تحت ركام الانفجار المروّع الذي هزّ بيروت من أعماقها وقوّض كلّ ما بدا راسخاً في معادلات السياسة والمجتمع، تبدّت أشباحٌ ومنزلقات تهدّد لبنان بلداً ووجوداً، قبل أن تحلّ مئوية تأسيسه في أيلول/ سبتمبر المقبل. لم يعُد ممكناً تدوير الأزمة وإعادة إنتاج نظام المحاصَصة الطائفية التي استهلكت زمانها ودواعيها وصلاحيّتها وباتت عبئاً على عصرها وسلامة النظر إلى المستقبل.هذه حقيقة أولى يصعب تجاوزها بقفزات في الهواء، كأنّ ذلك النظام لم تسقط ركائزه وأصابه العفن بالفساد المستشري في بنية حكمه. بالقدر ذاته، يصعب على لبنان تجاوز إرثه الطائفي بضغطة على زر أو بدفقات غضب في ميدان. الغضب يؤشّر على قرب نهاية طريقة في الحكم، لكنّه لا يؤسّس بذاته لجديد قادر على شقّ طريقه إلى دولة حديثة، يحكمها القانون والحقوق المتساوية لمواطنيها، ويخضع الترقّي فيها لاعتبارات الكفاءة، لا بالانتساب إلى محاصصات الطوائف.
هذه حقيقة ثانية، فالطرق ليست سالكة، كلّ خطوة ملغّمة، وكلّ سيناريو مطعون عليه بالتجاذبات الداخلية المستعرة أو بموازين القوى والمصالح المتناقضة بين أطراف إقليمية ودولية متداخلة. إذا ما جرت تسوية ما، بضغوط وتفاهمات دولية وإقليمية، على ما جرت العادة طوال التاريخ اللبناني الحديث، فإنها عودة إلى المربع الأول وإعادة إنتاج للأزمة لا حلّاً لها.
بيروت المكلومة تحتاج إلى التقاط أنفاس، ولملمة جراح، حتى تتدبّر خطواتها المقبلة، غير أنّ ذلك في الأوضاع الجارية يبدو عسيراً باتّساع فجوات عدم الثقة بين الأطراف الداخلية المتناحرة التي يرى بعضها بتحريض خارجي، أنّ الوقت قد حان لتصفية الحسابات المتراكمة.
لم يكن حسّان دياب رئيس الحكومة المستقيلة مشكلة لبنان الأساسية حتى تكون مغادرته للسلطة المفترضة مخرجاً يساعد على تهدئة الخواطر ولملمة الجراح، فالأزمة أكبر منه، وأكبر من المنظومة السياسية التي تحكم البلدالتي بدت منكشفة وعاجزة عن تلبية أبسط احتياجات مواطنيها في العيش الكريم والعيش بأمان.
حاول أن يقترب في خطاب استقالته من طبيعة الأزمة، لمس أوتارها، ولم يستكمل جملته الموسيقية، كأنّها نغمة شاردة حينما قال: «إنّ منظومة الفساد أقوى من الدولة»، و«الطبقة السياسية أقوى من الحكومة». ألمح من دون أن يصرّح بمقصده، حتى لا يجد نفسه مجدداً في «عشّ دبابير» لا تؤمن لدغاتها. لا يمكن بالادّعاء إسباغ صفة النجاح على حكومته، ولا إحالة إخفاقاته بالنكاية إلى آخرين، لكنّه لا يتحمّل المسؤولية وحده، ولا يُعفى منها أسلافه، الذين أهدرت حكوماتهم المال العام حتى وصل البلد إلى حافّة إفلاسٍ، بينما غضّت الطرف عن مخزون نترات الأمنيوم في مرفأ بيروت، من دون إجراءات صيانة تمنع ما حدث من انفجار شرّد نحو ربع سكانها.
هناك بديلان ماثلان، الآن، في المشهد اللبناني المأزوم:
الأول، البحث عن حسّان دياب آخر لتشكيل حكومة «اختصاصيين»، أو «أصحاب كفاءات» جديدة. وهذا بديل مطعون به مسبقاً في المساجلات الداخلية المستعرة، بأنّه يمثّل لوناً سياسياً واحداً يلغي بقية الألوان والمكوّنات، كما أنه يستفزّ أطرافاً دولية وإقليمية تشترط تشكيل حكومة كفوءة وشفّافة، وفق المعايير التي تعتمدها مصالحها واستراتيجيتها مقابل الانخراط في جهود إنقاذ الاقتصاد العليل.
