بعد رحيل جمال عبد الناصر غاب، تدريجياً، عن أدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية مصطلح «الرجعية العربية»، الذي كان يُسمّى في أوساطٍ واسعة عدوّاً، إلى جانب «الصهيونية» و«أميركا». شكّلت هزيمة 1967 ضربة حقيقية للراديكالية العربيّة، بمعنى أنّ الهزيمة لم تدفع الجذريين العرب إلى إعادة النظر في وسائلهم، والبحث عن أدوات واستراتيجيات جديدة لتحقيق أهدافهم، بل جعلتهم يشكّكون في إمكانية الصراع وواقعية هذه الأهداف من الأساس.ولأنّ عملية التراجع الأيديولوجي، حين تبتدئ، لا تتوقّف ببسهولةٍ عند حدّ، فقد حصل استبدال لخطاب «الرجعية العربية» بخطاب مديح الملوك والشيوخ، والمبالغة فيه، وتقليدهم وسام فلسطين كلّما تبرّع أحدهم بدراهِم. توقّف التشكيك في شرعية العروش العربية وتوزيع الثروة بين أقطارها، وتهذّبت اللغة فاختفت ــــــ في حضور هؤلاء ــــــ تعابير مكافحة الصهيونية والكفاح المسلَّح وتحرير فلسطين، فتراجعت لصالح الحديث المبهم عن «مقاطعة إسرائيل» و«دعم الشعب الفلسطيني». هنا نعود إلى أصل المشكلة، فهذه الدول ــــــ لعقودٍ طويلة ــــــ لم تُقِم علاقات رسمية مع إسرائيل، والتزمت ظاهرياً بمقاطعة الكيان، ولكنّها كانت بيادقَ في المنظومة الأميركية التي تحرس الاستعمار الصهيوني وتضمن استمراره وتمدّده (وجزء كبير من النقاش الداخلي بين النخب الخليجية، في السنوات الماضية، كان يدور حول هذه النقطة تحديداً: قسمٌ من مثقفي المؤسسة يطالب حكوماته بأن تستمرّ على حال «التستّر»، أي التعامل مع إسرائيل كالسابق من تحت الطاولة أو عبر واسطة أميركا، ولكن ليس مباشرة وعلانية. ولكنّهم لا يذهبون للمطالبة بإعادة النظر في الخيارات والولاءات السياسية لأنظمتهم ــــــ ولأنُهم ينتقدون شكلية التطبيع وليس المسار الذي أوصل إليه، فمن الطبيعي أن يُهزم منطقُهم في نهاية الأمر).
في صراعات على هذا المستوى، لا مكان لفكرة «أضعف الإيمان» أو الالتزام بالمظاهر والشكليّات، فالتاريخ يتحرّك وأنت إمّا أن تكون على جانبٍ منه، أو لا وجود لك. وتعبير «العجز العربي» عند الشكوى من حال فلسطين، هو الآخر من نتاج حقبة الهزيمة وعصر الصعود الخليجي. «العجز العربي» يشبه معادلة «كلّن يعني كلّن» في السياسة اللبنانية، بمعنى أنّه يعمّم حيث يجب أن يخصّص، ويخصّص حيث يجب أن يعمّم (أي يوجّه إلى أفراد وقيادات بدلاً من أن تحدّد المشكلة في المنظومة التي أوجدتهم)، ويبدو جذرياً في الظاهر فيما هو وصفةٌ للعجز والشكوى.
أكثر من ذلك، لا وجود لشيء اسمه «العجز العربي»، بل كان لدى الدول العربية، في أية مرحلة سابقة، ما يكفي من الموارد والإمكانات ـــــــ عسكرية ومادية وبشرية ودبلوماسية ــــــ للانتصار على المشروع الصهيوني، أو أقلّه لجعل الحياة في إسرائيل جحيماً، وأن لا يتمكّنوا من سحق الفلسطينيين، وأن لا يعيش أكثرنا تحت إمرة السلاح الإسرائيلي وسطوته (حين يتكلّم البعض عن أنهم يريدون سلاماً وحياداً ولا يريدون السلاح والعنف، فهم لا يقصدون أنّنا سنعيش في عالمٍ مسالمٍ من غير سلاح، بل إنك ستجرَّد من سلاحك وحدك، ويظلّ سلاح غيرك في الميدان مسلطاً عليك). وهم استخدموا هذه الموارد بكثافة في كلّ الحروب العربية خارج فلسطين؛ بل إن كان قد صار من «تخصّصٍ» للسعوديين منذ السبعينيات، وبعدهم قطر والإمارات، فهو في إضرام الثورات المسلّحة في بلادٍ أخرى، وتأسيس شبكات دعم وميليشيات وتصدير مقاتلين، مع أيديولوجيا تحيط بهذه الجهود ــــــ ولكنّهم يستخدمونها حصراً لصالح أميركا وضدّ أعدائها.
