لبنان ليس ديموقراطية برلمانية كما ينصّ عليه الدستور. ولبنان ليس أيضاً ديموقراطية توافقية على الرغم من أنّ النظام القانوني اللبناني يتبنّى مجموعة كبيرة من خصائصها وهي تُعرف لدينا بالطائفية السياسية، أي ضرورة تأمين تمثيل معيّن للطوائف داخل المؤسسات الدستورية. النظام السياسي المهيمن على لبنان هو نظام الزعماء الذي نشأ خلال الحرب وترسّخ عام 1992، ومن ثمّ تفشى في جسم الدولة لدرجة باتت هذه الأخيرة في حالة موت سريري.ولما كان الزعيم ليس مفهوماً قانونياً، بل سلطة أمر واقع يمكن لنا أن نعرفه فقط من خلال تفحّص وظيفته في النظام اللبناني ومراقبة أدائه الفعلي في السلطة بغض النظر عن الموقع الرسمي الذي يشغله. لذلك، نستطيع أن نعرف الزعيم عبر المميزات التالية:
ــــ الزعيم يدّعي تمثيل طائفة وحفظ مصالحها داخل مؤسّسات الدولة وهو يستمدّ شرعيّته من هذا الادّعاء: وهذا قول باطل لأنّ النظام القانوني اللبناني لا يعترف بوجود ممثلين للطوائف. فالنائب وفقاً للمادة 27 من الدستور، يمثّل الأمة ولا يمثل طائفته وهذا ما أكّده المجلس الدستوري اللبناني في قرار له صدر في 8 حزيران/ يونيو 2000. أمّا رؤساء الطوائف، فهم أيضاً ليسوا بممثلين لطوائفهم بالمعنى السياسي للتمثيل. فرؤساء الطوائف والجهاز الإداري التابع لهم، هم سلطات عيّنها القانون لممارسة اختصاصات محدّدة ومحصورة فقط في الأحوال الشخصية، وبالتالي لا يتمتّعون بأيّ شرعية قانونية للتكلّم سياساً باسم طوائفهم.
ــــ الزعيم هو صلة الوصل بين أبناء الطائفة ومؤسسات الدولة، أي أنّ الفرد لا يمكنه أن يحصل على حقوقه إلّا من خلال رابطة الزعيم: وهذه هي الزبائنية التي تشكّل الفساد الحقيقي والأكبر في لبنان. فالزبائنية ليست ظاهرة ثانوية بل هي بنيوية، أي أنّ نظام الزعماء لا يقوم إلّا من خلال شراء ولاء الأفراد عبر المحاصصة والتوظيف السياسي، ما يؤدّي إلى تحويل إدارات الدولة إلى مواقع نفوذ تتديّن بالولاء للزعيم الذي يستخدمها لتحصين نفوذه عبر مكافأة الأتباع وتهديد ومعاقبة الخصوم.
ــــ الزعيم انتقل بالزبائنية من مرحلة الوسيلة الممكنة إلى الاحتكار المطلق: الزبائنية كانت موجودة في لبنان قبل نظام الزعماء، وهي توجد في مختلف دول العالم بدرجات متفاوتة، لكن نظام الزعماء حوّل الزبائية إلى وسيلة احتكارية تهيمن على كلّ مفاصل البلاد. فالفرد الذي ينتمي إلى طائفة معيّنة، بات مرغماً كي يحصل على أيّ حق أو خدمة توفّرها الدولة، على المرور عبر زعيم طائفته ولم يعد بإمكانه تخطّي هذه الزعامة كما كان يحصل قبل الحرب. من هنا، نستخلص ميزة إضافية للزبائنية الجديدة، إذ إنها ليست فقط احتكارية بل أضحت طائفية بامتياز، بينما كانت في المرحلة الأولى من جمهورية الاستقلال أكثر تنوّعاً طائفياً، إذ كنّا نجد أنّ الزعيم يوزّع «خدماته» الزبائية على أفراد من طوائف متنوّعة.
ــــ الزعيم يستخدم الترهيب والترغيب كوسيلة فُضلى لحماية موقعه في النظام: إذا كانت الزبائنية هي الوسيلة التي يشتري بها الزعيم الولاء السياسي لشخصه، فإن ذلك لا يمنعه من استخدام سلاح أخطر كي يضمن الطاعة له، أي الترهيب من الآخَر. فالزعيم بتقديم نفسه كالمدافع عن مصالح طائفته، يوحي لأتباعه أنّهم دائماً في خطر داهم من زعيم الطائفة الأخرى الذي يتربّص بهم شرّاً من أجل الانقضاض عليهم والاستيلاء على وظائفهم ومصالحهم في الدولة والمجتمع. وهكذا، يصبح جلياً كيف يتمكّن الزعيم من لعب دور مزدوج، إذ هو يحرّض أتباعه طائفياً عندما تتهدّد مصالحه بالخطر، ومن ثم يتدخّل كي يظهر بمظهر المنقذ والمعتدل الذي يمنع الاقتتال الداخلي بين اللبنانيين. فنظام الزعماء هو الحرب الأهلية الدائمة، حيث أبطال الحرب هم أبطال السلم. لذلك، كان من الجائز استعارة جملة «كلاوسفتز» الشهيرة بشيء من التصرّف، والقول إنّ مرحلة السلم في لبنان بعد عام 1992، هي في الحقيقة استمرار للحرب الأهلية لكن بوسائل أخرى.
