قد يكون لزاماً للولوج إلى محاولة تهدف لتفسير هذه النزعة عودة تبدو أكثر من ضرورية إلى تاريخ يبدو بعيداً جداً، لكنّه لا يزال يغوص عميقاً في الذات الجماعية لشعوب المنطقة، ومنها بالتأكيد دول الخليج. ولا بديل عن تلك العودة، لفهم هذا النشاط الذي تشهده دروب هذه الأخيرة التي تصلها بـ«مستقر» كان العرب حتى الأمس القريب، قد أجمعوا على توصيفه بـ«سرطان» تهدِّد خلاياه النشطة بفتك خلايا هذا النسيج العربي المُنهك أصلاً بالعديد من الأمراض والعلل المزمنة. و على الرغم من أنّ تلك الدروب لم تنقطع ما بين هذا «المنبع» وبين ذاك «المستقر»، منذ أن أضحى تشخيص المرض واقعاً في أيار / مايو من عام 1948، لكنّ تلك الحركة كانت قد اتّخذت، أخيراً، طابعاً علنياً، بل وحثيثاً، بدا كأنّه لم يعد يضع في اعتباراته حسابات الشارِعين المحلّي والعربي. ويعدّ ذلك مؤشّراً أقرب لأن يستدل به على تمزّقٍ إضافي في الهوية العربية، مضافاً إلى تمزّقاتها السابقة، وتراجعاً للمد القومي العروبي الذي يصحّ وضعه اليوم في المرتبة الثالثة، من حيث تأثيره، في تراتبيّة القوى، بعد المدّين الليبرالي والإسلامي. كُتب تاريخ المنطقة على امتداد آلاف السنين، من خلال الحراك المتبادل ــــــ الذي ظلّ نشطاً وهو لم ينقطع منذ القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد ــــــ ما بين شعوب بلاد الرافدين وبلاد الشام من جهة، وبين شعب وادي النيل من جهة أخرى، في حين لم يكن هناك أي إسهام حقيقي لشعوب شبه الجزيرة العربية في كتابته، إلّا بعد ظهور الإسلام في هذه الجغرافيا الأخيرة، مطلع القرن السابع الميلادي، بعدما استطاع هذا الأخير أن يشكّل مصهرة ناجعة جبّت تجارب الماضي لشعوب المنطقة، واضعة إياها في قوالب نشطة تمتلك قدراً كبيراً من الحيوية والدفع الذاتي، ومن خلالها كانت الاستطاعة الثانية في بناء إمبراطورية مترامية الأطراف وصلت إلى أقاصي آسيا في الشرق، ثم طرقت أوروبا في عمقها الفرنسي والإسباني. لكن ذلك لم يحدث إلا بعد فتح سوريا والعراق، الأمر الذي أعطى للمرة الأولى طموحاً مشروعاً يرقى إلى العالمية لدى حملة رسالة الدين الجديد. ولم تكن مصادفة أن تقوم دولتاه الأبرز (الأموية والعباسية) في تينك الجغرافيّتين الأخيرتين، حيث كان هذا الفعل الأخير تعبيراً عن نجاح تلاقح الفكر الجديد مع الثقل الحضاري للشعوب، التي كانت قد اجترحت على أراضيها حضارات عديدة. والأهم، هو أنّ أنفاس هذه الأخيرة كانت آنذاك ــــــ ثم استمرت ولا تزال ـــــــ محسوسة في ذاتها الجماعية الراهنة، مع تسجيل نقطة مهمّة هنا تتمثل في أن تلك المحاولة، أي محاولة استعادة الجناحَين العراقي والشامي اللازمَين لتحليق جغرافيا شبه الجزيرة العربية، كانت قد تكرّرت مطلع القرن العشرين، عبر تربّع الملك فيصل ابن شريف مكّة، حسين بن علي، على عرش دمشق 1918 ـــــــ 1920، ومن ثم تربّعه على عرش العراق قبل أن يسقط ذلك العرش، في ثورة تموز / يوليو 1958.