والثاني، إسناد رئاسة الحكومة إلى سعد الحريري، أو إلى أيّ رجل آخر من داخل فريقه السياسي، بما يمثّله من امتدادات إقليمية ودولية لا يُستهان بقدرتها المالية على المساندة الاقتصادية، مقابل نصيبٍ أكبر في القرار السياسي، وتحجيم حضور خصومها السياسيين في معادلات السلطة.
هذا بديل مطعون به، بدوره، من الجانب الآخر في الصراع المحتدم، إذ يصعب عليه إلى حدود تشبه الاستحالة، إخلاء مواقعه بالضغوط الإقليمية والدولية، كما يصعب على القوة الضاربة في الحراك الشعبي تقبّل العودة إلى الوصفات القديمة وفق «اتفاق الطائف»، التي يطلَق عليها «الديموقراطية التوافقية». فمثل هذا النوع من الديموقراطية، كان الباب الملكي لتقاسم النفوذ والمصالح واستشراء الفساد المنهجي بالمحاصَصة.
الافتراض المرجّح، أن تستهلك مشاورات ومداولات وضغوط تشكيل حكومة جديدة وقتاً طويلاً نسبياً، لا يحتمله لبنان الجريح تحت وطأة أزماته المتراكمة والمستجدة. لبنان يحتاج إلى تجديد في دماء طبقته السياسية التي ضربها العفن وفقدت ثقة مجتمعها، لكنّ ذلك يحتاج إلى قانون انتخابي جديد يتّسق مع تطلّعات دولة جديدة، تتخطّى مئة عام كاملة منذ إعلان الجنرال الفرنسي هنري جوزيف غورو، «لبنان الكبير» وفرض الانتداب عليه، وفق اتفاقية «سايكس ــــــ بيكو» عام 1916.
لبنان الجديد هو لبنان الحر المستقل الذي يصنع مستقبله ومصيره أبناؤه على قواعد الدول الحديثة، لا الذي يستدعي باليأس المستعمرين القدامى لفرض الانتداب والوصاية من جديد. هذا جوهر ما يطالب به الحراك الشعبي، لكنّ قضيته العادلة لا تسندها وسائل متماسكة.
بعد استقالة حكومة حسّان دياب، ارتفعت أصوات مسموعة تطالب باستقالتين أخريين لرئاسة الدولة ومجلس النواب. لا تكفي أن تتّسق المطالب مع قدر الغضب، فممّا هو لازم وضروري تدبّر العواقب والتداعيات. الفراغ السياسي لا يؤسّس لانتقالٍ ديموقراطي وتغييرٍ في قواعد اللعبة.
لبنان يحتاج إلى خريطة طريق، إذا لم يجترحها بنفسه يصعب أن يضعها له اللاعبون الإقليميون والدوليون الذين تحكمهم مصالحهم قبل وبعد كل شيء آخر.
السؤال الجوهري الذي يعترض لبنان الآن: كيف يجري الانتقال من عصر إلى عصر ومن نظام إلى آخر؟ خيار الدولة الحديثة التي تُبعد المحاصَصات الطائفية، كخيار إجباري بلا بديل أو شبه بديل. إذا لم يحدث ذلك، فسوف يدخل البلد في فوضى ضاربة تنال من كلّ دور أكسب بيروت قيمتها في عالمها العربي، وتسحب من كلّ رصيد أية آمال في تماسك البلد من جديد على أسس حديثة.
الأفدح أن أشباح حرب أهلية جديدة قد تمثل في المكان بالضغوط والتحريض السياسي والإعلامي. أرجو ألا ينسى أحد أنّ التحريض الإسرائيلي الزائد لأطرافٍ لبنانية على الفلسطينيين، أفضى إلى مجازر دموية وقتل على الهوية واحتلال بيروت نفسها عام 1982. حتى هذه اللحظة، السلم الأهلي ليس مهدداً، ولا لبنان يحتمل هذا السيناريو المرعب، لكنّ التحريض بغير تعقّل بداعي تصفية الحسابات، يمكن أن يفضي إلى أشدّ الكوابيس قتامة.
بين عصرين ونظامين، أولهما أصابه التحلّل بالعفن والآخر لم تتّضح توافقاته وإجراءاته، يقف لبنان عند مفترق طرق، أن يكون أو لا يكون. هذه مسؤولية مواطنيه قبل أيّة أطراف أخرى.

* كاتب وصحافي مصري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا