي مشكلة بسيطة بات يتقبّلها من يعيش خوف الديموغرافيا؟ أم أنّ الأمر يندرج في سياق التسوية الشاملة في المنطقة والتوطين؟
ولعلّ أخطر ما في «مذكّرة الحياد» هو الإشارة إلى إرشاد البابا يوحنا بولس الثاني بخصوص لبنان ودعوته إلى «اتخاذ مبادرات للمصالحة والتقارب بين مختلف الدول العربيّة والإقليميّة وحلّ النزاعات»، فمن هي هذه الدول الإقليمية غير إسرائيل؟ برأيي، لا يمكن عزل هذا الخطاب عن سياق هيَجان التطبيع في المنطقة.
على أنّ وصول «مذكّرة الحياد» إلى إحياء الحديث عن تعدّدية ثقافية وحضارية، يطرح أسئلة عن توقيت ذلك، في ظلّ تصاعد النزعات العنصرية في لبنان. ومن المفيد الرجوع هنا إلى رأي الدكتور عصام خليفة في كتابه «في معترك القضية اللبنانية» بشأن التعدّدية الحضارية. يعتبر خليفة أنّ «طرح التعددية الحضارية هو مقدّمة لحل الكانتونات، ولبلقنة المشرق العربي بما يتّفق مع مخطّطات العدو الصهيوني والقوى الدولية، التي تريد استمرار سيطرتها على منطقتنا». ويضيف أنّ التمايز بين الطوائف لا يشكّل «تعدّد حضارات».
ولعلّ طرح البطريرك الراعي يعيد إحياء نتائج خلوة سيدة البير في 21-23 كانون الثاني من عام 1977، حيث ينصّ على «اعتماد تعدّدية المجتمع اللبناني بتراثاته وحضاراته الأصيلة»، و«رعاية كل مجموعة حضارية فيه جميع شؤونها».
يحدّد خليفة منطلقات ادّعاء أصحاب مقولة «التعدّدية الحضارية» بأربع نقاط:
1 ـــ المسيحيون أصحاب عمران
2 ـــ المسيحية هي حافز للتقدّم والرقي
3 ـــ المسيحية تنطلق من قبول تمايز الآخرين
4 ـــ المسيحيّون علمانيون في أساس عقيدتهم
ويفنّد في كتابه، الردود على ذلك بمنهجية علمية يضيء فيها على الاختلالات لدى المسلمين ولدى المسيحيين، ويعزو الأمر إلى الواقعَين الاجتماعي والتاريخي، وليس إلى العقيدة، كما ذهب الأب يوسف مونس من خلط العروبة بالإسلام واعتبار «العقل العربي يعاني انحرافات لا يمكنه التخلّص منها».
يقول خليفة إنّ تيار الحداثة، كان دوماً مصارعاً للكنيسة، كما أنّ تقدّم الكنيسة كان لاحقاً لتقدّم المجتمع، كما أنّ بلداناً كاليابان لا تدين بالمسيحية هي في أرقى مراتب التقدّم، كما أن بلداناً تدين بالمسيحية لا تزال متخلّفة.
وقد يكون الراعي قد وقع في تناقض الكلام عن تعدّدية حضارية، وعن انتماء لبنان إلى العالم العربي. فإذا كانت العروبة هي الدمغة الأساسية لهذه المنطقة، وإذا كان يؤكّد انتماء لبنان لهذا الواقع، فعن أي تعدّدية حضارية يتحدّث. جدير بالذكر أنّ الاعتراف بانتماء لبنان للعالم العربي، هو أمرٌ محبّذ لا بل يسير على عكس ما دأبت عليه أوساط الموارنة في لبنان، من التحاق بادعاء الفينيقية، وهو أمرٌ تراجع بشكل نسبي مع ربط الفينيقيين بالجزيرة العربية، غير أنّ النزعة التفوّقية دفعت إلى الوقوف خلف دراسات جينية تحدثت عن قوقازية الفينيقيين (دراسات لم تصمد علمياً).
لا يمكن فصل هذا الخطاب عن سياق التنافس في المنطقة، غير أنّ أبسط مقوّمات المنطق تقتضي المنهجية التاريخية السليمة، والبحث العلمي الواضح المعالم. إنّ السرقة الكبرى التي حصلت لودائع اللبنانيين عبر البنوك، التي حظيت برعاية سياسة ودينية، ستكون عاملاً مساعداً لنمو وتصاعد الحركات العنصرية التفوقية. خصوصاً أنّ البعض بات ينحو لتحميل فريق محدد المسؤولية عمّا آلت إليه البلاد متناسياً أنّ السرقة الكبرى والفساد منبعهما غير هذا. ولعلّ ما استشعره بعض اللبنانيين من نعرات بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020، هو بعض من تصاعد النزعات الطائفية. إذ عمل إعلام مأجور وفرق سياسية على توجيه الاتهام إلى مكوّن لبناني سقط له شهداء في هذا التفجير وتهدّمت له أحياء، غير أنّ الصبغة العنصرية حوّلت الفاجعة، من موقعة للتضامن إلى موقعة للتنابذ والحقد، معيدة إلى الأذهان عنصرية اليمين قبيل الحرب اللبنانية.
*صحافي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا