كان ظهور الفيلسوف الفرنسي المثير للجدل برنارد هنري ليفي في الغرب الليبي، سبباً للتساؤل عمّا وراء الزيارة، من رتّبها، وبأيّة أهداف، وما قدر التناقضات داخل «حكومة الوفاق»، وإذا ما كانت تومئ إلى حسابات جديدة قد تطرأ على حافّة حرب إقليمية محتملة.يصف نفسه بـ«أبو الثورة الليبية»، وكان دوره جوهرياً بجوار الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، في التحريض على التدخّل العسكري لـ«حلف شمال الأطلسي» الذي أفضى إلى إسقاط نظام العقيد معمر القذافي، والتمثيل بجثته، قبل ترك البلاد لفوضى الميليشيات والاحترابات الأهلية المزمنة.
كلاهما، ساركوزي وليفي، لا يلتزمان أية قيمة إنسانية، ولا تعنيهما قضيّة الثورات والانتفاضات التي تطلب الالتحاق بالعصر بتبنّي القيم الديموقراطية، لكنّهما وجدا في الأزمة الليبية فرصة سانحة لتصفية حسابات تاريخية مع العقيد الليبي عن مجمل أعماله التي ناهضت المصالح الغربية في محطّات عديدة من حكمه.
كانت المفارقة فادحة بين الادّعاءات الإنسانية والحقائق الدموية. لم تكن هذه المرّة الأولى التي يدعو فيها ليفي بتوجهاته الصهيونية المتشدّدة إلى «التدخّل العسكري» باسم حماية المدنيين، تبنّى الموقف نفسه في أزمة البوسنة والهرسك قاصداً إعادة الهيمنة الغربية على هذه المنطقة من العالم، وتكييف مواقفها تالياً بعيداً عن العالم الإسلامي وقضاياه، وهو ما قد حدث فعلاً إلى حدود بعيدة.
بالتكوين الفكري، فهو ينتسب إلى من يطلقون على أنفسهم في فرنسا «الفلاسفة الجدد»، يعادي الاشتراكية بضراوة ويصفها بأنها «بربرية بوجه إنساني». التعبير مستوحى بالتناقض، من شعار انتشر في ستينيات القرن الماضي إبان احتجاجات تشيكوسلوفاكيا السابقة، يدعو إلى «الاشتراكية بوجه إنساني». لم يفكر، كفيلسوف مفترض، في مدى ما وصلت إليه الدولة الصهيونية التي يتبنّى مقولاتها الأكثر تشدداً، من بربرية تخرج عن أية إنسانية بإنكار أية حقوق للفلسطينيين على أراضيهم المحتلّة.
ولد في الجزائر عام 1948، لأسرة فرنسية تستوطنها، في العام نفسه الذي تأسّست فيه إسرائيل على أنقاض فلسطين التاريخية. لم تؤثّر فيه بالعمق تجربته الجزائرية، على النحو الذي حدث مع مفكر وأديب فرنسي كألبير كامو صاحب رواية «الطاعون»، ولا تبنّى موقفاً أخلاقياً يؤيّد حق الجزائريين في الاستقلال والحرية، كما فعل الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر.
بأية معايير إنسانية، فهو فيلسوف عنصري بغيض. بدا أقرب إلى نظرة المستوطنين الفرنسيين، الذين أرادوا «فرنَسَة الجزائر»، كأن سكانها وأهلها دخلاء عليها. النظرة نفسها تملكته بصورة أكثر توحّشاً في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. أيّد اليمين الصهيوني في كل خططه الاستيطانية، التي عصفت بأية حقوق تاريخية وقانونية دولية للفلسطينيين.
دعَم إسرائيل في كلّ حروبها ومشاريعها التوسعية، من دون أن يتذكّر مرة واحدة أية قيمة إنسانية. باسم الدفاع عن الرؤية الإسرائيلية لمنظمة «اليونسكو»، خاض عام 2009 حرباً بلا هوادة ضد احتمال تولي المرشح المصري فاروق حسني منصب مديرها العام، على خلفية تصريحات منسوبة إليه دعت إلى «حرق الكتب الإسرائيلية»، إذا ما وُجدت في القاهرة. لم يكن التصريح موفقاً، فحرق الكتب، أية كتب، لا يمتّ بصلة لأي عمل ثقافي. جرى الاعتذار عنه، لكنّه استُخدم للتشهير الدولي به حتى لا يصعد إلى قمة «اليونسكو»، وزيرٌ استجاب للإرادة العامة للمثقفين المصريين في رفض التطبيع مع إسرائيل.
جرت حملة ممنهجة ضده قادها وأشرف عليها ليفي. كانت من أبرز محطاتها نشر إعلان في صحيفة «لوموند» الفرنسية، وقّع عليه مثقّفون معرفون من مختلف أنحاء العالم. باتصال هاتفي من باريس، سألني فاروق حسني إذا ما كان ممكناً أن أتأكّد بنفسي أنّ اتصالاً جرى بين مكتب ليفي والروائي علاء الأسواني، للتوقيع على ذلك البيان باسم المثقّفين المصريين. قلت: «من دون أن أتصل لا يمكن أن يفعلها، واستيضاح موقفه إهانة له». جرى الاتصال به فعلاً من مكتب ليفي، وكان رفضه كاملاً، كما أبلغني بعد سنوات. كان تقديري، بحكم معرفتي به، أنّ اعتراضاته بالغة الحدّة على السياسات التي بتبنّاها وزير الثقافة المصري، لا يمكن أن تذهب به إلى الوقوف في خندق برنارد ليفي، وهو ما ثبتت صحته.