اليوم، لا معنى لهذا الكلام، فكلّ الحكومات العربية تقريباً تقيم، بدرجةٍ أو بأخرى، علاقات وتواصل مع الكيان الصهيوني. هي الجزائر وسوريا والعراق (خارج كردستان) ولبنان واليمن (خارج «اليمن الرسمي»)، لا تزال على الموقف المبدئي لا أكثر. وفي هذا السياق، سيكون من الغباء أن يقدّم الإسرائيليون أي شيءٍ للفلسطينيين، فالمحيط العربي لم يعُد معادياً (ومن الأسهل أن تنتظر تغيّر مواقف الدول «المارقة» أو تغيير أنظمتها أو تدميرها، وهي جهودٌ جارية، من أن تعطي الفلسطينيين تنازلاً حقيقياً. لم يعُد «معسكر السلام» اختراقاً في المنظومة العربية، نحن أصبحنا الاختراق والعنصر الغريب)، ولا تواجه إسرائيل خطراً وجودياً من الحركة الوطنية الفلسطينية ـــــــ ليس لأنّ الفلسطينيين ليسوا شعباً مكافحاً، بل لأنّه من شبه المستحيل أن تشنَّ «حرب تحريرٍ» ضد إسرائيل فيما الدول الحدودية حليفة لها، وتشارك في حصارك ومنع أي شكلٍ من أشكال التنظيم والكفاح المسلّح.

عن العنصرية ضدّ الفلسطيني
من نتائج مرحلة أفول الراديكالية أيضاً، تسرّب ما يمكن تسميته بـ«النظرية التمويلية للنضال»: يقول لك أحدهم إنّ هذا الملك أو ذاك الشيخ، رحمه الله، كان يحبّ فلسطين، وكان «معنا». فتسأل كيف، تحديداً، كان معنا؟ هذا تآمر عليك وساهم في ضياع فلسطين وكان رجل الأميركيين في المنطقة. هل أخذ موقفاً مكلفاً لصالحنا؟ هل شارك معنا في معركة؟ هل نزف معنا؟ فيكون الجواب باختصار أنّه «دعمنا»، أي دفع مالاً لا أكثر ولا أقل، أو «سمح» لنا بالعمل في بلاده ولم يطردنا (وفي حركات التحرّر الوطني، المال من غير سلاح هو ليس دعماً بل مفسدة، إذ إنّه سيرتّب عليك ثمناً سياسياً وتبعية، وستكون هذه التبعية لمن لا يريدك أن تقاتل). لسنا في صدد سرد التاريخ الذي أوصلنا إلى هنا، والعوامل كانت متعدّدة. جزء منها براغماتي، فأنت لن تعادي وحدك نظاماً عربياً أصبح مركزه الخليج، بعدما تراجعت حتى أكثر الأنظمة «الثورية» عن مواجهة الرجعية العربية، وجنحت إلى التصالح والتعاون معها؛ وجزء منها انتهازي، يتعلّق بمصالح النخب والقيادات؛ كما أنّ علاقاتك وخياراتك تأخذ حياةً خاصة بها، وتولِّد ثقافةً لها معايير مشوّهة، تتسامح مع العدوّ الفعلي ولا يغريها الحليف الفقير وتقيس النضال بالقرش قبل الدم.
المشكلة هي أنّ كلّ هذا لم يعفِ الشعب الفلسطيني من التعرّض لموجاتٍ متكرّرة من العنصرية وتحقير وطنه وقضيّته، بـ«رعايةٍ حكومية»، وهي تأتي دائماً بالترافق مع كلّ انفتاح عربي على إسرائيل. وهذه الهجمة لا تقتصر على ما يسمّى بـ«الذباب الإلكتروني»، الحكومي والأمني، بل تقودها أيضاً نخَبٌ ووجوه ومثقّفون يتماهون مع البلاط (وفي حالة الخليج فإن الشعب في الداخل، إن كان يعارض قرار حكوماته وتطبيعها، فهو لن يتمكّن من التعبير بأمانٍ عن رأيه في العلن. ولكنّ بنيامين نتنياهو وصف الإمارات، في مقابلة أجراها مباشرةً بعد الإعلان، مع قناة «سكاي»، بـ«الديموقراطية»). والمفارقة في الموضوع، هي أنّ هؤلاء يتعرّضون للفلسطينيين جماعياً، ويبرّرون التقارب مع قاتلهم، بدعوى أنّ الفلسطينيين «يحقدون» على الخليج وحكّامه.