ما انفكّت التقارير التي تكاثفت في الآونة الأخيرة، تشير وترصد نشاطاً واضحاً في عمل القنوات الواصلة ما بين شبه الجزيرة العربية بثقلها السعودي وإماراتها الخمس الباقية بدرجات متفاوتة، وبين تل أبيب التي راحت تفاخِر بأنّ الاختراقات الحاصلة عبر ذلك النشاط باتت كبيرة، ثمّ تضيف أنّ ما ترصده منها أضواء الإعلام، لا يشكّل سوى نزرٍ يسير غير كافٍ لإيضاح الصورة. ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، في هذا الردح الإسرائيلي غير مبهم الغايات، بل والراجح أنّ له ما يبرّره وفق معطيات عديدة. ولفهم هذه الظاهرة، لا بدّ من العودة ــــــ أيضاً ـــــــ إلى جذور الصراع الدائر منذ عام 1948، بعيد انعطافتَي تموز / يوليو في سوريا عام 1920، والعراق عام 1958، وعلاقة دول الخليج به بكلّ ما حمله من تراكمات تاريخية سابقة الذكر، وعلى وجه التحديد المملكة السعودية، حيث إنّ الإمارات الخمس لم تكن قائمة إبان نشوب الصراع في بداياته، وهي لم تتّخذ صورتها الراهنة إلا منذ مطلع السبعينيات، حيث سيبرز عامل التمدّد الخارجي لديها بوضوح منذ ما يزيد قليلاً على عقد من الزمن. والمؤكد هو أنّ تلك النزعة كانت قد جاءت بفعل عاملَين اثنين، أولهما حالة احتياج خارجية لتهميش دور المملكة السعودية، وثانيهما هو أكداس المال التي راكمتها تلك الإمارات، ذلك أنه من الثابت القول إنّ هذه الأخيرة تعتبر أكبر مولّدات القوة، وخصوصاً إذا ما أحسن «مشغّلوها» لعبة الاستظلال برداءات خارجٍ يمضي إلى تفعيل واجتراح توازنات تحسّن من مواقعه وتلبّي بشكل أكثر كفاءة الدور، وتحقق مصالحه في منطقة لا تزال تمثل حتى اللحظة رقعة بالغة الحساسية من نواح عدّة.
قامت دولة الاحتلال الإسرائيلي، بعد 39 شهراً من لقاء فرانكلين روزفلت العائد من يالطا مع الملك الراحل عبد العزيز آل سعود. واللقاء الذي حظي ـــــــ ولا يزال ــــــــ بالكثير من البحث والتمحيص، كان قد خلص إلى مقايضة مفادها ضمان أميركي لاستقرار المملكة وثبات عرش آل سعود على سدة السلطة فيها، في مقابل تقاسم النفط ومعه رسم لسقوف السياسات التي تتبنّاها الرياض في أي أزمة راهنة ـــــــ أو لاحقة ــــــ بعدما كانت تباشير الحرب الباردة قد بانت ملامحها وإن بشكل غير واضح كلياً. ومن المؤكد أنّ كلّ السياسات التي تبنّتها هذه الأخيرة، ما بعد هذا اللقاء الذي حدث في شباط / فبراير 1945 على متن الطراد «كوينسي»، لم تخرج عن التوافقات التي أرساها آنذاك، حتى حينما اتخذ الملك فيصل بن عبد العزيز قراره الشهير بحظر تصدير النفط إلى الغرب دعماً ـــــــ كما قيل ـــــــ للقاهرة ودمشق، في أعقاب نشوب حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973.
يروي الراحل محمد حسنين هيكل في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ»، أنّ اجتماعاً للدول الصناعية الغربية كان قد انعقد في باريس في أعقاب ارتفاع أسعار النفط ــــــ الذي اعتُبر جنونياً آنذاك ــــــ على مستوى وزراء الخارجية. وفي ذلك الاجتماع ــــــ وفق الرواية نفسها ــــــ جرت مشادة كلامية حادّة بين وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر، ونظيره الفرنسي ميشال جوبير، الذي قال للأول: «خل، هل تظنّون أننا لا نعرف أنكم أنتم من تقفون وراء ارتفاع أسعار النفط الحاصل، وأنّ فائض رأس المال الناجم عنه سوف يذهب إلى جيوبكم؟»، فأجابه كيسنجر بازدراء بالغ اللكنة: «أنا لا يهمّني ما تعرفون وما لا تعرفون، نحن ساعدناكم ما بعد الحرب ــــــ يقصد الحرب العالمية الثانية ـــــــ للنهوض باقتصاداتكم، لكنّكم أصبحتم منافساً أكبر لنا، وما يجب أن تدركوه هو أنّ مشروع مارشال ــــــ يقصد مشروع إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب ــــــ قد انتهى». ومن الممكن تدعيم هذه الفكرة السابقة بتصريحات لحمد بن جاسم، رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري السابق، كان قد أدلى بها لصحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، في لقاء مطوّل معها نشرته في نيسان / أبريل من عام 2016، قال فيه بالحرف: «لم تكن هناك سياسات نفطية خاصة بدول الخليج في خلال العقود الماضية، فقط كانت هناك إملاءات أميركية تُنفذ في هذا السياق».
على مرّ المراحل التي شهدها الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي، كانت المملكة السعودية تتخذ مواقفها منه في موضع هو أقرب لأن يكون في عُشر المسطرة الأخير المنزاح نحو كفّة الموقفَين الأميركي والإسرائيلي. فهي أيّدت زيارة السادات إلى القدس، في تشرين الأول / أكتوبر 1977، إلّا أن موقفها الرافض لذلك المسار في ما بعد، كان مردّه إلى تمرّد هذا الأخير على الرياض، بعدما ظنّ أنه حظي بـ«الجنة» الأميركية. وفي القراءة السعودية، تأكّد لدى صانع القرار أنّ السادات عمد إلى استخدامها كـ«عبّارة» ــــــ عبّارة وليس جسراً ــــــ للمرور إلى تلك الجنّة، وحينما تحقّق له ما أراد انتفت حالة الاحتياج إلى تلك العبّارة. ثمّ تأكّد لاحقاً لذلك الصانع، أنّ السادات قد قرّر حرق مراكبه في سلوك لا يضع في اعتباراته التفكير بسلوك طريق العودة، ما عنى آنذاك انعدام الحاجة إلى «العبّارة» مرة ثانية. هي أيضاً أيّدت «اتفاق أوسلو»، في أيلول / سبتمبر 1993، الذي يصحّ توصيفه اليوم بأنه الخطوة الأكثر فاعلية في تصفية القضية الفلسطينية. ثم حرّضت وأيّدت عدوان تموز / يوليو 2006 على لبنان، بل مضت بعدها إلى تصنيف حزب الله «تنظيماً إرهابياً» على لوائحها، شأن ما فعلته مع حركَتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» الفلسطينيتين. والمؤكد أنّ المهام الموكلة إليها راهناً، هي تعبيد الطرقات الموصلة إلى «صفقة القرن»، الموضوعة على نار حامية هذه الأيام، ومن الممكن الجزم بأن تلك الصفقة ما كان لها أن تُطرح أساساً، من دون وجود ضوء أخضر سعودي، وربما مصري أيضاً ــــــ أُعطي منذ زمن لاعتبارات تتعلّق بالدرجة الأولى باستقرار العرش وسلاسة انتقال السلطة، التي ستعبر للمرة الأولى إلى جيل الأحفاد الذي يجد نفسه غير ذي علاقة بجذور الصراع، بل بمخرجاته التي اجترحتها الأحداث.
على مرّ المراحل التي شهدها الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي كانت السعودية تتخذ مواقفها منه في موضع هو أقرب لكفّة الموقفَين الأميركي والإسرائيلي


وفق هذه السياقات الأخيرة، يمكن الوصول إلى نتيجة مفادها أنّ دول الخليج، وعلى رأسها المملكة السعودية، لم تكن تمثّل في يوم من الأيام رقماً مهماً ــــــ أو فاعلاً ــــــ في معادلات الصراع العربي ــــــ الإسرائيلي، هذا إن لم يكن يصحّ تصنيفها هنا بأنها كانت تمثّل رجحاناً لهذه الضفة الأخيرة في مواجهة الأولى، وهو أمر حتّمته طبيعة الأنظمة القائمة فيها وارتباطها العضوي بقرار الغرب. لذا، فإنّ مسارات التطبيع النشطة ما بين تلك الأنظمة وبين تل أبيب، ستكون ذات أثر معنوي بالدرجة الأولى على المدى القصير، من شأنه فقط أن يفقد الصراع الدائر بعده العربي الشمولي، الذي كان يحظى به في المراحل السابقة. ولعلنا نجد أنفسنا، هنا، مضطرّين إلى نكء جرح قديم لم يندمل بعد، برغم مرور ما يقرب من نصف قرن عليه.
