نطالب بانتخابات مبكرة وكأنّها الحلّ لمصائبنا التي لم يعد بالإمكان عدّها أو حصرها. ولكن ماذا لو عاد الطاقم السياسي المعهود من جديد إلى السلطة؟ السؤال الأساسي الذي نودُّ طرحه على الوعي الشعبي، يتمحور حول إمكانيّة عودة اللصوص عينهم إلى مراكزهم. هل يمكن الوثوق بضمير اللبنانيّين؟ ماذا لو فاز النواب ذاتهم بالمعركة الانتخابية المقبلة؟ تحسُّباً لذلك، يتوجّب علينا تدارك خطر الاحتلال الفكري الأيديولوجي المادّي على وعينا كلبنانيّين قبل الخطر السياسي المتمثّل برلمانيّاً. على ما يبدو، إنّ التجربة اللبنانية الديموقراطية هي تجربة خادعة وفاشلة، أنجبت زمرةً من المتعطّشين إلى السلطة واللّاهثين وراء المال. ويظهر جليّاً لنا أنّ التربية المنزلية اللّبنانية هشّة جدّاً، لدرجة أنّ كلّ ما نراه من فساد علني ليس إلّا نتاج هذه التربية اللبنانية الرأسمالية الداعية، منذ الطفولة، إلى المزيد من الربح والسيطرة. ونرى على مقلبٍ آخر، إفلاس الزخم الجامعي وفقدان الحركات الطالبيّة دورها السياسي التعليمي. فأين صوت رؤساء الجامعات والأساتذة الجامعيّين المثقّفين الذين يحذّرون الوعي الشعبي من مخاطر النزلاق في مستنقع المنظومة السياسية عينها وانتخاب لصوصها؟ أمّا بعد، أين دور الإعلام التوعوي؟ حدّث ولا حرج. بئس هذا الإعلام المرتهن للدول الخارجيّة. وبئس هذه القنوات التي لا تبث إلّا سموماً تخدم مصالحها ومصالح مموّليها، أو لا تنقل إلا ما يناسبها، لتخدير وعي اللبناني المُتلقّي السلبي. أمّا عن دور الأحزاب في تعليم الشعب وإيقاظ فكره، فلا تسأل، ذلك أنّ أحزاب بلادي إمّا طائفيّة حتّى العظم، وإمّا مقاوِمة حتى الكذب علينا وعلى ذاتها. متى سنرى في لبنان حزب الثورة الذي سينبّه مسبقاً إلى خطورة إعادة السلطة ذاتها للحكم؟
ماذا لو انتصر سعد الحريري من جديد، وعاد رئيساً للحكومة؟ وماذا لو انتصر نوّاب سمير جعجع ووزراؤه في المسرحيّة الديموقراطيّة المقبلة؟ بل ماذا لو بقي نبيه برّي رئيساً لمجلس النوّاب؟ وأخيراً، ماذا لو تسلّم جبران باسيل من جديد ملفّ الكهرباء؟ واللائحة تطول.
لذلك، لا بدّ لنا من ثورة حقيقيّة، حيث لا نتقاذف فيها الأحجار، بل نحارب بالأفكار؛ حيث لا نهاجم الجيش، بل نحاور وعيه؛ حيث لا نهدم ما تبقّى من بيروت، بل نحاول تنظيفها وترميم إرثها الثقافي العمراني وبناءها. إنّ الثّورة الحقيقية التي نريدها، وإن بدأت في الشارع، تجد جذورها في نظريّة فكريّة سياسيّة، ولا تكتمل إلّا في المؤسّسات. ما نريده، في الواقع، ثورة تفكِّك كيان السلطة الحاكمة وتفضحها، بشكل تخسر فيه ثقة الشعب المسكين وتدعو إلى روح حزبيّة جديدة، قادرة على بناء لبنان الدولة. فلنعطِ الشعب اللبناني مرّة واحدة حكومة تضمن له حقّ الحلم ببلد أفضل، وتضمن له أبسط حقوقه.
فما أتعس اللبنانيين الذين سيبيعون أصواتهم مقابل القليل من المال، وبعض المساعدات الاجتماعية. على كلّ مواطن تابع، أن يطرح على وعيه السؤال التالي: ماذا سأستفيد إذا تمّ شراء صوتي مقابل مبلغ من المال أو مقابل خدمة خاصّة؟ بل أليس من الأفضل لي ولأولادي أن ننتخب من سيضمن لنا حقوقنا في العمل والضمان الصحّي والعيش الكريم، من خلال خطّة طويلة الأمد؟ فليتأكّد اللبناني أنّ من يدفع المال هو الفاسد الذي عليه أن يبلّغ عنه للرأي العام.
المطلوب إقليميّاً ودوليّاً هو ترسيم الحدود السياسية مع كلّ الدول التي تحاول فرض سيطرتها علينا من خلال قوّتها الاقتصادية


الكلّ يعلم أنّ لبنان ليس بلداً رأسماليّاً منتجاً. فهو يعتمد على سلع أولية وثانوية، تأتي من الخارج بأسعار خيالية مقارنة مع وضع الليرة داخليّاً، ممّا يجعل ثقل رأسمال البلد الاقتصادي، في الخارج، في الوقت الذي يعاني فيه الشعب فقراً مدقعاً في الداخل. إذاً، رأسمال بلدنا في بنوك الخارج، أو في جيوب كبار الشركات التابعة بسياستها الاقتصادية للخارج. كلّ ذلك وغيره، يجعل نظام بلدنا رأسماليّاً تابعاً، لا بل خاضعاً لشبكات عالمية أكبر منه، تسيّره تبعاً لمصالح وأجندات سياسيّة حربيّة. إقليميّاً ودوليّاً، لن يكون الحلّ بالقطيعة الاقتصادية والديبلوماسيّة مع الخارج، إذ أنّ رأسمال لبنان الحقيقي يكمن في الثقة التي تضعها الدول فينا، خصوصاً أنّ العملة الوطنية ضعيفة، واقتصادنا ريعي، ويحتاج إلى وقت طويل للنهوض. من هنا، لا يمكن قطع العلاقات الخارجية في الوقت الراهن، تحسُّباً لمزيدٍ من التعثّر، شرط ألّا تضيّق دول الخارج علينا الخناق سياسيّاً واقتصاديّاً.
المطلوب إقليميّاً ودوليّاً إذاً، هو ترسيم الحدود السياسيّة مع كلّ الدول التي تحاول فرض سيطرتها علينا من خلال فرض قوّتها الاقتصادية. أمّا داخليّاً، وهو الأهم، فحريٌّ بنا كلبنانيين تحليل واقع طبقات، فئات ومكوّنات النسيج اللبناني. لقد لعبنا وشاركنا في مسرحية الديموقراطية لسنواتٍ طوال. والحلّ لن يكون بالثورة وبإسقاط الحكومة فقط، بل ببناء نظريّة سياسيّة ما بعد طائفية تأخذ في الاعتبار مخاوف وتناقضات مختلف الطوائف اللبنانية. فنحن لن نطيح بالممارسة الانتخابية، ونفقد الثقة بالآليات الديموقراطية والدستورية، بل ما نطلبه هو رقابة جدية ثورية في المرحلة المقبلة. أي على الفكر الثوري أن يصبغ حياتنا السياسية بمجمل تفرّعاتها.
نحن نتلمّس، يوماً بعد يوم، كيف أنّ الحلّ السياسيّ في لبنان لن يتحقّق الآن بالدولة المدنيّة؛ فحلّ مماثلٌ يحتاج إلى أجيال من الوعي وعقود من التحضيرات النفسيّة. نحن اليوم بحاجة إلى إيقاظ الوعي الشعبي وتحذيره من الخطابات الشعبوية ـــــــ السلطوية الكاذبة، التي تدعو للإصلاح ولا تعمل به. نحن بحاحة إلى تحليل لغة السياسي وفضحها علانية كي يرى المواطن تناقضات زعيمه، ويزيل عن عينه حجاب الجهل. وحدها التربية النقدية والمدنية قادرة على إنقاذ بلدنا. علينا أن نكون بجهوزيةٍ فكريّةٍ تامّة، لكي تكون هذه الانتخابات ثوريّة. وتنطلق هذه التربية من الحاجة إلى نظريّة سياسية جديدة للبنان. وللوصول إلى هذا التجديد السياسي الذي نتوق إليه بشدّة، علينا دراسة الواقع كما هو، بكافّة أبعاده الأنتروبولوجيّة والجيو ـــــ اقتصادية. أعني بذلك دراسة جديدة لتاريخيّة مختلف الفئات التي تشكّل لبنان الحديث.
وعلى دراستنا أن تكون مادّية لأقصى حدّ. أي علينا أن نرى مختلف الطبقات والمذاهب والطوائف والأحزاب والأفراد كما هي بذاتها، لا كما نريدها أن تكون. وحدها دراسة البنية النفسيّة تمهّد أمامنا فهم تناقضات كلّ طبقة وصراعاتها وطموحاتها. وحدها دراسة جديدة لمادّية وتاريخيّة تأسيس حزب الله مثلاً، تدفعنا لفهم استمراريّته. وعلى دراستنا أن تتناول الجانب الضعيف من الحزب، وعلاقته الحميمة مع الداخل اللبناني، والعضوية مع المحور السوري ــــــ الإيراني. وعلينا أن نكشف عن رؤية حزب الله الشيعيّة الأنطولوجيّة للوجود. فالشيعي يرى الوجود من خلال القرآن، وحزب الله يرى الوجود من خلال القرآن أيضاً. والسنّي كذلك الأمر. القرآن واحد، والتأويلات مختلفة. وقد يبدو لنا أنّ القرآن الشيعي في تطبيقاته غير القرآن السنّي في ممارساته.
هذه الدراسة ينبغي أن تتناول مختلف الأحزاب الطائفيّة والعلمانيّة وتشكّلاتها وقضاياها وشعاراتها وأهدافها القريبة والبعيدة، الماضية والمستقبليّة. وعلينا أن ندرس بشكل مختلف، العلاقات الداخلية لنصل إلى فهمٍ عميقٍ لموانع نهوض القوميّة اللبنانية. وعلى كلّ لبناني أن يتأمّل ويجيب عن الأسئلة التالية: لماذا عبر تاريخ لبنان المعاصر، أي ما بعد الحرب الأهليّة، لا نجد وحدة لبنانيّة؟ لم لا نجد إرادة واحدة ووعياً واحداً مشتركاً. أيمكن النهوض بمشروع سياسي جديد؟ هل هنالك فعلاً كيان لبناني مستقلّ، أم أننا لا نشكّل سوى كونفدراليّة الطوائف؟

* أكاديمي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا