مُنذ هزيمة عام 1967 ورحيل الرئيس جمال عبد الناصر، يواصل النظام العربي الرسمي تفكّكه وانهياره أمام تقدّم المشروع الإمبريالي الصهيوني الرجعي في المنطقة، حتى بدأنا نرى هذه الحقيقة تسير اليوم في وتيرة عالية غير مسبوقة، إذ يلهث أقطاب هذا النظام برعاية الولايات المتحدة نحو التطبيع العلني الشامل مع الكيان الصهيوني، وصار يرى في منظومة الاستعمار والعبودية طوق النجاة الوحيد لوجوده والطريق الآمن نحو رضى البيت الأبيض. فالعلاقة القائمة بين إسرائيل والنظام العربيّ الرجعي، في الجوهر، هي علاقة المصير الواحد المشترك والمعسكر الواحد. لقد فَرَطت مَسبحة التطبيع الرسمي (الاسم الرديف للهزيمة والعلاقات العلنية مع الكيان الصهيوني) منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد 1979، واتفاقيتَي أوسلو 1993 ووادي عَربَة 1994. غير أنّ العلاقات والتعاون بين هذه الأطراف كُلهّا برعاية الإمبريالية الأميركية وبريطانيا وفرنسا وغيرها تعود إلى عقود سبقتها، فلا أحد يُصدّق أنّ علاقة النظام الأردني بدأت مع إسرائيل في عام 1994 مثلاً!
وليست صُدفة أن تُحدّد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في زمن غسّان كنفاني، مُعسكر الأعداء والأصدقاء في وثيقتها التاريخية المعروفة بـ«الاستراتيجية السياسية والتنظيميّة ـــــــ شباط 1969»، حيث اعتبرت أنّ قوى الإمبريالية والصهيونية والرجعية تشكّل معاً حلِفاً مُقدّساً واحداً، سيَعمل على تصفية قضية فلسطين والحقوق العربية. وعليه، فلا بدّ من مُجابهة كلّ هذا المعسكر المعادي وكشف مخططاته وأهدافه.
يَكمُن الضعف الأساسي في الموقف الفلسطيني الرسمي بشأن مواجهة اتفاق دولة الإمارات وكيان الاحتلال الصهيوني، في غياب مصداقية السلطة الفلسطينية وفي سقوط نهج التطبيع والفساد الفلسطيني الرسمي الذي أسّست له القيادة المتنفّذة في منظمة التحرير. إنّه اليوم في العراء تماماً... إذ لا بدّ من اتّساق وانسجام بين الرسالة والرسول.
هناك مؤسّساتٌ ولجانٌ وفصائل في المنظمة لا دور لها إلا التطبيع وتبرير الفساد والهزيمة


هل ننسى اليوم مثلاً، كيف ذهبت مجموعة من الفلسطينيين، في السر، وبتفويضٍ من ياسر عرفات، إلى اتفاق أوسلو ومن خلف ظهر الشعب الفلسطيني ومؤسّساته؟
هناك مؤسّساتٌ ولجانٌ وفصائل في المنظمة لا دور لها إلا التطبيع وتبرير الفساد والهزيمة. وإذا كانت قيادة المنظمة ترفض التطبيع حقاً، فلماذا إذن لا تزال باقية على ما يسمى لجنة التواصل مع المجتمع الصهيوني ونهج التنسيق الأمني وعلاقاتها المشبوهة مع وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية ــــــ «سي آي إيه»؟
نظام الإمارات الرجعي الظلامي، ليس هو صاحب الدور المركزي في شرذمة وتفكّك حركة «فتح»، وفي تدمير مؤسّسات منظمة التحرير، وضرب كلّ ركائز المشروع الوطني الفلسطيني التحرّري، وحشره في مشروع حكم الإدارة الذاتي؟ هل نظام بن زايد هو من أنتج محمد دحلان وفريقه أم ورِثه من مرحلة سابقة؟ وكان دحلان شريكاً أساسياً في منظومة أوسلو والتعاون الاستخباري والأمني مع العدو، وهو مثل محمود عباس وجبريل الرجوب جاء من الجذر الفاسد ذاته، والكلّ يتلطّى خلف صورة ياسر عرفات ويعتبر نفسه وريثه الشرعي الوحيد.
لقد واصلت قيادة منظمة التحرير سياسة المفاوضات والعبَث والتطبيع ومارست أشكال القمع والتغوُّل على الحقوق الفلسطينية، ودافعت عن هذا النهج الفاسد وبرّرته، وهي التي تتحمّل المسؤولية عن إنتاج ما يُسمى «الانقسام» بين غزّة والضفّة، وليست مشيخات قطر والسعودية وعُمان، ولا أنظمة مصر وتركيا فقط... فهذه كلّها مزبلة واحدة، وإن اختلفت وتعدّدت ألوان أكياس القُمامة في الحاوية الأميركية ذاتها.
السلطة الفلسطينية التي تُمثِّل مصالح 1% ومصالح طبقة البنوك والمال و«شركات السلام الاقتصادي» في الضفة المحتلّة، أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من تركيبة النظام العربي الرسمي المهترئ وتيار الهزيمة والاستسلام في المنطقة، وهي الطرف الأكثر ضعفاً فيه والجسر الذي داست ومرّت فوقه كلّ مشاريع الخيانة والتطبيع.
وماذا يمكن أن نقول نحن الفلسطينيين لشهداء تونس ومصر وسوريا ولبنان والكويت والإمارات والسودان والأردن وغيرها من الذين قاتلوا من أجل تحرير فلسطين، ولم يقاتلوا من أجل سلطة حكم ذاتي مسخ تحت بساطير الاحتلال؟ أين المسؤولية الوطنية الفلسطينية؟
إنّ المطلوب، اليوم، من قوى المقاومة الفلسطينية بشكل خاص، ليس الذهاب إلى مقر المقاطعة في رام الله للاصطفاف خلف قيادة فلسطينية فاسدة باعت شعبَها وحقوقه في المزاد العلني، بل مُحاسبتها على جرائمها التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني وبحق الأمة العربية وأحرار العالم... ومن يشارك في تلميع هذه القيادة يتواطأ معها، ويشارك في الجريمة.
هذا النظام العربي الآفل حتماً، ومن يرعاه في تل أبيب وواشنطن ومعه سلطة رام الله، هو كلّ معسكر العدو الذي يريد ذبح قضية فلسطين، حتى لو اختلف على طريقة الذبح وشكل المسلخ والسكين.
* كاتب فلسطيني