في معركة «اليونسكو»، ساند وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير موقف ليفي، وتراجعت فرنسا عن تعهّداتها السابقة التي قطعها على نفسه نيكولا ساركوزي، وصوّتت ضد المرشح المصري الذي خسر السباق بفارق صوت واحد.
مرة أخرى، عاد الثنائي ليفي وكوشنير، للظهور معاً في خريف 2017 في أربيل، لدعم انفصال كردستان العراق أثناء الاستفتاء عليه. كانت تلك تزكية صهيونية مُعلنة، فكلاهما يتبنيان أيديولوجيتها، لتقسيم العراق إلى دويلات مذهبية وعرقية متطاحنة تخرجه للأبد من معادلات المنطقة وحسابات القوة فيها.
من موقعه المؤثّر في الحياة العامة الفرنسية، لم يتردّد ليفي في تبنّي الموقف ذاته في بلدان عربية أخرى، من بينها سوريا وليبيا والسودان والسعودية. كانت دارفور، التي شهدت مآسي إنسانية مروّعة، أحد الملفات التي دخل عليها، لا بهدف طلب العدالة والمساواة وحساب المتورّطين بجرائم ضد الإنسانية، بل لتقسيم السودان وإضعافه في لعبة إعادة هندسة المنطقة من جديد.
هو رجل متعدّد الهويات المهنيّة، فيلسوف بلا أثر يُلهم، وصحافي بلا قضية تتعدّى حساباته العنصرية، وناشط سياسي يوظف مواقفه في اتّجاه واحد لا يتغيّر، إسرائيل وأمنها ومصالحها. هويته الدينية ليست قضية بذاتها.
هناك صحافيون ومفكّرون ينتسبون إلى الديانة اليهودية، لكنّ مواقفهم الأخلاقية والسياسية تضعهم على مستوى آخر وصعيد مختلف، مثل المفكر الأميركي الكبير نعوم تشوميسكي، بكتاباته ومواقفه الراديكالية، والصحافي الأميركي الاستقصائي الأشهر سيمور هيرش الذي كشف المشروع النووي الإسرائيلي وخطط الحرب على إيران، والصحافي الفرنسي الراحل إريك رولو الذي دافع عن القضية الفلسطينية واقترب من جمال عبد الناصر وصادق ياسر عرفات.
لماذا يعود الآن الصهيوني البغيض؟ لا يعقل أنّه جاء لمهمّة صحافية تستقصي حقيقة المقابر الجماعية في ترهونة؟ ولا يعقل أنّ ترتيبات الزيارة، التي حظيت بحماية أمنية مشدّدة وتسهيلات كاملة لدخوله وخروجه بطائرة خاصة، جرت بغير إرادة «حكومة الوفاق»، إلّا إذا كانت صراعاتها الداخلية قد استحكمت وتكاد أن تنفجر.
تبرّؤ «حكومة الوفاق» من الزيارة التي تولّى وزير داخليتها القوي ترتيباتها، تعبير صريح عن عمق أزمتها الداخلية وقدر ما يمثله ليفي من قبح سياسي ينال من أيّ موقف وكل قضية. بالنظر إلى خلفياته وأدواره في السراديب المعتّمة، فإنّ عودته إلى المسرح الليبي تكشف أين تقف إسرائيل في الصراع الدائر، الذي ربما تفلت حساباته إلى حرب إقليمية مباشرة بين مصر وتركيا، إذا ما جرى تجاوز خط سرت الجفرة.
باليقين فإنها ليست مع مصر. رغم معاهدة السلام المصرية ــــــــ الإسرائيلية، والعلاقات الرسمية الممتدّة بلا توترات كبيرة، تدرك إسرائيل أن مصر القوية خطر وجوديّ عليها وأن إضعافها وإنهاكها توجّه ثابت. رغم التوترات الإعلامية التركية ـــــــ الإسرائيلية من حين إلى آخر، إلّا أنّ العلاقات العسكرية والسياحية والتجارية شبه مستقرّة.
تحت سطح الزيارة، هناك إشارات ورسائل وألعاب استخبارات لم تتكشّف حقائقها حتى الآن، ولا مدى ضلوع أطراف دولية وإقليمية في ترتيبها.
إذا ما ثبت أن القوات الأميركية المتمركزة حول ليبيا ـــــ «أفريكوم» ــــــ التي دأبت على الحوار مع وزير داخلية «الوفاق» فتحي باشاغا، سهّلت المهمّة ورتبت لها، فإنّنا أمام انقلابات محتملة في المشهد الليبي داخل حكومة الوفاق. هذه فرضية أولى.
وإذا ما ثبت أنّ الزيارة بأهدافها وترتيباتها جرت من خلف قصر «الإليزيه» والاستخبارات الفرنسية، فإننا أمام أزمة قد تتفاقم بين حلفاء مفترضين. هذه فرضية ثانية.
وإذا ما ثبت تورّط الاستخبارات التركية في الترتيب للزيارة، فإنّه استدعاء مفتوح لدورٍ إسرائيلي للضغط على الإدارة الأميركية المقبلة لتوفير غطاء سياسي واستراتيجي للمغامرات التركية في شرق المتوسط وداخل ليبيا. هذه فرضية ثالثة. بكلّ الحسابات والفرضيات، فإنّ عودة الصهيوني البغيض تؤشّر إلى شيء ما جديد في الأزمة الليبية يُرتَّب في الظلام.

* كاتب وصحافي مصري