المفارقة هي أنّك، حين تنظر إلى التاريخ القريب، تجد أنّ مئات الآلاف من الفلسطينيين قد هاجروا وعملوا في الخليج، وكانوا ـــــــ رغم مأساتهم ودور أنظمة الخليج في استمرارها ـــــــ بمثابة «المهاجر المثالي». كثيرٌ منهم جاءوا إلى تلك البلاد في الخمسينيات والستينيات، حين لم تكن ثرية بعد ولن تجذب إليها الأستاذ البريطاني أو المهندس الأميركي ـــــــ وعملوا بجدٍّ لعقودٍ وخدموا تلك البلاد بمواهبهم وأعمارهم (قد أفهم أنّ تحقد على نموذج «اللبناني» في الخليج، الذي يستغلّ حيثما يتمكّن، ويرتقي عبر المظاهر والزيف، وينال غالباً امتيازات لا يستحقّها، ثمّ ينظر إلى أهل البلاد بفوقية. ولكن الفلسطيني!). بل إنّي ورفاقي كنّا نستغرب حين نجد حولنا بعض المعارف الفلسطينيين في الخليج، نجحوا في الأعمال أو الهندسة وأصبح بعضهم وكيل الأمير والشيخ أو رجل أعمالٍ كبيراً، وكيف أنّهم خدموهم بكلّ نزاهةٍ وإخلاص. هناك شيءٌ خطأ في هذه الصورة، وإن كان الموقف الأيديولوجي في بعض الحالات غير متاح. هذا الرجل الذي تعمل لديه يحمل مسؤولية مباشرة عمّا يحصل لك ولشعبك، وأنت تعامله بكرم ونزاهة (على الهامش: لوم الجالية الفلسطينية في الكويت على موقف بعض أبنائها عام 1990، ليس منطقياً ولا عادلاً. أنت هربت وتركت البلد لنظامٍ جديد. ماذا تريدهم أن يفعلوا؟ أن يقاتلوه نيابةً عنك؟ وهل تظنّ أن باقي المقيمين في البلد، عرباً وآسيويين، قد أخذوا موقفاً أيديولوجياً من العراقيين، أو علّقوا صورة الأمير في منازلهم سرّاً؟).
لا وجود لشيء اسمه «العجز العربي» بل لطالما كان لدى الدول العربية ما يكفي من الموارد والإمكانات للانتصار على المشروع الصهيوني


المقصد هنا، هو أنّ سلوك هذه النخب والأنظمة يعيد التذكير بقواعد قديمة وبديهية، نسيَها البعض منّا لأسبابه الخاصة؛ ومنها أنّك لا تحصل على الاحترام عبر التنازل والتصالح مع من لا يراك ندّاً، وأنّ الجميع سيحترمك فحسب حين تفرض احترامك عليه (ولكلّ، بحسب طبيعته، طريقة وسبيل) ــــــ وأنّ الأخوّة لا تكون من طرفٍ واحد. هذا يشبه تماماً بديهية أنّه لا يمكن أن تحرّر أرضاً محتلّة إلّا عبر الكفاح العسكري، والسؤال الدائم هو عن كيفيّة تحقيقه وليس حول جدواه ـــــــ إن كنت تريد أن تستعيد أرضك حقّاً، لا أن تفاوض على شروط الاستسلام.
من يقدر على إجبارك على التخلّي عن نصف أرضك، سيجبرك على التخلّي عن نصفها الآخر، فالمفاوضات والتنازلات تجريها على «الهوامش» وحول التفاصيل، حين يحصل حسمٌ عسكري أو يصل طرفان إلى درجة النديّة، ولا يمكن لها ــــــــ في ذاتها ــــــــ أن تُخرج احتلالاً من أرضٍ، ناهيك عن الاستيطان. حين قدّم الجزائريون «واجهة سياسية» لثورتهم، لكي «تفاوض» وتمارس الدبلوماسية، قام الفرنسيون باختطافهم واعتقالهم؛ ثمّ فاوضوهم وهم في السجون، حين فرض الجزائريون واقعاً جديداً على الأرض. كان من المحتمل، نظرياً، أن تنسحب إسرائيل من أرضنا في الجنوب عبر «المفاوضات»، ولكن فقط لكي تستفرد بسوريا، أو أن تعيد الجولان لسوريا كي تستفرد بالفلسطينيين، ولكن لأيّ سبب يمكن للصهاينة اليوم أن يتنازلوا عن أيّ شبرٍ أو سيادةٍ في فلسطين؟ فلسطين «قضية مركزية» ليس لأنها أهم من سوريا أو العراق أو ليبيا، بل لأنّه، بالتمايز عن الكثير من القضايا، لا يملك الفلسطيني خيارات وطرق متعددّة؛ لا خيار لديه سوى القتال (أو القبول بأنه ليس شعباً، وليست له أرض، وأنّ فلسطين ليست لنا). وسياق المعركة وطبيعتها يجعلان كلّ من لا يعينك على القتال طرفٌ لا يريد الخير لك، بل هو يمارس الخيانة في حقّك، ولا تكون بينكم أخوّة.