منذ منتصف الستينيات من القرن الماضي فصاعداً، راجت دعوات في العديد من دول الطوق والدول الداعمة لها، مثل الجزائر وليبيا، مفادها أنّ الصراع الدائر مع إسرائيل لا يمكن فصله عن صراع يجب أن يدور مع الأنظمة «الرجعية» التي تمثل دول الخليج عمقها الإستراتيجي. كانت أولى حالات التبنّي لتلك الدعوات قد جاءت من دمشق صلاح جديد، وبدرجة أقل قاهرة جمال عبد الناصر، قبل أن تتغيّر الرياح بدءاً من خريف عام 1970، لتسود بدلاً عنها نظريات تدعو إلى التضامن العربي وضرورة حشد كلّ الطاقات في معركة المصير الذي يتهدّد الوجود. اليوم، بعد مضي ما يزيد على نصف قرن، بات من الجائز النظر إلى ذلك الرهان على أنّه كان رهاناً خاطئاً يستحضر إمكان حدوث تحوّلات جذرية في مواقف تلك الأنظمة، ويغيب عنه ارتباط هذه
الأخيرة بحبل مشيمة عضوي مع الغرب لا فكاك له. وفي معادلات الميدان، تبقى القاعدة الأساس القائلة إنّ جندياً واحداً يرابط في صفوفك الأمامية ــــــ أو الخلفية ــــــ قادر على أن يفعل أكثر ممّا تفعله كتيبة ترابط على ضفة الخندق المعادي إذا ما كان موقفه ــــــ أي موقف ذلك الجندي ـــــــ مشوباً بميلٍ نحو هذا الأخير.
نحن هنا لا نريد التخفيف من تبعات هكذا مسار يبدو استراتيجياً لكل دول الخليج، لكونه يرتبط عضوياً باستمرار أنظمتها واستقرارها، وخصوصاً في المملكة التي تعيش تحوّلات مجتمعية تطاول المزاج العام بكل مندرجاته، وتطاول أيضاً المؤسسة الدينية وفكرها الذي تتبنّاه في هذه المسألة، وهو يشمل ــــــ في ما يشمل ــــــ نسفاً تدريجياً لإرثَي ابن عيثيمين وابن باز، اللذين قالا بتكفير من يصالح اليهود، خشية تكرار ما فعله فقه عمر عبد الرحمن في مصر، والذي قاد إلى حادثة المنصّة الشهيرة تشرين الأول / أكتوبر 1981. فمن المؤكد أنّ تلك التبعات ستكون شديدة الخطورة على المدى الطويل، انطلاقاً من أنّ شظاياها ستصيب بالدرجة الأولى مفهوم العروبة الضرورية لبقاء شعوبها، وكذا لتحديد الهوية الحضارية لتلك الشعوب، وخصوصاً أنّ ذلك يحدث في ظلّ موازين قوى هشّة استولدتها أحداث «الربيع العربي»، وهي لم تنقض فصولها التي لا تزال متتالية من التهتك بعد؛ لكننا نريد القول إنّ مساراً كهذا لن يغيّر كثيراً من معادلات الصراع القائمة على المدى القريب.
كخلاصة، يمكن القول إنّ دول الخليج تبدو اليوم أقرب إلى وضع نفسها خارج دائرة الصراع المحتدم في المنطقة، عبر خروجها عن التناقض الأساس الناظم لحركة ونهوض هذه الأخيرة، والذي يتمثّل في التصدي للهجمة الغربية الشرسة التي تتعرّض لها والتي تستهدف هويتها ووجودها. قد تنجح تلك الدول عبر الضغط على قواها الاجتماعية والاقتصادية، بغرض قولبتها لتوائم ضغوط الغرب التي تجد نفسها لا قبل لها بمواجهتها، إلّا أنّ ذلك سيكون في المراحل المقبلة، على المديَين المتوسط والبعيد، فعلاً شديد الخطورة عليها. فلطالما أدّى فصل الجماعات البشرية عن الجغرافيا ــــــ كما تقول تجارب التاريخ ــــــ إلى فقدان هذه الأخيرة لمناعتها، في حين أنّ فصلها ــــــ أي فصل تلك الجماعات ــــــ عن التاريخ، سيؤدّي بها إلى التيه بنتيجة فقدانها للبوصلة التي ترشدها على الدوام إلى صوابية المسير والمسار.

* كاتب سوري