جراء ما تقدّم، يتبيّن لنا أنّ الخاصية التي تجمع بين كلّ هذه المعايير التي تطبع نظام الزعماء هي الضرب الممنهج للدولة ولمنطق المؤسّسات. فالزعيم يعقد التسويات ويتبادل المصالح ويتحاصص إدارات الدولة ويخرق الدستور ويتدخّل بعمل القضاء، وهو بالتالي يُضعف الدولة ويهمّشها إذ أن وجوده هو نقيض وجود الدولة التي إن أصبحت قوية انتهى دوره كون منطق الدولة يحرّر الفرد من التبعية الاعتباطية والشخصية للزعيم. فالحماية، كما يشرح الفيلسوف الإنكليزي الشهير هوبز، تستلزم في المقابل الطاعة، أي أنّ الحماية التي يوفّرها الزعيم تفرض في المقابل حصوله على طاعة أتباعه. فعندما تنتقل الحماية من الزعيم إلى الدولة عبر القوانين، تنعدم طاعة الأفراد للزعيم.
وقد تمدّد نظام الزعامة، إذ أنشأ كلّ زعيم مؤسّسات رديفة لتأبيد سيطرته، وإمعاناً منه في تفريغ الدولة من مضمونها. فنحن نجد أنّ الزعيم لديه جامعة ومستشفى ومدارس ووسائل إعلام، وهو تغلغل في النقابات وضرب التضامن الطبقي بين العمّال واستبدله بالولاء الشخصي له بحجة التمثيل الطائفي. وهكذا، نفسّر لماذا أتباع الزعيم ينتمون إلى مختلف الطبقات الاجتماعية بينهم الغني والفقير، المتعلّم والبسيط، المزارع والتاجر والصناعي. ولمّا كانت الرابطة التي تجمع الزعيم بأتباعه هي زبائنية بامتياز، فهو لا يمكنه بأيّ حال من الأحوال تبنّي مشروع اقتصادي أو اجتماعي يدافع عن طبقة معيّنة، إذ أنّ ذلك سيؤدي حكماً إلى انقسام «حزبه»، بسبب ظهور المصالح المتضاربة بين أفراده.
نظام الزعماء هو، أيضاً، شبكة بنيوية تجعل من كلّ زعيمٍ الحليف الموضوعي لخصومه الزعماء الآخرين. فالزعماء هم «حلفاء أعداء»، لأنّ الخلاف بينهم يشدّ عصب أتباعهم الذين، عبر التخويف والقلق، يصبحون أكثر تعلّقاً بزعيمهم. فوجود الزعيم الآخر، هو ضرورة كي يُحكم الزعيم سيطرته، ويحوّل كلّ انتقاد له إلى خيانة لمصالح الطائفة. وهذه هي النسخة الجديدة من الميثاقية التي باتت مهيمنة على الخطاب السياسي في لبنان بعد عام 2005، أي أنّ توافق الزعماء على التحاصص هو الهدف المنشود والعدالة المثالية في نظامنا السياسي.
لكنّ هذا التوصيف يجب أن لا يدفعنا إلى التعميم. فنظام الزعماء بوصفه سلطة أمر واقع، لا يمكن فهمه إلّا من خلال تحليل هذا الواقع بعيداً عن كلّ شعارات الميثاقية والعيش المشترك. فبعض الزعماء فرضوا أنفسهم خلال الحرب، عبر العنف المسلّح وارتباطهم بالخارج، والبعض الآخر فرض نفسه بالمال. كذلك، يجب التمييز بين الزعيم المحلّي والزعيم الطائفي الذي تمتدّ سيطرته على كلّ مساحة الدولة، علماً بأنّ الزعيم المحلّي يطمح أن يصبح هو بدوره زعمياً طائفياً من الدرجة الأولى.
هذا هو بالمختصر نظام لبنان السياسي، ويمكن لنا أن نطلق عليه لقب «الأوليغارشية التوافقية»، أي توافق زعماء الأمر الواقع الذين إذا اتفقوا ضربوا منطق الدولة والمؤسّسات، وإذا اختلفوا أشعلوا الحرب. في الحالتين، الدولة ضحية الزعماء.
* أستاذ جامعي