أبعد من التطبيع
استطراداً، حين نراقب هذا الكمّ من التطبيع مع الاستعمار والعنصرية، وكيف يلتحف بالهويات الوطنية ومفاهيم قُطريّة عن السيادة وعن «الجيران الذين يحقدون علينا»، هناك سؤالٌ لا بدّ أن يُطرح: الكثير من الأدبيات تنقد تياراتٍ قوميةٍ عربية وشوفينيتها ضد غير العرب، وتمييز الإسلاميين ضد غير المسلمين، ولكن قلّة من الناس تشير إلى كمّ العنصريات والطائفيات والفاشية التي نتجت عن الوطنيات القطرية (بل عندي نظريّة بأنّ هناك ميلاً لدى الغربيين، حكومات وإعلاماً ومراكز دراسات، لمديح الوطنيات المحلية، وتقديمها على أنّها شيءُ «أصيل» وأفضل، جوهرياً، من الهويات «العابرة للقومية»، ودعم كلّ طرفٍ يمكن إلصاق صفة «وطني» به ـــــــ ولو كان سعد الحريري أو مقتدى الصدر ـــــــ تحديداً بسبب رجعية هذه الهويات وطابعها التقسيمي).
المسألة هي أنّه حين تكرِّس كيانات تقوم على التحالف المديد مع الغرب وعلى التمايز في الثروة (ولأنّ الثروة هي النفط، فالحدود وتقسيمها يعني الثروة)، ثمّ تقوم النخب الحاكمة بتصدير هوية «وطنية» تشبه هذه الكيانات، فلماذا لا تتماهى مع إسرائيل في نهاية الأمر؟ ليس للعروبة مفهومٌ واضح ومحدَّد، وهي تتلوّن بمصالح من يحملها، ولا يوجد «حزب عروبي» له مجلس قيادة مركزية تصدر الأدبيات والمانيفستو، وقد أثبت التاريخ أنّ لا صلة ضرورية بين أن تسمّي نفسك عروبياً ـــــــ أو إسلامياً، أو ماركسياً في هذه الأيام ـــــــ وبين أن تكون معادياً للإمبريالية وإسرائيل.
ولكنّ الكلام في موضوع التطبيع، والمزايدة المزعجة بين الأجنحة الخليجية، قد يُنسينا الصورة الأوسع. يجب أن نتذكّر دائماً، حين نستمع إلى التراشق الخليجي، أنّ الموضوع عندهم ليس فلسطين، بل العداوة بين تلك الأنظمة والابتزاز المتبادل بين عمّالها في كلّ قضية. تخيّل أن يعتبر أحدٌ نفسه وطنياً ومناصراً لفلسطين بالمقايسة مع الآخر العميل: هو أسياده طبّعوا علناً وأنا أسيادي ما زالوا في مرحلة التطبيع الخفي، كأنّه لا توجد في العالم خيارات أخرى. الصورة الأوسع هي أنّ هذه الأنظمة، في السنوات العشر الماضية، أشعلت وشاركت في حروبٍ في طول وعرض المنطقة العربية، خلّفت وراءها ملايين القتلى وعنفاً لا يصدّق، ودمّرت هذه الدول ومجتمعاتها وغيّرتها بالعنف إلى الأبد. هي لم «تشارك» في هذه الحروب، بل أشعلتها وسبّبتها وجعلتها على مستوىً غير مسبوقٍ من الضراوة، ما كانت هذه الحروب لتحصل، أو لتحصل بهذا الشكل، لولاها. هذه هي الجريمة التاريخية التي ارتكبتها في حقِّنا، وهي أهمّ موضوع سياسي بيننا وبين هذه الأنظمة ولا شيء يوازيه، ولا يهمّ هنا إن كانت فعلت ذلك بقرارها الذاتي أو بالوكالة عن الأميركيين.
لا يوجد أيّ تبرير أو تخفيفٍ لما فعلته. تخيّل أن تقوم دولٌ لا يزيد عدد سكانها عن مئات الآلاف، ولا يوجد بين حكامها وأعوانهم ديموقراطي أو وطني واحد، بتمويل جيوشٍ وإشعال حروبٍ تقتل الملايين وتدمّر حياة عشرات الملايين. هل كانوا يدافعون عن أنفسهم، مثلاً؟ هل هدّدهم أحد من ضحاياهم؟ ولكن من بعد ما فعلوه، لو كانت هناك عدالة وكانت لدينا كرامة، فقد أصبح من الواجب عليهم الآن أن يتوقّوا وأن يتحضّروا للدفاع عن أنفسهم من وقتٍ يُسألون فيه عن جرائمهم. مستوى التدخّل وشكله تغيّرا، وفي السبعينيات كنّا مع دولة خليجية واحدة تتدخّل (وفي السياسة فقط) واليوم أصبحنا مع أربع، وهي لا تستثني أسلوباً في التخريب السياسي: من الانقلابات إلى الاضطرابات إلى شنّ الحروب والقتل الجماعي. السنوات العشر الماضية هي نتاج هذه المنظومة العربية الجديدة، ولو استمر الحال هكذا، فإنّ الهزيمة في فلسطين ستكون مجرّد «عارضٍ جانبي»، حدث على هامش تدمير وإخضاع العالم العربي. هنا أيضاً تفهم أنّ لا فارق حقيقياً بين الأنظمة المتشابهة، واحد يدمّر باسم الجهاد أو النظام القديم والثاني يدمّر باسم الديموقراطية، وميليشيات الاثنين على الأرض تشبه بعضها تماماً (لا أحد من الناس، أصلاً، يميّز سياسياً بين أنظمة الخليج سوى من يعمل لديها). والطريف أنّ هذه الأنظمة، تحديداً، هي من يركب على أيديولوجيا «الغزو الإيراني» وأولويته، وذلك لأنّها تعتبر أنّ حزب الله و«حماس» وفصائل المقاومة في العراق و«أنصار الله» في اليمن، أسوأ ما حصل لهذه البلدان، بينما «النصرة» و«داعش» وميليشيات القتل والسرقة هي أفضل ما حصل لها ـــــــ ومَن تورّط وأذنَب في جريمةٍ بهذا الشكل لا يحقّ له أن يدلي بشهاداتٍ فيها ويوزّع المسؤوليات.

خاتمة
السبب الذي يغيّب هذا النقاش اليوم، إضافةً إلى ضجيج الحروب والأزمات، هو أنّ جزءاً معتبَراً من النخب المشرقية يحلم بعودة الحال السابق، وأنّنا في نهاية الأمر سنتصالح مع هذه الأنظمة ونسامحها و«نتجاوز» الموضوع ونعود إلى المداهنة القديمة. وهم في نهاية الأمر لديهم مال! ولم يصِب عربياً في المشرق أو مصر، منذ السبعينيات، ثراءً وارتقاءً طبقياً حقيقياً إلّا وكان للخليج دورٌ في الموضوع. لهذا السبب، أنت تجد الفئات الشعبية، سواء في موضوع فلسطين أو أنظمة الخليج، أكثر جذريةً بكثير من الإعلام والنخب والسياسيين في دولها، وذلك ليس لأنّ «الشعب» أكثر عنفاً وشراسةً من المثقّفين، ولكن لأنّ الأخيرين سيجدون لأنفسهم مكاناً في «الشرق الأوسط الجديد»، بينما الفقير الذي لا يملك طريقاً للهجرة يعرف أنّه هو من سيدفع ثمن هذه الانهزامات (إن كنت من تلك الطبقة «العليا»، ففي وسعك أن تحصل على راتبٍ مريح سواء من الغرب أو من الخليج أو من إيران، فلا يهمّ من ينتصر، وهذه الفئة تمتلك «قدرة خارقة» تميّزها عن أكثر الناس: أن تغيّر جلدك بسهولة).
ولكنّ الوهم هو في أنّه قد تحصل «عودة إلى ما قبل» (restoration)، فالإمارات تذكّرنا من جديد بأنّنا نذهب إلى حالة جديدة من «النظام العربي»، في حال انتصروا وسادوا. والمقاومات محاصرة ولكنّها تقاتل، وهي لا تقدّم التضحيات من أجل إحياء الماضي. ولكنّ الأمثولة الأساس، حتى ونحن نتكلّم على التطبيع، هي أنّ السؤال القديم عربياً، «الرجعية في الخليج»، هو السؤال السياسي الحقيقي اليوم.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا